محمد قواص: /الشراكة الإسلامية المسيحية ترياق لإشكالية لبنان/اميل خوري: عون وفرنجية مسؤولان عن استمرار الشغور لأن حضور أيّ منهما يؤمن نصاب الجلسة

219

الشراكة الإسلامية المسيحية ترياق لإشكالية لبنان
محمد قواص/العرب/25 آذار/16

لم يكن غريبا أن يتبوأ الدكتور فارس سعيد منصب المنسّق العام لقوى 14 آذار في لبنان، ذلك أن في الرجل ما يجعله نقطة تقاطع تمثّل الذروة التي وصل إليها الحراك الذي أنتجه حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وربما أن سعيد نفسه كان يحتفي من خلال قبوله بتلك المسؤولية بإنجازٍ لم يكن يتصوّر الوصول إليه، منذ أن كان الخطاب السيادي الاستقلالي مسيحي الهوى، وليس مسموحا بأن تتمدد عدواه إلى الطرف المسلم في البلد.
وفي مكتبه داخل مقر الأمانة العامة لقوى 14 آذار، في حيّ الأشرفية ببيروت يذكّر “كان ممنوعا علينا أيام الوصاية السورية أن نتواصل مع الشريك المسلم، وكان مقبولا أن يبقى اعتراضنا على الوجود السوري مسيحي الحدود والآفاق”.
يُسهب سعيد في الحديث عن 14 آذار بصفته ظاهرة لافتة في عبورها للطوائف. يتذكّر أنه قبل أحداث عام 1958 (المتعلقة في شقّها الإقليمي بالصراع حول ‘حلف بغداد’)، كانت تتزعم لبنان شخصيتان مارونيتان، بشارة الخوري وأميل إده.
كانت المشارب السياسية لا طائفية منقسمة بين “الكتلة الدستورية” و”الكتلة الوطنية” وكانت المكوّنات السياسية اللبنانية غير المسيحية موزعة بين الكتلتين المتنافستين. اندثرت التجربة اللاطائفية بعد تلك الأحداث وتمترست الطوائف خلف أحزابها، إلا تلك اليسارية التي نجحت في اختراق الطوائف، وقد وجد الشيعة والدروز ملاذا داخلها كردّ فعل آلي على الثنائية المارونية السنية.
يؤمن فارس سعيد بالشراكة الإسلامية المسيحية ترياقا لإشكالية الكيان اللبناني. ليس في ذلك الرأي نزوع نحو طهرانية طوباوية، بل هي قناعة موضوعية متّسقة مع فكرة لبنان الذي أراده المسيحيون الأُول، ذلك أنهم في بدايات التشكّل الأولى كان لهم ما لم تردهُ القوى الكبرى. رفضوا عرضا لقيام كيان مسيحي صغير خاص بهم، وراحوا باتجاه “لبنان الكبير” بمسلميه ومسيحييه على النحو الذي يغالب اللبنانيون غيرهم وأنفسهم لصيانته وبقائه، كلٌ على هواه وبحسب طريقته.
بات لبنان ضرورة للبنانييه، كانت أغلبية المسيحيين تميل نحو البقاء في ظل الانتداب الفرنسي، وكانت غالبية المسلمين تميل نحو الوحدة مع سوريا، غير أن أقلية من الطائفتين ارتأت استقلال لبنان، وبات اللبنانيون أسيري لبنانهم. يروي فارس سعيد أنه بعد مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، كان لبنان بكل أطيافه ينتظر موقف صائب سلام. رفض الزعيم السني تحميل أي طرف لبناني مسؤولية المجزرة، واتهم إسرائيل بالوقوف وراءها، ما أدى إلى استمرار الصيغة اللبنانية وإعادة إنتاج السلطة وديمومة الدولة، وهو “موقف يُسجل للرئيس صائب سلام”.
رفض صائب سلام تحميل مجزرة صبرا وشاتيلا لطرف لبناني، أنقذ صيغة لبنان وبقائه
ويعبّر عن وعي بضرورة التمسك بالصيغة اللبنانية وتجاوز عثراتها. يلاحظ سعيد أن كمال جنبلاط في “تعامله مع أبوعمار حافظ على هامش لبناني مستقل وأن بشير الجميل تعامل مع الإسرائيليين وحافظ على هامش لبناني مستقل، وربما لذلك تم قتلهما”.
تحالف الأقليات
يرفضُ فارس سعيد نظرية تحالف الأقليات التي راجت في حقب سابقة وتروج هذه الأيام للوقوف بوجه الغالبية السنية في المنطقة، حيث يقول “هذا تماما ما كانت تدعو إليه إسرائيل. وإذا ما كان لإسرائيل خيارها في رفع الجدران مع المنطقة كونها لحظة طارئة غريبة عن نسيج وخيار المنطقة، فإن ذلك لا ينطبق على المسيحيين”، وهم من صلب حضارتها وأصل في تكوّنها الثقافي واللغوي والسياسي والاقتصادي. ويروي فارس سعيد أن مؤتمرا للكنائس المسيحية (7 كنائس بما فيها الكنيسة المارونية في لبنان) عقد في الولايات المتحدة عام 2014 مطالبا واشنطن باستصدار قرارات من الشرعية الدولية للالتزام بحماية المسيحيين في الشرق.
لم يهتم الرئيس باراك أوباما كثيرا بذلك الضجيج، وأرسل لهم تيد كروز، وهو أحد شيوخ الكونغرس القريبين من الصهيونية العالمية، يحادثهم على عشاء متفهما هواجسهم.
قال ما معناه إن خطابكم المنطلق من كونكم أقليات تحتاج لحماية داخل تلك الأغلبية يتّسق تماما مع رؤى إسرائيل وحججها فلماذا لا تشكلون تحالفا في ما بينكما؟ عاد الوفد من واشنطن وقد وصلته مؤشرات ما قد يذهب إليه حراكهم، وربما بقناعة أن زرعهم لا يحصد الثمار المتوخاة.
يفهم فارس سعيد هواجس المسيحيين، وهي هواجسه أيضا، كونه مسيحيا مارونيا مدافعا عن المسيحيين وجودا ملتصقا بحكاية لبنان وفلسفة وجوده.
يرفض الرجل سوابق الاتكال على الغرب في تحري الحماية للمسيحيين، وقد ثبت أن هذا الغرب غير معني بذلك، ولم يعد الأمر مادة للإطلالة من خلالها على الشرق. ويرفض سعيد أيضا إعادة اجترار تجارب التسلّح والدفاع الذاتي عما شهدته محطات كانت أخطرها الحرب الأهلية 1975-1990، والتي فشلت بالتجربة في صون المسيحيين وحمايتهم.
سعيد: فريق 14 آذار، عرض تاريخي كان يمكن للبنان أن ينتقل من خلاله من طور إلى آخر
ويرى سعيد أن الترياق الوحيد يكمن في التمسك بالدولة والقانون حاميا وحيدا لكل اللبنانيين، بما فيهم المسيحيون.
لا يبدو أن الرجل يغرف من زاد نظري، ذلك أنه ميداني ممارس للسياسة بالمعنى التفصيلي اليومي. يعرف لغة الأحجام وموازين القوى ويدرك ظرفية اللحظات التاريخية وعرضيتها. 14 آذار عرض تاريخي كان يمكن للبنان أن ينتقل من خلاله من طور إلى آخر، لكن البلد الصغير ليس هو من يصنع تاريخه. لم يستطع 14 آذار عام 2005 الذهاب بعيدا في طموحاته، كانت هناك دعوات للإطاحة برئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود، لكن البيئة الدولية الإقليمية كانت رادعة.
يروي فارس سعيد أن الولايات المتحدة، وبطلب من النظام العربي، لم تكن موافقة على خطوة من هذا النوع، وأن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط استطلع الأمر من رئيس المخابرات المصرية آنذاك اللواء عمرو سليمان.
كان جواب سليمان واضحا برفض الأمر، ذلك أن النظام العربي كان يرى في سابقة الإطاحة برئيس عربي مفاعيل عدوى عابرة للحدود، وهذا ما حصل لاحقا مع اندلاع الربيع العربي.
يلفت فارس سعيد إلى أن وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، حين جاء إلى بيروت معزيا باغتيال الرئيس رفيق الحريري تحدّث عن لجنة تحقيق عربية، فيما كان الكلام يعلو باتجاه تلك الدولية. بدا أن النظام العربي كان مكتفيا بمفاعيل الاغتيال من حيث أنها أدت إلى خروج الجيش السوري من لبنان، دون أن تذهب أكثر من ذلك ضد نظام بشار الأسد في دمشق.
ذهب فريق 14 آذار باتجاه التحالف الرباعي، اعتقادا من الكتل الأساسية فيه بضرورة ضم الطائفة الشيعية التي تقودها الثنائية الشيعية (حزب الله وحركة أمل)، إلى مشروع الدولة والاستقلال وبضرورة إنجاح تجربة نجاح اللبنانيين في إدارة شؤون بلدهم دون الوصاية السورية.
وعما إذا كان نادما على هذا الخيار، ينفي فارس سعيد أي ندم، ويضيف “أساسا لم يكن هناك خيار آخر”، وكان يرى أنها فرصة للبننة حزب الله، من خلال مشاركته لأول مرة في حكومة لبنانية قادها فؤاد السنيورة.
الشقاق الداخلي
لم تبدأ تصدّعات 14 آذار من المفاصل الحديثة التي أنتجها ترشيح الرئيس سعد الحريري للوزير سليمان فرنجية وترشيح الدكتور سمير جعجع للجنرال ميشال عون. يلاحظ فارس سعيد أن صدمة 7 أيار زرعت البذور الأولى للشقاق الداخلي. ويرى أن وليد جنبلاط اعتبر أنه تم الاستفراد به وتركه في المواجهة وحيدا بعد انهيار دفاعات السنّة وتواضع الموقف المسيحي (إلا من بيان صدر عن جعجع) إزاء حجم الهجمة وخطورة مآلاتها. لم ينهر التحالف وعملت ديناميات داخلية قادها فارس سعيد على استيعاب الضربة وهضم مفاعيلها وإعادة تصليب الخطاب السيادي الاستقلالي للائتلاف.
على المسيحيين الدفاع عن اعتدال المسيحيين والمسلمين من أجل إنشاء الدولة المدنية وربطها بالحداثة وقوى الاعتدال في العالم.
لا يبدو فارس سعيد مقتنعا بالحلف الجديد بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ. يرى في ذلك ثنائية تشبه تلك الثنائية التي تحكم الشيعة. ذلك أن اتفاق الطرفين هو “استعارة لهذا النهج وأنه مقابل نشوء قبيلة اسمها المسلمون يتم إنشاء قبيلة اسمها المسحيون”، والمخاوف من هذا الأمر تكمن في أنه “إذا ربحت هذه القيادة السياسية تربح وحدها وبخسارتها ستخسر كل الطائفة”.
يمثّل فارس سعيد الكتلة النواة لـ 14 آذار بصفتها مشروعا وطنيا سياسيا. يرعى مقر الأمانة العامة في منطقة الأشرفية في بيروت الكتل والتيارات والشخصيات التي تتحرك خارج حدود الأحزاب وحساباتها.
يتفهّم الرجل أن السياسة ليست خطبا أخلاقية فقط، بل هي فن إدارة المنافع والمصالح أيضا، بيد أن الانزلاق نحو سلوك التحاصص والتموّضع على ما أفرج عنه خياريّ الحريري وجعجع لترشيح قطبي 8 آذار، أحدث زلزالا بنيويا داخل صفوف المعسكر السيادي دون أن يلوح من قبل كل مشارب هذا التيار ما يفيد انتهاء صلاحيته، ذلك أن الجميع يحتاج إلى سقفه مرجعا لشرعيات مكوناته وديمومة خطابها.
يعترف فارس سعيد بأن الخلاف السني الشيعي مقلق وأن للمسيحيين دورا لا يستطيع أن يلعبه إلا المسيحيون. ويرى أنه “مقابل ما هو معروض على المسلمين من قيام لدولة الخلافة أو دولة الولي الفقيه”، على المسيحيين الدفاع عن اعتدال المسيحيين والمسلمين من أجل إنشاء الدولة المدنية وربطها بالحداثة وقوى الاعتدال في العالم. فالحكاية اللبنانية إسلامية مسيحية يؤمن بها كمسيحي ويؤمن بها كمؤتمن على “14 آذار”.
يخشى فارس سعيد من “حرب باردة” بين اللبنانيين إذا ما اختفى المشترك الذي جمعهم تحت سقف الحراك السيادي، لكنه، ورغم ما يتسرّب من خطابه عن خيبة من مآلات ما وصل إليه حال “14 آذار” ما يزال مؤمنا بضرورات هذا المشترك وحتمية استنهاضه.

عون وفرنجية مسؤولان عن استمرار الشغور لأن حضور أيّ منهما يؤمن نصاب الجلسة
اميل خوري/النهار/25 آذار 2016
بعد مرور سنتين تقريباً على الشغور الرئاسي وشهرين على ترشيح العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية للرئاسة، صار من حق الناس معرفة من المسؤول عن استمرار أزمة الانتخابات الرئاسية. يمكن القول إن المسؤولين هم النواب المستمرون في مقاطعة جلسات الانتخاب من دون عذر مشروع، ولا سيما النواب الموارنة وعلى رأسهم العماد عون والنائب فرنجية لأن مجرد حضور أي منهما الجلسة مع نوابهما يكمل النصاب وتجرى الانتخابات، لكنهما، ويا للأسف، ينتظران كلمة “حزب الله” والحزب ينتظر كلمة إيران وإيران تنتظر معرفة حصتها عند تقاسم النفوذ في المنطقة. الواقع أن أمام عون وفرنجية من الآن حتى آخر شهر نيسان أو آخر شهر أيار حداً أقصى لاتخاذ القرارات التي يمليها عليهما الواجب الوطني ومصلحة لبنان العليا وقد باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى بالخطر اذا ظل لبنان بلا رأس وعصفت به الرياح التي تعصف بالمنطقة ولا سيما من نافذة الشغور الرئاسي. لذلك على العماد عون أن يقرر النزول الى مجلس النواب لينافس المرشح فرنجية على الرئاسة الأولى إذا لم يحصل اتفاق على أن ينسحب أحدهما للآخر ويرضخ لما تقرره الأكثرية النيابية، وهو ما نص عليه الدستور، وليس للأكثرية الشعبية. واذا كان عون يعتبر أن مجلس النواب هو غير شرعي بعد التمديد له ولا يمثل إرادة الشعب تمثيلاً صحيحاً، فما عليه سوى سحب ترشيحه للرئاسة ليكون منسجماً مع نفسه، ومن حقه عندئذ أن يحتكم الى الشارع ويظهر قوته الشعبية، فإما يعطّل الانتخابات الرئاسية أو يواجه انتخاب رئيس يعرف كيف يهدئ الشارع، وعندها يجد نفسه وحيداً لأن “القوات اللبنانية” لن تكون معه لأنها أيّدت التمديد لمجلس النواب وتعترف بشرعيته، ولن يكون معه أيضاً “حزب الله” بل يتفرج عليه لأنه هو أيضاً وافق على التمديد للمجلس خلافاً لمواقف عون ونوابه. وعلى المرشح فرنجية أن يقرر النزول مع نوابه الى المجلس لأن الجلسة يكتمل نصابها بحضوره وحضور مؤيديه حتى وإن استمر “حزب الله” أو العماد عون في مقاطعتها، فإذا انتخب رئيساً للجمهورية فليس في استطاعة العماد عون أو سواه القول بأن لا شعبية له أو أن انتخابه غير ميثاقي بالمفهوم المصلحي، ذلك أن “الميثاقية” لا تعني أن تتمثل الطائفة أو المذهب بالأكثر شعبية بدليل أن مرشحين فازوا بالرئاسة الأولى وهم أقل شعبية وتمثيلاً من سواهم، والحكومات تتألف تارة من أقطاب ومن الصف الأول وتارة أخرى من الصف الثاني وحتى الثالث. فـ”الميثاقية” ليست بحجم كل طائفة أو مذهب إنما بحق تمثيلها وفقاً للظروف والمعطيات. إن المرشح فرنجية إذا لم يقدم على ذلك وظل ينتظر “حزب الله” والحزب ينتظر إيران، فإن دقة المرحلة التي يمرّ بها لبنان لم تعد تسمح بالانتظار الطويل، في حين أن المفاجآت والتحديات تنتظره عند كل كوع. وعلى الأقطاب الموارنة، من جهة أخرى، إذا لم يحسموا أمرهم ويتفقوا على انتخاب رئيس للجمهورية ليكون من صنعهم أو يشاركون أقله في صنعه، فإنهم يتحملون مسؤولية تداعيات استمرار الشغور الرئاسي وليس سواهم الذين ما كانوا يتعاملون مع أعلى منصب في الدولة كما يتعاملون هم بخفة ولا مسؤولية، وهم الذين يكونون قد تخلوا عن دورهم في صنع الرئيس وتركوا للخارج المعني بالموضوع أن يصنعه برضاهم أو من دون رضاهم. وقد يجد العماد عون إذا ما أصر على تحريك الشارع أن الخارج اختار رئيساً يستطيع مواجهته فيصبح كل همّ عون إبعاد خصمه عن الرئاسة والقبول بأي رئيس كي يتخلص منه. لقد كرر الرئيس نبيه بري القول: “إن ثمرة الرئاسة الأولى قد نضجت”، فمن سيقطفها قبل أن تقع على الأرض ويأخذها أي مارٍ في الطريق… ويترك لبنان على قارعتها؟ فالعماد عون يعتقد أن طول انتظاره وهو فاتح فاه للرئاسة الأولى يجعل هذه الثمرة تسقط في فمه، لكنه لا يحسب حساباً للثمرة التي تسقط أحياناً من شدة الهريان ولا تعود تصلح للأكل… فليعجّل الأقطاب الموارنة في انتخاب رئيس يكون من صنعهم قبل أن يفرض عليهم الخارج رئيساً وإنْ مرفوضاً لأن الفراغ الشامل يذهب بلبنان الى الفوضى والمجهول.