عقل العويط: كلّنا للأمل/جمال خاشقجي: خطر بوتين على السعودية/سليم نصار: واشنطن تمنع إسرائيل من المشاركة في محاربة داعش

397

كلّنا للأمل
عقل العويط/النهار/28 تشرين الثاني 2015
أطلقت القيادة العسكرية شعار “كلّنا للوطن”، وعلّقت لافتات ضخمة في هذا المعنى، لمناسبة عيد الاستقلال، وأرفقتها بصور الذي قضوا في سبيل الدفاع عن القيم الوطنية. في موازاة ذلك، أطلقت وزارة الاتصالات تسجيلاً هاتفياً خاطفاً لعبارة “كلنا للوطن للعلى للعلم”، في مناسبة “يوم العلم”، فقامت الدنيا ولم تقعد على وسائل التواصل الاجتماعي، تسخيفاً لهذه المبادرة واستنكاراً للوقت الضائع و… المال الضائع. من أجل الحياة التي أحبّها، أُطلق شعار “كلّنا للأمل”! أهل الوضاعة السياسية والمالية والدينية والمجتمعية والأخلاقية، عارُهم لا يوصف، ويحلو لهم أن يتفاخروا بهذا العار! عارُ هؤلاء سيقضّ مضاجعهم، وسيلاحقهم إلى القبور. وهو، سينتفض يوماً ما على نفسه، وسيثأر. على سبيل هذا النوع من “الثأر” أيضاً، ماذا لو كتبنا، وأطلقنا مبادرات تدعو إلى الوقوف الشعري الشفّاف أمام الفجر، وتروّج لأنوثة فنجان القهوة في الصباح، وللضباب الذي يفوح منه، وللعطور التي تؤخذ بموهبة الشميم والعقل؟ وماذا لو كتبنا عن الذين ينحازون إلى الغبطة الروحية، ويختارون السير في الغابات غير آبهين لنظام القتل الخلاّق؟ وماذا لو طلبنا من جميع الناس أن يفعلوا شيئاً مماثلاً بدل الاستيقاظ بأرواحٍ متجهّمة ووجوهٍ مضرّجة بالعذاب؟ وماذا لو حوّلنا المدينة كلّها فضاءً رحباً، وليل نهار، لتظاهرات موسيقى الحبّ واللطف والحرية؟ ثمّ ماذا لو طلبنا من الجرائد والإذاعات والتلفزيونات ومواقع التواصل الاجتماعي أن تقفل مجالها الحيوي أمام أخبار الموت والعنف وفساد المعايير وسقوط أهل السياسة والاقتصاد والشأن العام في المستنقع، فـ”ترغم” المتلقي على التفاعل مع ما تقترحه له من مغريات الأمل والسعادة؟
نعم، أريد ذلك من كلّ قلبي وعقلي، ثأراً من الذين يسرقون منا بداهات الحياة وأنوثتها، وينتزعون حقّنا الطبيعي فيها. لكن، يؤسفني شخصياً أنني غير قادر على إيهام القارئ بالأمل الكاذب. لم أعد أستطيع، أيها القارئ، أن أفعل شيئاً يجافي ما أعتقد أنه حقيقة، عارفاً أن السرّاق لا يخجلون ولا يملكون الإحساس بالعيب والذلّ. صحيحٌ أنني أكتب من دون أن أرتجف، ذهاباً مع عنوان ecrire sans trembler الذي وضعه لنفسه ملحق “لوموند الكتب” في عدده، الأسبوع الفائت، وعبّر فيه 28 كاتباً من العالم عما يختلج في وجداناتهم وعقولهم من أفكار ومواقف ومشاعر حيال العنف الذي ضرب العاصمة الفرنسية؛ صحيح أنني أكتب من دون أن أرتجف، لكنني لا أستطيع أن أكذب، فأوهم الناس بأملٍ خادع أو بأملٍ مستحيل. يؤسفني، على سبيل المثل، أنني لا أستطيع أن أعيّد فيروز، كما فعل العديد من الزملاء والأصدقاء، أنا الذي أرفض أن أجعل لها عمراً بين الأعمار، متجنّباً اغتنام مناسبةٍ هي ملكُها الشخصي الحميم، فأجعل منها عملاً احتفائياً أو استعراضياً على العموم، لإظهار مكانة هذه الفنّانة في الوجدان الجمعي، مكتفياً في المقابل بالابتسام الأناني النرجسي السرّي اللامرئي، كلما تذكرتُ انحنائي أمامها وتقبيلي يدها عندما قابلتُها للمرة الأولى، وسؤالها، هي، أمام بعض الأصدقاء، عمّن يكون هذا الرجل الغريب العجيب.
أعرف أنني لا أعرف أن أشقّ طرقاً معبّدة للمجاملات والعلاقات العامة. كما أعرف أنه لا يحقّ لي أن أكون متشائماً ويائساً. وأنه لا يجوز لي البتّة أن أبثّ روح الانهزام في “الرأي العام”. لكنْ، إذا لم يكن في اليد حيلة، فإنني أريد، على الرغم مما يمرّ به لبنان من انحطاطٍ سياسي وقيمي، مثيرٍ للتشاؤم واليأس؛ أريد لشباب المجتمع المدني وشاباته، أن “يحتلّوا” لبنان سلمياً. نعم، أن “يحتلّوه”، مثلما نحن، طلاّب ذلك الزمان وطالباته، شبابه وشاباته، احتللنا الجامعة اللبنانية، فعلاً لا قولاً، عملانياً لا رمزياً، وجعلنا لها عمداء من الطلاّب، وسيّرنا العمل في كلياتها ومعاهدها، احتجاجاً مدنياً ديموقراطياً على تلكؤ الحكومة عن تنفيذ المطالب الوطنية بجامعة طليعية، متقدمة، تكون واجهة لبنان الإنسانوي، الثقافي والعلمي. أريد لشباب لبنان وشاباته، أن “يرغموا” النوّاب الذين مدّدوا لأنفسهم قسراً وخلافاً للقانون، على أداء واجبهم الأول بانتخاب رئيس للجمهورية، وبإقرار قانون مدني للانتخاب. كيف؟ باختراع (بل بفرض) ثقافة شبابية، جديدة، حرّة، مدنية، متمردة، من طريق الضغط الديموقراطي المنظّم، “ترهب” السياسيين، وترجّفهم، وتجعل أبناء الأجيال الجديدة، كالموج الأبيض الجارف، و”تحرّرهم” من المنتهزين والطفيليين الذين يحاولون سرقة ثقافتهم الجديدة هذه، بهدف تشويهها، وركوب موجها؛ ثقافة خلاّقة تضع المجتمع السياسي كلّه أمام “أمرهم الواقع” هذا.
كم أريد، أنا نفسي، أن يجرفني هذا “الأمر الواقع”، الشبابي، الحرّ. فهل لي بغير الكتابة، أنا الكاتب المواطن، الفرد، الأعزل، أن أشهّر بالممتنعين عن انتخاب رئيس، معلناً أن امتناعهم هذا يجعلنا دولة فاشلة ومارقة، ويجعلهم مجرمين موصوفين، أياً تكن الذرائع والأسباب التي يشهرونها في وجوه النوّاب الذين في الضفة المقابلة؟! لكن، هل يقيم هؤلاء وأولئك وزناً لكاتبٍ، هو مواطنٌ فردٌ وأعزل؟!
وهل لي بغير هذه الكتابة اللئيمة، أن أقنع الباحثين عن حلول لمسألة النفايات، بأن عجزهم المهين عن إيجاد حلّ، يجعلهم، هم أنفسهم، نفايات بشرية وسياسية وأخلاقية، بكل ما تعنيه العبارة من معنى؟ وهل لي بغيرها، هذه الكتابة – المسّاس، أن أقنع المعنيين بمسألة المكتبة الوطنية (مثلاً)، بأن لا سبب قانونياً وتقنياً وتنفيذياً وهندسياً ومالياً على الإطلاق يحول دون استكمال العمل لفتح أبوابها، سوى ما يرتبط بالقصور العقلي والعجز الإداري والتقصير الأخلاقي؟! يؤسفني أنني لا أملك سوى الكتابة الفجّة. أقول هذا، عارفاً في قرارتي وأعماقي، وفي أدائي اليومي، كما في مهنتي، أنني، على الرغم من هذا كلّه، ومن غيره، لن أستسلم للعجز. فسيظلّ الحبر يصرخ في وجه هذا النوع من الانحطاط الأخلاقي والقيمي والسياسي، الذي يوازي فعل الاستبداد، مع فارق إضافي، أنه استبداد “وطني” عام، أشنع من الاستبدادات التي تمارسها الدول الأجنبية، الشقيقة وغير الشقيقة. وسيظلّ هذا الحبر يصرخ ويبصق في وجوه أسياد هذا الانحطاط وأدواته، قائلاً لهم إنها لا تمطر، بل بصاقٌ هو هذا الذي يصفع كراماتهم ووجوههم الذليلة.أعترف بأنني عاجز ويائس، وبأنني أريد أن أتداوى مما أنا فيه، لكنني لا أجد دواءً حقيقياً، أقنع به نفسي، وأقنعكَ به، أيها القارئ، سوى الأمل. وإذا كان هذا الأمل مريضاً، على قول الشاعر عباس بيضون، في عنوان أحد دواوينه، فإن هذا المرض هو دواؤنا الوحيد. هكذا، وعلى غرار “كلّنا للوطن”، فلننشد “كلّنا للأمل”، وإن يكن الأمل مريضاً حقاً!

خطر بوتين على السعودية!
جمال خاشقجي/الحياة/28 تشرين الثاني/15
الأفضل أن نأخذ على محمل الجد التهديدات الروسية المبطنة في شكل مقالة في صحيفة «البرافدا» تدعو إلى معاقبة المملكة وقطر وتركيا قبل أن تكون الدول الثلاث سبباً في بدء حرب عالمية ثالثة، لدعمها «داعش»! وفق زعم الجريدة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو مقالة أخرى في موقع «صدى موسكو» لمستشار سابق للرئيس، يدعو فيها بوقاحة إلى استهداف مواقع عسكرية ونفطية في المملكة وقطر. نعم بوتين أحمق ودموي ولا يؤتمن وأعتقد بأنه يكرهنا أيضاً، ويجب أن نعتبر هذه التهديدات صادرة عنه مباشرة. لقد بنى سمعته منذ أن اعتلى عرش الكرملين قبل 15 عاماً على أنه رجل روسيا القوي الذي لا يرحم، وأسس شعبيته بتحفيز مشاعر القومية والفخر الوطني الروسي، أشعل جذوة في نفوس الروس تشبه الفاشية، فعوضهم بذلك عن فشله الاقتصادي وأكبر حال تفاوت في الثورة في العالم بين فقراء ومتوسطي الدخل، هم أقرب إلى الفقر، وأقلية حاكمة فاحشة الثراء. مضى بوتين منتصراً من الشيشان التي أوغل فيها قتلاً وتدميراً، الى أوكرانيا فضم القرم إلى الإمبراطورية، مخالفاً بذلك الشرعية الدولية، لكنه زمن أوباما، الرئيس الأميركي الذي يحتاج إلى من يترجم له المثل العربي «أشبعتهم سباً ومضوا بالإبل»! احتج الغرب وأرغى وأزبد، ثم قبل بالأمر الواقع، ثم جاء القيصر إلى عالمنا العربي حيث يزعم أن له فيه «مصالح حيوية»، فدخله من دون استئذان وتربع فيه، وتحالف مع الأقلية الطائفية وشرع معها يقتل ويستبد ويفرض أمره الواقع. بل يحاول أن يعيد ترتيب البيت المسلم، فمضى إلى حيث الأقلية التي توافقه الهوى والطموح، حاملاً مصحفاً تاريخياً كتب في روسيا، وجلس بين يدي آية الله خامنئي المرشد الإيراني، جلسة المريد إلى شيخه، أهداه المصحف وفرك يديه في خضوع، في إشارة رمزية لا تخفى على حصيف، هنا المرجعية، هنا الإسلام، وفي الوقت نفسه يتجرأ ويهاجم ما وصفه بسياسة «الأسلمة» في تركيا! إذاً هي مسألة وقت، وسيهاجم السعودية ويحمّلها وزر القديم والجديد معاً.
عاش بوتين سلسلة من الانتصارات انتظمت في عقد كان سيلبسه يوم يبايع بصفته صاحب القوة المهيمنة على منطقة تمتد من القرم حتى الشام، فلم يقطع عليه حلمه غير عناد ثلاث دول رفضت مشروعه، وأبت الخضوع له، هي السعودية وتركيا وقطر.
تجلى هذا كله صباح الثلثاء الماضي عندما أسقط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية خرّت وسط تكبير وتهليل الثوار السوريين على جبال التركمان قرب الحدود السورية التركية، لحظات قليلة كانت كافية لرسم قواعد جديدة للعبة السياسية في الشرق الأوسط. مثلما غيّر بوتين قواعد اللعبة عندما جاء بطائراته ليشارك الإيرانيين والنظام السوري حربهم على الشعب الذي يريد حريته، غيّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قواعد بوتين الآن، وينتظر العالم رد فعل الأخير، وهل سيقبل بالقواعد الجديدة أم سيقلب الطاولة على الجميع مرة أخرى؟ سوف تتكرر حادثة الطائرة الروسية، فنحن تقريباً في حال حرب مع الروس على رغم كل الزيارات والاجتماعات والابتسامات. عاجلاً أم آجلاً ستتداخل السعودية وقطر وتركيا مع المعارضة السورية في نظر بوتين، فبعدما يفشل في هزيمتها، سيبحث عن أحد يلومه، ولن يجد غيرنا. ثم إذا ما فشلت مفاوضات فيينا المقبلة (والغالب أنها ستفشل) فلن تجد الأطراف المتنازعة في سورية غير تصعيد المواجهة لتحقيق نصر يحسم الصراع، ما سيؤدي إلى فرز الصفوف إلى «فسطاطين لا ثالث لهما» وليس لأسامة بن لادن علاقة بهذا المصطلح وإن استخدمه مرة واشتهر به، فسطاط الشعب السوري الحر وحلفائه، وفسطاط الثلاثي الطائفي المعادي للحرية وحلفائه أيضاً. بل قد تحصل مواجهة أخرى حتى قبل فيينا، لقد صفعت حادثة «السوخوي» صورة بوتين الذي لا يقهر وروسياه المهابة، سيؤثر ذلك في وضعه الداخلي، وخصوصاً مع بدء وصول جثامين الجنود الروس المتورطين في أول حرب خارجية منذ هزيمتهم في أفغانستان، لعله يتحدى الأتراك مرة أخرى فتسقط «سوخوي» أخرى أو «ميغ»، حينها سيجن جنونه. لقد شرع الآن بقصف عشوائي في مناطق التركمان السورية، إنها ليست حرباً، هذا انتقام! من يضمن ألا تسقط «سوخوي» أخرى بصاروخ أرض جو هذه المرة؟ سيزداد الدب غضباً، سيتهم السعودية أو قطر أو كليهما بأنهما اللتان زودتا الثوار بالصاروخ ويحملهما المسؤولية.
وضعه الاقتصادي المتردي أيضاً يزيد في غضبه، فاقتصاده خسر موقعه بوصفه قوة ثامنة في العالم، وتراجع إلى ما بعد إسبانيا وكوريا الشمالية اللتين تفوقتا عليه في الناتج القومي. هنا سيتهم السعودية بأنها سبب خفض أسعار النفط. هل يمكن أن نلتقي مع الروس في منتصف طريق سوري كي لا يحدث بيننا وبينهم ما لا تحمد عقباه؟ أستبعد ذلك، فلو حددنا بوضوح مشروعنا في سورية والمنطقة، وهو مشروع ليس فيه تدخل في سورية وإنما يقوم على استقلالها التام وقيام حكم ديموقراطي تعددي فيها، ثم لو حددنا المشروع الروسي لوجدناه يقوم على حكم أقلية وتدخل أجنبي دائم، بغطاء انتخابات كاذبة وديموقراطية تشبه تلك التي في روسيا، حيت تراجعت الحريات العامة، وتغوّلت الدولة، وخافت الصحافة بعدما أضحى ثمن المهنة رصاصة في زقاق وجريمة تسجل ضد مجهول.
هذان المشروعان يصطدمان في فيينا، ولاختلافهما الشديد لن يتفقا، كما أنهما يصطدمان على الأرض السورية حتى ينتصر أحدهما على الآخر. ومثلما يستحيل أن تقبل المملكة بنفوذ إيراني دائم في سورية، ستشاركها في ذلك استراتيجياً تركيا التي لا تريد نفوذاً روسياً دائماً جنوبها. الخلاصة أننا سنصطدم لا محالة، وبما أن السيد بوتين يفتقد أخلاق الفرسان ليقبل الهزيمة والرحيل بروح رياضية. سيستمر في الغالب في المواجهة، وسيصعد عسكرياً في سورية، سيحاول أن يشق صفنا ويفرقنا، فثمة ثغرات في صفنا يسعى إلى استغلالها، فحالنا كحال الحسين بن علي رضي الله عنهما، حولنا حلفاء سيوفهم معنا وقلوبهم علينا (وقد عكست النص ليتفق مع السياق)، هؤلاء يتفقون مع بوتين في بعض أجزاء مشروعه، إعادة إنتاج الاستبداد في سورية بنظام ديموقراطي مشوه لا يحمل رأس الأسد ولكن يعيش بمخالبه، ولا يضيقون بتمدد إيراني روسي هناك، وإنما يضيقون بصعود المملكة إلى رتبة قيادة المنطقة، وضاقوا أكثر أنها تحالفت مع تركيا، وأن علاقاتها بها تتوسع كل يوم وتخطط للمستقبل معها. لو تغير ميزان القوى في المنطقة لمصلحة معسكر بوتين فسيسفر هؤلاء عن جلدهم الحقيقي وينحازوا إلى القيصر.
أخيراً، هل يجرؤ بوتين على عمليات قذرة في بلادنا أو تركيا أو قطر، كالتي دعت إليها الـ «برافدا» ومستشاره السابق المشار إليهما في بداية المقال؟ كأن يستهدف موقعاً يزعم أنه معسكر لتدريب إرهابيين، أو أنه مخزن أسلحة كانت سترسل إلى سورية وتهدد «السلم العالمي» وسلامة الطيارين الروس! هذه أخطار يجب أن تدخل في الحسبان، ما يستدعي تنشيط السياسة الخارجية السعودية بالتعاون مع الأتراك والقطريين لإقناع الأوروبيين بأن سياسة السكوت على بوتين ستفتح شهيته مثل أي ديكتاتور، فالرجل يتصرف بغرور الفتى المتنمر لا السياسي المحنك، فهو ربيب مدرسة الاستخبارات السوفياتية القديمة، وبالتالي لا يتردد في اتباع أقذر أساليبها، مثل اغتيال رئيس شيشاني سابق لجأ إلى الدوحة عام 2000، أو تصفية معارض له بالسم في لندن عام 2006 بطريقة مريعة، حتى رؤساء الجمهوريات لم يسلموا منه، إذ سمم رئيساً سابقاً لأوكرانيا خلال مساعي ومؤامرات بوتين لإعادتها إلى بيت الطاعة الروسي، ما أدى إلى تزوير انتخابات، فثورة شعبية انتهت إلى حرب أهلية لا تزال تعيشها حتى اليوم. سجلّ سلبي حافل، ولكن يبقى بوتين مهماً، ومن الضروري التعامل معه، ذلك أنه يترأس قوة عظمى. لا أريد تثبيط العزائم، ولا أقول إنه لا قبل لنا به، وإنما أتوقع الأسوأ وأدعو إلى الحذر، ثم إننا في حال دفاع، ولا نستطيع الانسحاب من الساحة السورية، فدعمنا لثورتها هو دفاع لا مناط منه عن بلادنا. المهم أن نتوخى الحذر ونحن نخطو مضطرين في الغابة الروسية.

واشنطن تمنع إسرائيل من المشاركة في محاربة «داعش»
سليم نصار/الحياة/28 تشرين الثاني/15
تعرضت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية لأزمتين خطيرتين خلال الخمسينات والثمانينات، كان من الصعب تجاوزهما بسهولة.
ففي مطلع الخمسينات ظهر إسم جوليوس روزنبرغ وزوجته أثيل على قائمة المتهمين بالتجسس لصالح الإتحاد السوفياتي. وبما أنهما كانا منخرطين في صفوف الحزب الشيوعي المحظور ويعملان في الوقت ذاته مع دائرة الهندسة في الجيش الأميركي، فقد حرصا على تمرير كل المعلومات السرية المتعلقة بصناعة القنبلة الذرية الى موسكو. وقد لعب شقيق أثيل، الرقيب ديفيد غرينغلاس، دور الوسيط في تلك العملية باعتباره كان مكلفاً بالاشتراك في مشروع المفاعل النووي القائم في «لوس آلاموس». ومن المؤكد أن اختصاصه في علوم الكيمياء أهله لهذه الوظيفة الحساسة. وفي الوقت ذاته كانت هذه العائلة تعمل كفريق واحد بحيث أن أثيل وزوجها توليا مهمة نقل المعلومات بواسطة ساعي بريد يدعى هاري غولد. وكان هاري ينقلها بدوره الى أناتولي ياكوفليف، نائب القنصل السوفياتي في مدينة نيويورك. جهاز الإستخبارات الأميركي اكتشف هذه الخلية الناشطة واعتقل أفرادها في 23 أيار (مايو) 1950. واستمرت المحاكمة حتى 6 آذار (مارس) 1951. وبعد اعتراف جوليوس وأثيل بالذنب، أدانتهما المحكمة وأصدرت عليهما حكماً بالإعدام. وكان من المنطقي أن تتحرك الجالية اليهودية، وتنظم حملات إعلامية للدفاع عنهما، وطلب تخفيف الحكم الى المؤبد. ولكن المحكمة الجنائية رفضت التراجع، الأمر الذي فرض على وزير العدل تنفيذ حكم الاعدام في سجن «سينغ – سينغ». الأزمة الثانية حدثت سنة 1985، أي يوم اعتقال جوناثان بولارد الذي كان يعمل محللاً في البحرية الأميركية. وقد اتهِمَ في حينه بتزويد اسرائيل بآلاف الوثائق السرية، التي اعتُبِرَت في نظر قاضي التحقيق جريمة من النوع الذي يهدد الأمن القومي الاميركي، علماً بأن الولايات المتحدة واسرائيل تقيمان علاقات استراتيجية عميقة على الصعيدين السياسي والعسكري. يقول بنيامين نتانياهو إن الوثائق التي نقلها بولارد الى اسرائيل ساعدت على تفجير مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس سنة 1985. كما ساعدت أيضاً على اغتيال أبو جهاد الذي حرّك الانتفاضتين داخل الضفة الغربية والقدس الشرقية. ولكن هذه الوثائق كانت في غاية الأهمية بالنسبة الى اسرائيل، كونها سربتها الى الصين التي استفادت منها على صعيد التكنولوجيا المتقدمة. لهذا اعتبر مدير الاستخبارات المركزية السابق جورج تينيت أن جريمة بولارد لا تُغتَفَر، وأنه على استعداد لتقديم استقالته في حال نجحت ضغوط اللوبي اليهودي في تخفيف عقوبة السجن المؤبد.بعد مرور ثلاثين سنة، نجحت المساعي الديبلوماسية في الإفراج عن جوناثان بولارد. ولكن إدارة أوباما قيدت عملية الإفراج بعدة شروط ملزِمة أهمها:
أولاً – لا يُسمَح له بمغادرة الولايات المتحدة إلا بعد مرور خمس سنوات. ثانياً – انه في حال السفر بجواز سفر اسرائيلي فان جواز سفره الاميركي يسقط عنه تلقائياً.
والثابت أن بولارد إرتضى التخلي عن جنسيته الاميركية لاعتبارات تتعلق بانتمائه الديني. وهكذا أكد بما لا يقبل الشك أن كل مواطن أميركي يهودي مستعد لاختيار اسرائيل وطناً نهائياً.
عقب صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد، ومعاقبة زوجته «آن» بخمس سنوات حبس، صدر في الولايات المتحدة كتاب ضخم تحت عنوان: «مقاطعات الكذب». ولم يكن المؤلف سوى وولف بلتزر، مراسل صحيفة «جيروزالم بوست» و»نيويورك تايمز» وهو حالياً يعمل في قناة «سي ان ان».
النقاد الذين راجعوا الكتاب اكتشفوا فيه معلومات وفرتها الاستخبارات الإسرائيلية، تحمل كل الأسباب التخفيفية لتبرير العمل الذي قام به بولارد. خصوصاً أن المؤلف لم يكتشف عنصر الاساءة ما دام اللوبي اليهودي يطلع تقريباً على كل شاردة وواردة في مؤسسات الادارة الاميركية.
في الفصل المتعلق بانزلاق بولارد الى هوة الخيانة، يقول المؤلف بلتزر إن السفارة الاسرائيلية باشرت الاتصال به عبر هاتف عمومي خوفاً من المراقبة. وفي أول مكالمة طلبت محدثته على الطرف الآخر «سالا» أن ينقل اليها وثائق معينة ويضعها في عنوان خاص يقع في ماريلاند. وسرعان ما اكتشف بولارد أن العنوان المذكور لم يكن سوى مسكن القنصل الثقافي ايلان رافيد، الذي يعمل في سفارة اسرائيل في واشنطن. ومع تكرار تلك التجربة، كان على بولارد أن يسافر الى باريس وينزل في فندق هيلتون الفخم بغرض لقاء أحد أنسبائه. ولم يكن ذلك النسيب سوى رافي ايتان، رئيس فرع الاستخبارات الاسرائيلية الخارجية.
وبما أن بولارد كان مولعاً بجمع المال، فقد نفحه رئيسه الجديد في «الموساد» عشرة آلاف دولار كثمن للوثائق التي قدمها له حول آخر صفقة سلاح روسية وصلت الى دمشق!
بعد خدمة طويلة تميزت بالسرية التامة، اكتشفت الـ «اف بي اي» الدور المريب الذي يلعبه جوناثان بولارد. ووصفه وزير الدفاع كاسبار واينبرغر بأنه من أخطر الأدوار التي عرّضت الأمن القومي الاميركي للأذى والاختراق التام. لهذا استحق عليه حكماً يقضي بسجنه مدى الحياة. بيد أن ضغوط اللوبي اليهودي ووساطات بعض شيوخ الكونغرس، نجحت في تخفيف العقوبة والاكتفاء بمدة ثلاثين سنة. ويبدو أن الرئيس باراك اوباما إشترط عدم الاعلان عن قرار الافراج كانتصار معنوي، والاقتناع باصدار نشرة مقتضبة خوفاً من إثارة الموضوع عبر وسائل الاعلام الاميركية والعالمية. ولكن هذا الشرط لم يمنع الصحف من التشكيك بحجم الصفقة التي عقدها الرئيس الاميركي مع رئيس الحكومة الاسرائيلية، والتي تمنع نتانياهو من التدخل في أزمات المنطقة. أي الأزمات التي فرضت تورط روسيا وتركيا وبعض الدول الاوروبية. وترى الادارة الاميركية أنه في حال تدخلت اسرائيل في النزاعات المحتدمة، فان الكل ينسى «داعش» ويلتفت اليها، باعتبارها تمثل العدو التاريخي لكل المتقاتلين الاقليميين. وهذا ما أقلق وزير الخارجية جون كيري الذي أعلن قبل اجتماعه برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أنه لا يطمح الى إعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات، وإنما يتمنى عودة الهدوء الى الساحة المشتعلة منذ أكثر من ستين سنة. وتردد في رام الله أن كيري حاول تشجيع عباس على تجديد خطوات السلام، لأن اسرائيل تريد الابتعاد عن هموم المنطقة. وردّ عليه عباس بأن الجانب الفلسطيني فعل كل ما هو مطلوب منه من أجل تحقيق عملية سياسية مثمرة… في حين فعل الجانب الآخر كل ما يعيق تقدم المفاوضات وينسفها. والملاحظ أن «حماس» لم تطمئن الى زيارة كيري، والى تصاريحه الفجّة بالنسبة للانتفاضة الفلسطينية الثالثة. وقد عبّر عن هذا التوجه الناطق باسم الحركة سامي أبو زهري، الذي انتقد الزيارة ورأى فيها إستفزازاً لمشاعر الشعب المناضل. كذلك اعتبرتها القوى الاسلامية خطوة ناقصة بدليل أنها إمتنعت عن ممارسة أي ضغط يُذكَر على أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون. عندما اجتمع الوزير كيري بنتانياهو طلب منه تجميد بناء المستوطنات الى حين إعطاء السلطة الفلسطينية بعض السيطرة على ما تبقى من أراضي الضفة الغربية. وتظاهر رئيس الحكومة الاسرائيلية بالموافقة، مشترطاً إعتراف المجتمع الدولي بشرعية البناء في الكتل الاستيطانية. واعترض كيري على هذه المقايضة لأن الاعتراف بشرعية الكتل الاستيطانية معناه التنازل عن القرار 242، وعن مشروع الدولتين فوق أرض فلسطين التاريخية. ويقول صائب عريقات، أمين سر منظمة التحرير، إن طروحات اسرائيل التعجيزية تمنع دائماً الولايات المتحدة من إحراز أي تقدم سياسي. ففي السابق استنبطت فكرة اعتراف الفلسطينيين بدولة اليهود كشرط لاستكمال محادثات السلام. وهذا معناه، في نظرها، طرد كل الفلسطينيين من الأرضي المحتلة وتحويل دولة اسرائيل الى نظام «ابارتايد». كما يعني أيضاً تهجير مليون ونصف مليون فلسطيني. ويُكمل عريقات تحليله فيقول: «إن اعتراف المجتمع الدولي بالكتل الاستيطانية يفتح المجال لإثارة حق اسرائيل باستكمال ضم ما تبقى من أراضي الضفة الغربية. ومثل هذه المراوحة السياسية تقودنا الى حكاية الماعز والحاخام!». الرئيس محمود عباس كرر أمام الوزير كيري رغبة نتانياهو في الاحتفاظ بغور الأردن، ضمن مشروع «دولة اليهود». وقال له إن «دولة فلسطين» حازت على 171 صوتاً في الجمعية العامة من أصل 194. وهذا الاستفتاء وحده كافٍ لممارسة ضغط أميركي مؤثر على اسرائيل قبل فوات الأوان. ويرى المراقبون في هذا التحذير فرصة أخيرة قبل أن يعتزل عباس، ويترك المجال لحماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية والقيادة العامة… وفتح الانتفاضة. وربما تتمنى إسرائيل فوز هذه البدائل التي تعطيها فرصة رفض استكمال المفاوضات… كما تعطي واشنطن حق الامتناع عن مواصلة الوساطة!