غسان شربل: منطقة الرأس المقطوع/جورج سمعان: هل يصمد الثلاثي الجديد وتنجح دول الخليج

283

هل يصمد «الثلاثي الجديد» وتنجح دول الخليج؟
جورج سمعان/الحياة/09 تشرين الثاني/15

الإبحار بحثاً عن مكان في نظام دولي يتشكل من جديد ليس نزهة. بل يصبح مغامرة محفوفة بالأخطار إذا لم يستند إلى مقومات قوة متعددة المصدر والبنى. وإذا لم يعتمد مقاربات متحركة تبعاً لشبكة علاقات متحولة باستمرار ومليئة بالمفاجآت. بل يكاد يكون شبه مستحيل في منطقة كالشرق الأوسط انهار نظامها. وعصفت بها رياح التغيير والتدمير والتهجير. وتحللت فيها دول لحساب كيانات طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية وجهوية، وتنظيمات إرهابية كسرت حدوداً تاريخية واستباحت خرائط. وشكلت ولا تزال ساحة لصراعات نفوذ بين القوى الكبرى، فضلاً عن القوى الإقليمية الطامحة إلى التوسع واستعادة إمبراطوريات غابرة، والطامعة بمواقع استراتيجية والسيطرة على بحور الطاقة وممراتها. ليس قليلاً أن تجد دول مجلس التعاون الخليجي نفسها وسط هذا الكم من التحديات. لم تكد تخرج من أعتى الحروب بعد الحرب العالمية الثانية، حتى وجدت النيران تشتعل على حدودها وتكاد تطوقها من كل الجهات. ولد مجلس التعاون غداة «الثورة الإسلامية» في إيران وعلى وقع الحرب بين بغداد وطهران. وما لبث أن واجه غزواً عراقياً للكويت تجاوزه بحرب تحرير لهذه الدولة حشد لها العالم قواه الكبرى والإقليمية. ولم يمض عقد حتى كادت «غزوتا نيويورك وواشنطن» تشعل حرباً على الإسلام. وحملتا الولايات المتحدة على غزو أفغانستان ثم العراق وإسقاط حكمي «طالبان» وصدام حسين. وبين هذه الأحداث وتلك، انهار الاتحاد السوفياتي وعمت موجة من الديموقراطية بلدان أوروبا الوسطى والشرقية وبعض بلدان آسيا وأميركا اللاتينية. وأطل عقد آخر حاملاً «ربيعاً عربياً» سرعان ما تحول حروباً طاحنة لا تزال تستعر، من ليبيا إلى العراق وسورية مروراً باليمن.
سقط النظام الإقليمي في الشرق الأوسط على وقع هذه الأحداث، فيما لم يسلم العالم بتفرد أميركا بقيادة العالم الجديد ونظامه. وهي تستعجل نقل ثقلها إلى الشرق الأقصى لتواجه الصين، ثاني أكبر اقتصاد دولي، بعدما انتقل الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق. وتتحرك روسيا بارتباك واقتصاد متثاقل سعياً لاسترجاع دور ومكانة ونفوذ سقطت مع سقوط جدار برلين. وبرزت دول إقليمية كبرى كالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا لتزاحم قوى العالم القديم… ودخلت الثورة الرقمية والفضاء المعلوماتي ووسائط التواصل الاجتماعي عاملاً إضافياً في بناء الاستراتيجيات.
كل هذه التحولات وغيرها من تحديات كانت عناوين «ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي» الثاني الذي ينظمه «مركز الإمارات للسياسات». وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش عدّ الجماعات المتطرفة والإرهابية والتدخلات الخارجية الممنهجة والمنظمة «تحدياً خطيراً وحقيقياً» لأهل المنطقة. ولاحظت رئيسة المركز الدكتورة ابتسام الكتبي أن دول الخليج العربي تحولت مركزاً إقليمياً مؤثراً ومحور ارتكاز. جمع الملتقى نحو 300 مشارك ومتحدث من نحو 40 دولة ينتمون إلى سياسات مختلفة ومتناقضة، ويحملون وجهات نظر متوافقة ومتصارعة أيضاً. ولعل أبرز العناوين تلك المتعلقة بالخليج في العالم الجديد، والتحولات الداخلية في دول «الربيع العربي»، وتجاذب القوى الإقليمية وتنافرها. حال القلق من المستقبل حاضرة في النقاش حيث يلقى الكلام بلا تكلف وحسابات. ويساق إلى التحديات الخارجية، تلك الداخلية التي تهدد منظومة مجلس التعاون الذي صمد أكثر من ثلاثة عقود، على رغم العواصف والحروب التي هددت مصير المنطقة برمتها.
أسئلة كثيرة ومن أبرزها، هل يستمر المجلس في وسط هذه المعمعة فيما لا يلتقي أعضاؤه على سياسة واحدة. بل يتواجه بعضهم مع بعض آخر في أكثر من ساحة وميدان. ما تشي به كلمات أهل الإمارات أنهم انحازوا إلى المملكة العربية السعودية ومصر ركيزتين يعتمد عليهما استقرار المنطقة. لكن دعم النظام الجديد في مصر ليس خياراً لكل دول المجلس. ولا حاجة إلى التذكير بموقف دولة قطر من نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، على رغم أنها عضو فاعل في التحالف العربي – الإقليمي و «عاصفة الحزم»، فضلاً عن تمايزها مع آخرين في الموقف من بعض قوى الإسلام السياسي. ومن الموقف حيال ما يجري في ليبيا. ولا حاجة إلى التذكير بموقف سلطنة عمان التي تنهج سياسة خاصة بها تتعلق بشؤون الإقليم وما بعد الإقليم. وهي سياسة درجت عليها منذ ما قبل قيام المجلس الخليجي، استناداً إلى اعتبارات تاريخية. وأثارت أحياناً حفيظة بعض أشقائها. ومثلها الكويت التي لا تشارك فعلياً في الحرب اليمنية. تراعي كونها دولة «طرفية». وتخشى بالتأكيد أن تتحول ميداناً يتجاوز الحرب المذهبية الباردة في الإقليم، كما كانت حال أوروبا الغربية ساحة المواجهة المحتملة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي. وقد نالها ما نال السعودية والبحرين من أعمال إرهابية لتأجيج الصراع. وتعرف ثقل الجغرافيا وحساباتها: شرقها إيران وشمالها العراق، وهذا يكفي.
ما يضاعف قلق أهل الخليج أن دوله التي استندت في العقود السابقة إلى معادلة ثلاثية ضمت السعودية ومصر وسورية شكلت قاطرة للحد الأدنى من العمل العربي المشترك. لكن هذا العمل لم يرق إلى مستوى الطموحات. ويكفي ما عانته وتعانيه جامعة الدول العربية من عجز وتنافر قوى ومصالح. وهذه نهاية لا يريدها الخليجيون لمجلسهم. وإذا كانت العلاقات الجماعية وتوحيد السياسات والمواقف منالهما صعب فلا بأس بتمتين العلاقات الثنائية بين دوله لضمان استمراره. أو لضمان قيام ركيزة أو قاطرة لاستنهاض العمل العربي المشترك. أوجعهم ثمن القعود العربي عن الانخراط في أزمات العراق حتى الغزو الأميركي وسقوط بغداد في قبضة إيران. لذلك، لم يترددوا في الذهاب إلى اليمن للحؤول دون لحاق صنعاء بعاصمة الرشيد. على رغم الشعور بأن «المبادرة الخليجية» التي واكبت الحراك في هذا البلد شابها بعض الأخطاء التي أتاحت للحركة الحوثية تنفيذ انقلابها مع أركان النظام السابق للرئيس علي عبدالله صالح. بل يرى بعضهم إلى العمل العسكري ترجمة لتأثير السياسة في ترسيخ الاستقرار في بلد يؤدي تفتته إلى تعميم فوضى عارمة في دول الجوار.
وليس اليمن الجبهة الوحيدة. هناك سورية التي ينخرط في أزمتها بعض دول الخليج خوفاً من انهيار كامل لبلد كان ولا يزال نقطة ارتكاز يقوم عليها استقرار عدد من دول الهلال الخصيب، بل يتعداه إلى تركيا أيضاً. إلى هاتين الحربين اللتين تشكلان استنزافاً مالياً كبيراً هناك الالتزامات المقطوعة للقاهرة ونظامها. لكن ثمة حدوداً لهذه الالتزامات فيما تدني أسعار الطاقة تضغط على عائدات دول النفط. ويدرك الواقفون خلف صمود النظام المصري أن التحديات في هذا البلد، من تعثر الاقتصاد إلى مشكلة البطالة وبطء الإدارة وعجزها عن توفير معظم الخدمات اليومية للناس، والضربات التي يتلقاها قطاع السياحة وآخرها سقوط الطائرة الروسية، تزيد في غموض المستقبل. بالطبع قد لا ينزلق البلد إلى ما آل إليه الوضع في اليمن أو ليبيا وسورية. لكنه قد ينذر بعاصفة أخرى عمادها «الدولة العميقة» و «المجتمع العميق» الذي أطاح حكم «الإخوان». ولا يخفى أن معافاة مصر لاستعادة دورها وثقلها في الإقليم ترتبط أيضاً بمعافاة دول الجوار الأفريقي. تشكل لها ليبيا هماً مقيماً ما دامت خزاناً لتصدير السلاح والإرهاب. وقد تنزلق تونس مجدداً لوداع تجربتها الديموقراطية الوليدة.
غابت الدول العربية الكبرى التي كانت تمتلك شرعية تؤهلها لطرح سياسات واستراتيجيات توفر الحد الأدنى من الاستقرار للنظام الإقليمي. عادت مجتمعات عربية عدة إلى كيانات ما دون الدولة الوطنية. وسقط بعضها ضحية تنظيمات إرهابية تشكل تهديداً للعالم العربي برمته بعدما انتشرت على طول خريطته وعرضها. وهو ما شجع الدول الإقليمية، خصوصاً إيران وتركيا، على التغلغل في المنطقة. وجر الدول الكبرى إلى تحويل الشرق الأوسط ساحة لصراعات النفوذ تحت راية «الحرب على الإرهاب». لم يبق أمام دول مجلس التعاون سوى التقدم للدفاع عن نفسها ومصالحها بيديها. شعرت بالانكشاف في أكثر من جبهة. وشعرت بتبدل العلاقات والمصالح في الإقليم وانكفاء الأميركي، الشريك التقليدي المتوجه نحو بحر الصين. هذه الاندفاعة الخليجية مغامرة محفوفة بالأخطار والتحديات. الإبحار وسط العواصف والنيران ليس نزهة. وبناء التوازنات والخيارات المثمرة ليس بلا أثمان. مثلما تحقيق الإنجازات في منطقة يسعى فيها جميع اللاعبين إلى انتصارات لا يقوم بلا تسويات وصفقات. فهل تنجح دول الخليج في رفع التحدي ومواجهة نتائج التحولات في شرق أوسط يقف عند منعطف حرج؟ وهل يصمد الثلاثي الجديد السعودي – المصري – الإماراتي؟

 

منطقة الرأس المقطوع
غسان شربل/الحياة/09 تشرين الثاني/15
اذا ثبت ان «داعش» هو من فجر الطائرة الروسية فلا غرابة في الامر. من يرتكب مذبحة الايزيديين يرتكب مذبحة من هذا النوع. ومن يقطع رؤوس المسلمين من ابناء العشائر التي رفضت مبايعته يقطع رؤوس سياح وافدين من بلاد لينين وبوتين. ومن يعدم على الارض يعدم في الفضاء. اذا ثبت ان «داعش» هو المرتكب تكون سياسة الرأس المقطوع دخلت مرحلة ابعد واخطر. للمكان دلالاته وللزمان مغازيه. انها محاولة لقطع رأس السياحة المصرية. القطاع الذي تراهن الحكومة المصرية عليه كمصدر للعملات الاجنبية ومصدر رزق لحشد من المصريين العاملين في هذا القطاع والمنتفعين منه. وقطع رأس امن المطارات في مصر لا يقطع رأس السياحة وحدها بل يصيب الاستثمار معها. وقطع راس الاقتصاد المصري على هذا النحو محاولة صريحة لقطع رأس برنامج السيسي وعهده. يزيد الضربة ايلاما ان مصر يصعب ان تحصل الآن على السخاء الذي حصلت عليه من اصدقائها غداة اطاحة «حكم الاخوان».
لا خيار امام السيسي غير متابعة الحرب على الارهاب. وهي في الحقيقة مكلفة وصعبة خصوصا ان مصانع الارهاب في ليبيا المستباحة تعمل بكامل طاقتها. لكن الحرص على مصر يفرض القول ان العملية السياسية التي تواكب الحملة الامنية تستحق وقفة تامل ومراجعة. يستحق انقاذ مصر بذل محاولات جديدة لاستقطاب من لم تتلوث ايديهم بالدماء من انصار الحكم السابق. يستحق انقاذ مصر بذل جهود اكبر لفتح النوافذ واختراق الكتلة الاخرى والتحاور مع من يبدي استعدادا للمراجعة ايضا. اختيار الطائرة الروسية هو ببساطة محاولة لقطع رأس الاطلالة التي سجلها فلاديمير بوتين على مسرح الشرق الاوسط بتدخله العسكري في سورية. انها محاولة لتسديد صفعة للقيصر وبلاده. رسالة راعبة حملت للجثث المتناثرة. ارغمت الضربة بوتين على اتخاذ قرارات مزعجة لصديقه السيسي وبينها الهروب الروسي الكبير من شرم الشيخ. ولا غرابة ان يشعر السيسي بالمرارة بعدما ذهب بعيدا في تفهم السياسة الروسية في سورية وملاقاتها.
جاء بوتين لمقاتلة الارهابيين في سورية كي لا يضطر الى محاربتهم داخل الاتحاد الروسي او على اطرافه. ها هم يوسعون الحرب. من يضمن غدا سلامة السائح الروسي هنا او هناك؟ ومن يضمن سلامة السفارات الروسية في الدول الرخوة؟ ها هو ابو بكر البغدادي يعامل روسيا والروس كما عامل اسامة بن لادن اميركا والاميركيين. بتدخلها في سورية انتزعت روسيا من اميركا لقب «الشيطان الاكبر». لا يستطيع بوتين الخضوع لعمليات قطع رأس هيبة «الجيش الاحمر». سيواصل ما بدأه وقد يزداد غرقا. تكاليف حربه اكبر بكثير مما توقع سيد الجواسيس. لا يستطيع اقتصاده مجاراة الاقتصاد الاميركي في احتمال النزيف. لهذا يبدو مدعوا الى مراجعة باكرة. عليه اخراج بلاده سريعا من الحريق السوري وباطفائه. يحتاج الى الرجل الخبيث المتردد الذي الذي رفض ادخال اصابعه في الجمر السوري. يحتاج الى باراك اوباما والدول الاقليمية المؤثرة. يحتاج الى ما يتجاوز براعات لافروف ومتعته في نصب الكمائن وتعميم الالتباسات.
لن نعلق كل شيء على شماعة «داعش» رغم خطورته واهواله. هذه اصلا منطقة الرأس المقطوع. قطع المستبدون رؤوس شعوبهم والدساتير. حولوها قطعانا مثخنة. قطعت الاستخبارات رؤوس الحكومات والبرلمانات والاحزاب والنقابات. قطعت الرقابة رؤوس الاعلام والاعلاميين. قطع الفساد رؤوس المواطنين. التهم الاقتصاد وافترس الارض ومن عليها. قطع التعليم المتخلف رأس مخيلة الطلاب والسنتهم ووزعهم محبطين وخانعين ومتسولين ولاجئين وانتحاريين. منطقة الرأس المقطوع. قطعت الفتنة رأس الوحدة الوطنية. قطع الاحتراب الاهلي رأس الدولة. قطعت المليشيات رأس الجيوش. قطع الارهابيون والمتدخلون رأس الحدود الدولية. قطع المغامرون رؤوس الخرائط. قطعت «الاوطان الصغيرة» رأس الوطن الذي حقنوا اوردتنا باناشيده. لسنا في الطريق الى الهاوية اننا نقيم فيها. هذا ليس حطام الطائرة الروسية. انه حطام الشرق الاوسط. ليتنا نلمح فكرة تنقذ. ليتنا نسمع صوتا يدل على الطريق. فشلنا في اقامة دولة طبيعية. كشفت العاصفة عمق تخلفنا وعجزنا ووطأة قيودنا. لم يأت مسلحو «داعش» من القمر. جاؤوا من توحش منطقتنا ومجتمعاتنا