جمال عبيدي: العداء الفارسي للعرب أساس تشكل الدولة الإيرانية/جـميل ضـاهر: ما بعد بعد ميشال سماحة/محمد قواص: إيران: لماذا هي انتخابات فوق العادة؟

216

العداء الفارسي للعرب أساس تشكل الدولة الإيرانية
جمال عبيدي /العرب/26 كانون الثاني/16

تزوير التاريخ
لندن – يرى المؤرخ والكاتب الإيراني الأرمني يراوند آبراهاميان “أن الإيراني يرى الوصول للثروة من خلال تدمير جاره”. هذا النوع من التفكير امتزج بالثقافة الفارسية الحالية، والمستمد من الأوهام التاريخية، فكلنا مازلنا نعاني منه، شعوبا وحكومات، في منطقة الشرق الأوسط، أي العالم العربي، وما نراه حالیا هو نتیجة حتمية لهذه الأوهام. في هذا السياق كان المؤرخ الإيراني أحمد كسروي (1945-1890) قد وصف إيران بـ “برميل من القذارة التي عمّت رائحتها العالم أجمع”. ما أراد كسروي إيصاله، هو حجم الكراهية الذي يضمره الفارسي تجاه الشعوب الأخرى القاطنة في جواره، خاصة العرب. وكسروي هو من أسس أول حركة سياسية اجتماعية في إيران تحت عنوان “باكديني” -أي الدين الطاهر- في تلك الفترة، وكان هدفها إيجاد هوية إيرانية علمانية جديدة بالمطلق، مبنية على العرق الفارسي والأوهام التاريخية. إذن، هذه أوهام الفرس التاريخية والثقافية التي أخذت في الكثير من الأحيان طابعا قوميا سياسيا، انعكست أيضا في بعض الأحيان سلبا على الشعوب القاطنة في جغرافية إيران السياسية الحالية، وأخرجتها من محيطها الطبيعي، وغالبا ما تكوّنت انتماءات هذه الشعوب، العرب والبلوش والأتراك والأكراد وغيرهم، خارج المركز الإيراني طهران.
البعد التاريخي والثقافي
لمعرفة الشخصية الفارسية الحالية، لابد من الخوض ولو جزئيا في البعد التاريخي والثقافي والسياسي والاجتماعي لإيران التي باتت عبئا على الإقليم كله. ولفهم حيثيات العقلية الفارسية في التفكير والتخطيط والتنفيذ، لابدّ من توضيح آليات نشوء إيران السياسي، الذي جاء بفعل تدخل خارجي مصلحي سياسي في بداية القرن الماضي. تؤكّد الدراسات التاريخية أن بلاد الفرس -الهضبة الفارسية الحالية- خضعت لحكم عدّة سلالات ذات طابع وخصوصية سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن بعضها البعض، وكان لها التأثير في بناء الشخصية الفارسية سلبا وإيجابا.
وتشير هذه الدراسات في مجملها، إلى أن الحقبة القاجارية هي من أهم الحقب في هذه البقعة التي عُرِفت قديما بـ “بلاد فارس”، ويطلق عليها اليوم أبناء الشعوب القاطنة فيها “جغرافية إيران السياسية”. وعليه، بعد ما اكتشف البريطانيون النفط في شمال الأحواز بين عامي 1909-1906، تغيّر وجه المنطقة كليا، بالتزامن مع صعود البلاشفة إلى السلطة في روسيا عام 1917، متطلِّعين إلى الوصول للمياه الدافئة في الخليج العربي، استنادا إلى وصية القيصر بطرس الأكبر “توغلوا حتى تبلغوا سواحل الخليج العربي، ومن ثم واصلوا السير نحو الهند. ومن هنا أتت الضرورة البريطانية آنذاك لإيجاد سد منيع يقف أمام دخول الروس للمستعمرات الإنكليزية، والذين تجمعهم مع الفرس القدامى والذين جاؤوا للهضبة الإيرانية الحالية -أي وسط جغرافيا إيران الحالية بالتحديد- من منطقة القوقاز (قبل 2500 عام)، مشتركات تاريخية وحدودية قد تُسهِّل وصولهم إلى منطقة الخليج العربي.
كان من الضروري لليهود في تلك الحقبة تسويق بعض أفكارهم التاريخية المزورة، وربطها بتاريخ المنطقة العربية
وكان على بريطانيا العظمى وقادتها آنذاك (بدايات القرن العشرين)، إيجاد دولة تؤمِّن لهم مصالحهم في المنطقة، رغم علاقاتهم الجيدة مع المحمرة عاصمة الأحواز، ومع عاصمة البلوش في تلك الفترة، والتي كانت تعرف بـ “بهره” وحالیا بـ “إيرانشهر”. حيث قدّم الدبلوماسي والمؤرخ “السير جان ملكم” أول سفير لبريطانيا في زمن حكومة “فتحعلي القاجار”، في كتابه “تاريخ إيران” عام 1813، نظرية جديدة للمرة الأولى عن إيران القديمة، حول “مركزية العرق الآري”، حتى يبرهن أن “الشعب الفارسي” شعب يختلف عن شعوب الشرق الأوسط، بل أفضلها، وكأنه “شعب الله المختار”. فيما سخّر البريطانيون الكثير من الموارد المادية والبشرية لإنشاء السلالة البهلوية، وكلفوا اردشيرجي ريبورتر الزرادشتي الهندي الأصل والعميل السري للمخابرات البريطانية في إيران بتنفيذ هذه المهمة، من خلال إعداد وتأهيل رضا ميربنج الذي أصبح شاه إيران في ما بعد.
ونلحظ هنا، التقاء المطامع الفارسية مع المصلحة البريطانية، وربما اليهودية أيضا، حيث حتّمت الضرورة على هذه الأطراف إيجاد بديل للواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي والديني السائد في جغرافية إيران آنذاك. فاحتُلت الأقاليم ذات الطابع التاريخي والقومي والثقافي والديني المختلف كليا عن بلاد فارس، الواحد تلو الآخر، وآخرها احتلال الأحواز وضمها لبلاد فارس، لتكون خاتمة الاحتلالات الفارسية- البريطانية في النصف الأول من القرن الماضي.
وللدلالة على هذا الواقع أعتقدُ، ولستُ جازما، ولنترك التدقيق والتفحص للمختصين في علوم التاريخ، بأنه يجب النظر في الأمرين التاليين كمدخل لفهم العلاقة الفارسية- اليهودية في تلك الحقبة والأهداف المرجوة منها، لا سيما تأثير مخرجاتها في العقلية الفارسية الحالية والتي باتت مزعجة جدا:
◄ أولا: فكرة أرض المعياد -أي موطن اليهود- والتي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث كانت فلسطين الخيار الأمثل لتمرير مخطط هرتزل لإيجاد الدولة اليهودية، التي سوّق لها في المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في بازل السويسرية في أغسطس عام 1897، وكان من الضروري للصهاينة في تلك الحقبة تسويق بعض أفكارهم التاريخية المزورة، وربطها بتاريخ المنطقة العربية، ليجدوا في الفرس القدامى ضالتهم، وكان لهم موطئ قدم في منطقتنا بدءا من احتلالهم لبابل على يد «قوروش» ملك الأخمينيين الفرس عام 538 قبل الميلاد، وانتهاء بالمزاعم التاريخية عن علاقة هذا الأخير باليهود ومساعدتهم في التخلص من “ظلم” البابليين آنذاك.
◄ ثانيا: ضرورة تغيير الواقع التاريخي والاجتماعي والديني والسياسي السائد للأقاليم التي ضُمَّت حديثا لجغرافية بلاد فارس، بواسطة احتلال عسكري قام به رضا مير بنج في الربع الأول من القرن الماضي.
الفرس اعتمدوا توصيات مشروع العميل السري للمخابرات البريطانية اردشير ريبورتر، لتحقيق الانصهار القومي
تغيير التاريخ
نتيجة لهذا الواقع الذي فرضته الظروف السياسية والمصلحية لصالح القومية الفارسية بدايات القرن الماضي، كان من الضروري أن يتم تغيير الواقع التاريخي للأقاليم المحتلة حديثا. وتتمة لإنشاء السلالة البهلوية وبناء الدولة الجديدة، التي من المفترض أن تؤمّن مصالح بريطانيا العظمى، حيث اعتمد الفرس توصيات مشروع العميل السري للمخابرات البريطانية الزرادشتي الهندي اردشير ريبورتر، لتحقيق الانصهار القومي في الجغرافيا والدولة الحديثتين، والذي سُمِّي في ذلك الوقت «دولت-ملت»، وكان الهدف منه بناء دولة جديدة وثقافة جديدة بالمطلق أساسها العرق الآري (Aryan race).
ومن هنا كان لابد للقادة الفرس في تلك الحقبة إيجاد مبررات تاريخية مادية، يعتمد عليها في كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي الجديد، ويستند إليها في آن واحد. وعليه يبدو أنه وفي بداية الأمر، كُلّف المستشرق اليهودي والمختص بعلم الآثار إرسنت اميل هرتسفلد، للعمل في ما سُمِّي بـ «مجموعة باساركاد وتخت جمشید الأثرية»، الواقعة في محافظة شيراز وسط إيران بين الأعوام -1923 1925، وبقي في طهران حتى عام 1934. إلا أنه رفض أن يساهم في تزوير المعطيات التي توصَّل إليها، فتمّ استبعاده عن المهمة، وأوكلت في ما بعد للمؤرخ والمختص بعلم الآثار اليهودي ديود أستروناخ (1964-1961) ليكمل مهمة التزوير المفترضة.
ودلالة على هذا التزوير الذي اعتُمِد كأساس في بناء الدولة والإنسان الفارسي، الدراسة التاريخية التي قام بها مكتب المرشد علي خامنئي، للبحث في جدلية الشخصية الأسطورية لـ «كوروش الكبير»، والتي تنظر في الحقائق التاريخية من خلال ما يُسمَّى بـ«مجموعة تخت جمشيد وباساركاد (بازغاد)الأثرية». وجاءت هذه الفكرة للمرشد الإيراني عندما ذهب إلى مدينة همدان الفارسية واطَّلع على حجم الكذب والتزوير الذي اعتُمِد في بداية القرن الماضي، لإظهار ملك الأخمينيين والبطل الذي لا يُقهَر أبدا، أي كوروش الكبير، والذي “فتح” بابل “وحرّر” اليهود من الظلم البابلي، أي “الهولوكوست البابلية”.
ويبدو أن هذه الدراسة العلمية المحكمة التي نشرت بتاريخ (2011/5/11) في كبرى الصحف والمراكز البحثية الإيرانية، ومنها وكالة «فارس للأنباء» التابعة للحرس الثوري، وموقع «تابناك» الإخباري التابع لسكرتير مجلس تشخيص مصلحة النظام، تحت عنوان «باساركاد ساخته یهودیان یا ایرانیان؟ -أي باسارغاد صناعة يهودية أم إيرانية؟»، قد توصلت إلى نتائج شكّكت في الكثير من المزاعم التاريخية التي نُسِبت للسلالة الإخمينية من حيث الأساس، وضربت بعرض الحائط كافة الادعاءات التاريخية التي تم تزويرها بمساعدة اليهود في العشرينات من القرن الماضي. ومن الجدير ذكره أيضا أن الفريق الذي كُلِّف بإعادة النظر في مجموعة «باساركاد وتخت جمشید» تبین له أن معظم الآثار والحفريات، تعود في مجملها للحضارة العيلامية في الألف الثالث قبل الميلاد في إقليم الأحواز العربي، أي قبل نزوح الفرس من جبال القوقاز بالمئات من السنين.
وسنسعى في المادة القادمة إلى تبيان حجم التزوير الذي لجأت إليه السلطات الفارسية المتعاقبة في عملية استكمال بناء الدولة الإيرانية، وترسيخ العداء الفارسي للعرب كآلية تنشئة سياسية للأجيال الجديدة.
كاتب مختص في الشأن الإيراني

 

 

ما بعد بعد ميشال سماحة
جـميل ضـاهر/لبنان الآن/26 كانون الثاني/16
كالعادة اللبنانيون “كومبارس”، والأبطال سوريون. وزير سابق يعمل سائقاً وساعي بريد… مدير الأمن العام السابق السيد جميل السيد “ديكور” لتسهيل مرور سيارة الوزير على المعابر الحدودية. قوى وأحزاب “وطنية”، ثورية، علمانية، ممانعة، تنبري لتدافع عن الوزير المتّهم رغم ما بذلته قوى الأمن اللبناني من جهد مشكور محاولةً إبراز التهم بالصوت والصور “والصبّار”. أي مسلسل لبناني رديء نشهد تفاصيله المملّة والمخلّة يومياً على الشاشة؟ أي مهزلة وأي ملهاة تدور أحداثها على قدمٍ وساق، ونحن لسنا سوى شعب معتّر، مغبّر، ينتمي إلى طوائف تناجي التاريخ بأصوات القنابل ودموع الأمهات اللواتي يبكين ويقدّمن أبناءهن ضحايا لـ”إله” يسكن قصر المهاجرين في الشام؟!!عندما أكتب ما يزعج حزب الله أعترف أنّي أحاول قدر الإمكان أن أراعي حروفي كي لا أقع في المحظور، وكي لا أكون على لائحة “المساءلة” يوماً ما بعد أن ينفذ صبر الحزب من أخطائنا اللغوية، ومن لعنة عدم قدرتنا على فهم ما ينوي القيام به من “تحرير” للأرض، ومن أمن للوطن والمواطن… أعترف أنّي أخاف وأرتبك… لكن ما إن أستعين بعقلي قليلاَ حتى أجد ما يدفعني للتساؤل وهو “مكروه” وليس حرام. إذا كان الحزب يرى ضرورة أن يردّ جميل بشار الأسد الذي “ساند” المقاومة في العام 2006 وأن يقدّم له دماء شبان الجنوب قرباناً كل يوم، فلا بد من سؤال جمهور المقاومة بعض الأسئلة وإنْ كان طرحها قد يتسبّب بمقاطعة بعض الأصدقاء والرفاق لي الذين لا زالوا تحت تأثير بهجة “النصر والتحرير” وشمّاعة المقاومة.
– كيف تنظر أيها الجمهور إلى رئيس دولة يقوم هو بنفسه بالترتيب والإشراف على عملية تهريب متفجرات إلى لبنان بهدف إشعال حرب أهلية؟
– كيف ترى أيها الجمهور حلفاءك وهم يحضّرون لقتل مصلّين ساعة إفطار المسلمين؟
– كيف ترى أن قتل العلويين تأجّل قليلاً لأسباب لوجستية؟
– كيف ترى قرار تصفية رجال دين مسيحيين وتفجير كنائس بمصلّيها لأجل إشعال الفتنة التي عاشها اللبناني طيلة سنوات الحرب الأهلية وما تلاها برعاية الأشقاء في النظام السوري؟
– كيف ترى تصرّف المحكمة العسكرية ومن يديرها، وهي خاضعة لقوى حليفة لبشار الأسد الذي كشفت له هذه العملية “اليتيمة البسيطة”، والتي كان بطلها مجرد وزير ثمنه طلقة في حال تردد في دفع فواتير توزيره في الزمن السوري؟
– هنا لا بد من السؤال: من يحمي المواطن اللبناني إذا كانت المحكمة ترى ما لا نراه، وتسمع ما لا نسمعه؟
– هل انتهى كل شيء بيننا وتلاشت إمكانية إصلاح تاريخ العيش المشترك، ولم يعد لدينا أي أمل باللقاء في منتصف الطريق؟
– أهذه هي طريق الجلجلة التي يسقط عليها كل يوم شهداء بقصد حماية لبنان من خطر الإرهاب؟
– وهل هناك إرهاب بزيت.. وإرهاب بسمنة؟
– ألا يمكن أن يكون مفجّر الضاحية وزير آخر يعمل على خط الشام في ظروف مختلفة؟
ماذا بعد ميشال سماحة؟
ومن أطلق سراح ميشال سماحة؟ ومن سمح له بالكلام؟ ومن أنقذه من التحقيق الأول كي لا يفضح سلسلة الإغتيالات والتفجيرات التي شهدها لبنان في زمن بشار الأسد؟قد يكون مسلسلاً رديء السمعة، لكن يمكن العمل عليه قليلاً كي لا تكون نهاية أبطاله متوقّعة ومعروفة من الحلقة الأولى.
كيف يمكن لحزب الله أن يساعد في إطلاق سراح هذا المجرم والمثبت تورطه بالصوت والصورة، وأنه كان ينوي قتل مدنيين عزّل فقط لكونهم من طائفة أخرى ومن مكان آخر؟ كيف يمكن للحزب “اللبناني” أن يبقى على تحالفه مع بشار الأسد بعد أن اكتشف تورطه ومساعديه بنقل المتفجرات إلى بيروت وتوزيعها على المناطق للشروع في رحلة جديدة من الحرب؟ من يستمع إلى الحوارات الهاتفية يكتشف هشاشة هذا النظام الذي يتواصل على الهاتف في قضايا من المفترض أنها تحتاج للكثير من السرّية وتحتاج أيضاً إلى جهاز يقوم بهذه الأعمال بعيداً عن تورط “الرئيس” مباشرة وكبار مساعديه ومن بينهم تلك المستشارة الشمطاء التي تنام في سريرها على بركة من دماء الأطفال اللبنانيين والسوريين. وطن العملاء والطين والنفايات وبرك الدم، وطن التسويات والمحاسيب، مأوى المجرمين والقتلة، كيف لي أن أكون لك؟ هل نحتاج بعد فضيحة سماحة وما قبله وما بعده إلى سجون وقضاء ومدارس وعلوم ورئيس ونواب ووزراء؟
لماذا كل هذا الصخب والميت كلب؟

إيران: لماذا هي انتخابات فوق العادة؟
محمد قواص/الحياة/26 كانون الثاني/16
تبدو حظوظ «المعتدلين» الإيرانيين بقيادة روحاني (مدعوماً برفسنجاني) مرتفعة منذ أن نجح في المهمّة التي أوكلها إليه الوليّ الفقية في إفراغ الدمّلة النووية من قيحها وتخليص البلاد من أعراض تحوّلها إلى ورم قاتل. ومن ينجح في تحقيق ما كان قبل ذلك محرّماً ومستحيلاً بإمكانه الاستقواء والمجاهرة في اتخاذ موقف صلب مستنكرٍ للهجوم على السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، مع ما استتبع ذلك الموقف من اعتقالات طاولت «المتسببين» ووعدٍ بمحاكمتهم وإنزال العقوبة بهم. يدافع روحاني عن إيران الجديدة التي يتّسق سلوكها مع مداولات فيينا، وهو الذي اشتبه في «البلطجة» ضد الوجود الديبلوماسي السعودي، محاولة لاجترار سلوك المراهقة الذي صاحب صعود الخمينية، وبالتالي العودة بالبلد إلى ما قبل الانجاز «التاريخي» في فيينا (الذي لم يرض عنه الوليّ الفقيه، وفق تصريحات مستشاره حسين شريعتمداري لـ «كيهان»). منذ أن خرج مواطنوها يحتفلون في الشوارع بـ «النصر» المحقق على طاولة المفاوضات، منّت إيران النفس بتطبيع كامل مع المجتمع الدولي، يجعل تواصلها مع دول العالم الغربي أمراً محسوماً مطلوباً، لم يعد بالامكان المكابرة في شأنه. ولئن تحتشد الشركات الدولية أمام أبواب طهران، إلا أن أن التقارير الدولية تشكك في استعداد البلد، في قوانينه ورواج الفساد في مؤسساته، في تقديم الإغراءات المطلوبة لاندفاع تلك الشركات إلى الاستثمار داخل بيئة ملتبسة في نقاء تشريعاتها، وآمنة في مشهدها الإقليمي المعقّد.
سيكون أمام الإيرانيين دربان اجباريان. الأول يتعلّق بتجهيز البلد للانتقال إلى عهد الاتفاق، فيجري ترشيق أدائه للاتساق مع الشروط الدولية الحديثة. في ذلك أن الانتخابات المقبلة، بشقّيها البرلماني وذلك المتعلّق بمجلس الخبراء، ستحدد قدرة الإصلاحيين على الإصلاح ومساحة الهوامش المتاحة في هذا الصدد. ستحدد موازين البرلمان المقبل والظلال الأولية لشخص المرشد العتيد (حتى في حال بقاء خامنئي)، ليس فقط نفوذ المعتدلين في الحصّة الحاكمة، لكن أيضاً مدى امكانات تضييق رقعة السطوة التي يهيمن من خلالها المحافظون داخل المؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والعسكرية والأمنية. سيكون أمام روحاني ومعسكره وضع حدود التعايش من عدمها مع ثقافة الحرس الثوري ونفوذه داخل مؤسسات السلطة والثروة في البلاد. ولا ريب أن علاقة عكسية ما ستقوم بين تنامي دخول الاستثمار الأجنبي وإمساك الحرس الثوري بتلابيب الاقتصاد والمال في البلاد. والدرب الثاني يتّصل بتبريد موقع إيران في المشهد الإقليمي العام، ذلك أن رأس المال الدولي لن يلجَ فضاءً متوتراً تشي يومياته بانفجار دائم وصدام متنامٍ مع الجوار، على النحو الذي تَعِدُ به الأزمات في اليمن والبحرين والكويت والعراق وسورية ولبنان. وربما أن التهديدات التي أطلقتها طهران عقب إعدام نمر النمر، وما واكب ذلك من قلق دولي من احتمال نشوب حرب مباشرة مكان تلك التي تدور حالياً بالوكالة، ما ينفّر المجتمع الاقتصادي الدولي من المخاطرة في الاطلالة على منظر بركاني لا يتواءم مع أبجديات الإستثمار.
على أية حال، لن تُزيل الانتخابات المقبلة، مهما كانت نتائجها مروّجة لخطاب روحاني، المعضلات البنيوية لإيران. يملك المحافظون تراكماً نوعياً في الداخل الإيراني لا يمكن تجاوزه من خلال صناديق الإقتراع، هذا مع العلم أن قوانين الترشح والانتخاب تقيّد امكانات المنافسة على النحو الذي قد يأمله المتفائلون. على أن البيئة الخارجية باتت تحمل الماء إلى طاحونة فريق المفاوضين الإيرانيين في فيينا ومن يقف خلفهم في طهران، فيما يبدو ارتباك المحافظين كلياً، سواء في ردّ الفعل الصبياني على مسألة إعدام مواطن سعودي من قبل السلطات السعودية بناء على حكم قضائي سعودي، وسواء في الموقف الخليحي العربي المتصاعد بشبه اجماع ضد إيران، وسواء في عودة واشنطن لتلعب أدواراً عسكرية أساسية في العراق، وسواء في هيمنة روسيا على القرار السوري وتحوّل القوى العسكرية الإيرانية والميليشيات التابعة لها إلى أداة من أدوات الجهد العسكري الروسي هناك.
تكمن أهمية الانتخابات الإيرانية هذه المرة، والتي يذهب البعض إلى وصفها بالانتخابات الأكثر أهمية منذ نشوء الجمهورية الإسلامية، في ما ستستشرفه من ظلال لإيران ما بعد اتفاق فيينا. يستندُ روحاني على ذلك الاستحقاق لتطوير ما رسمه، وهو الذي أنجز بالأرقام ما يمكّنه من الاعتداد به في إدارة الشأن العام (لا سيما في خفض نسب التضخم رغم العقوبات)، كما يعتبره المرشد آية الله علي خامنئي مفصلياً واعداً، فيدعو مواطنيه للإقبال عليه بكثافة. وتكمن أهمية الانتخابات أيضاً، أن لها بعداً إقليمياً مباشراً تنتظره كثير من الملفات (الرئاسة في لبنان نموذجاً) في كافة الميادين التي تعبث طهران في مآلاتها، كما أن لها بعداً دولياً سيحدد الإرهاصات الأولى لموقع ودور ووظيفة إيران في المشهد العالمي العام. نفّذت إيران تعهداتها النووية بوتيرة أعلى من المتوقع، على ما لاحظت «واشنطن بوست». ذلك أن جناحيّ البلد، المعتدل والمحافظ، يعوّلان كثيراً على ما سيحمله رفع العقوبات للنظام الإيراني. على أن تناقضاً مباشراً يقوم ما بين الجناحين، ذلك أن المحافظين يتأمّلون من وفورات الاتفاق المالية وتعليق أعبائه تمكيناً للحكم في تدبير أمر البلد وامتداداته الإقليمية الطموحة، فيما يروم الاصلاحيون جرّ البلد نحو وصل بالدوائر العالمية مع ما يلازم هذا الوصل من انقلاب في طبيعة الحكم وهوية الحاكمين.