عبدالله بن بجاد العتيبي: اجتماع فيينا ومستقبل سوريا/المركز العربي للابحاث: موسكو المقرر الأول لأي حل في سوريا

298

اجتماع فيينا ومستقبل سوريا
عبدالله بن بجاد العتيبي/الشرق الأوسط/25 تشرين الأول/15
التقى في فيينا يوم الجمعة الماضي وزراء خارجية أربع دولٍ، لبحث الأزمة السورية ومستقبل سوريا وفق التطورات الجديدة والتغييرات في مراكز القوى، وهذه الدول هي الولايات المتحدة، وروسيا الاتحادية، والسعودية، وتركيا. وقد صرّح وزير الخارجية السعودي بعد الاجتماع بأن الخلافات لا تزال قائمةً حول موعد رحيل الأسد. وأضاف موضحًا سياسة السعودية: «السعودية تتمسك ببيان جنيف رقم واحد، كما أن السعودية تتمسك بوحدة سوريا، ودخول البلاد إلى مرحلة انتقالية، ووضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات». وظلّ وزير الخارجية الأميركي متفائلاً كعادته على الرغم من أن تردد رئيسه كان أحد أهم الأسباب في تفاقم الأزمة السورية. التدخل الروسي في سوريا له أبعادٌ دوليةٌ تتعلق بالنفوذ الدولي في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدًا، ولئن بدا الروس مساندين بشكلٍ كبيرٍ للمحور الإيراني في المنطقة وسوريا، فإن هذا لا يمنع التواصل معهم لخلق حلٍ عملي للأزمة السورية، حلٍ يضمن رحيل الأسد وإن بعد مرحلةٍ انتقاليةٍ يتم التفاهم على طولها مع خروج الجماعات الإرهابية السنية والشيعية تزامنًا مع خلق سلطةٍ جديدةٍ قادرةٍ على تحقيق طموحات الشعب السوري في دولةٍ موحدةٍ ومستقرةٍ تستوعب كل أطياف الشعب السوري. على طول التاريخ وعرض الجغرافيا لم تكن الصراعات تحلّ بمجرد الرؤى العقلانية أو بمنطق الآيديولوجيا فحسب، بل كان ذلك يتم عبر العمل على عدة مساراتٍ تجمع السياسة بالاقتصاد، ومنطق القوة بمنطق التاريخ، وفرض توازنٍ في القوى على الأرض تدفع باتجاه حلٍ عادلٍ على طاولة التفاوض.
من بين ما أوضحته الأزمة السورية والصراع الأكبر مع إيران في المنطقة هو أن الدول العربية، وتحديدًا السعودية ودول الخليج العربي، يجب عليها أن تعيد بناء قوّتها الذاتية لا العسكرية فسحب، بل كل أنواع القوة كيفما تجلّت مع تعزيز تحالفاتها الإقليمية وحول العالم بكل سبيل، للدفاع عن مصالحها ومصالح شعوبها ومصالح الدول العربية، وأن تحضّر نفسها لمستقبل كبير تكون فيه فاعلةً على كل المستويات وتزيد قوتها أضعافًا بحسن الإدارة وجودة الاستثمار وصرامة القرار ووضوح الرؤية والنهج. إن استيعاب الخلافات مع الحلفاء لا يقل أهمية عن الوعي بالتوافقات مع الخصوم، ولكن ذلك كله يوزن بميزان العقل والحكمة والمصلحة وفق ما يمليه الواقع وتحكم به معطياته وتفاصيله وما يمكّن من صناعة مستقبلٍ تكون فيه هذه الدول أقوى مكانةً وأصلب عودًا وأقدر على التأثير وفرض النفوذ. القضية السورية قضية عادلةٌ، ديكتاتورٌ متوحشٌ يقتل شعبه، ويجلب الميليشيات الموالية له لتشارك في القتل، ومثل هذا يجب أن تؤدي أي محادثاتٍ لإبعاده عن السلطة وإخراجه خارج سوريا، ولمواجهة التعقيدات على الأرض، فإن الواجب هو السعي لإعادة إبراز المعارضة السورية المعتدلة ودعم بقايا الجيش السوري الحر والفصائل الوطنية التي لم تتلوث بالإرهاب لتثبيت أقدامها وتوسيع حضورها في مواجهة النظام وميليشياته الشيعية القاتلة من جهةٍ ولمواجهة الجماعات الراديكالية والإرهابية من جهةٍ أخرى.
كتب هنري كيسنجر مقالةً بعنوان «انهيار الإطار الجيوسياسي للشرق الأوسط» نشرها في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وترجمتها صحيفة «الوطن» السعودية، وقد لقي المقال تجاوبًا يليق بمكانة كاتبه وتاريخه، ولكن الصحيح أيضًا أن بعض الكتاب السعوديين والعرب كانوا قد سبقوه في التعرض لأكثر الأفكار والرؤى التي طرحها، ومقالاتهم منشورةٌ وأفكارهم موثقة، ولكن «زامر الحي لا يطرب». وفي المنطقة ومع المواجهة العسكرية المظفرة التي تقودها السعودية والإمارات العربية المتحدة ضمن «التحالف العربي» في اليمن والأهمية القصوى للنجاح فيها، فإنه يجب ألا تغفل الملفات الأخرى، ففي العراق على سبيل المثال لا ينبغي التسليم بسيطرة إيران عليه، بل يجب العمل الدؤوب مع كل الجهات الوطنية العراقية لاستعادة الشعب العراقي لدولته وافتكاكها من هيمنة إيران وطغيان الميليشيات التابعة لها.
الملف الكردي كذلك هو ملفٌ مهمٌ فالأكراد يتمتعون بحكمٍ ذاتي في العراق ولهم حضورٌ في سوريا وفي إيران وفي تركيا، واستمالتهم لصف الدول العربية يخدم قضايا العرب في كل تلك البلدان، وتأثيرهم داخل العراق لا يمكن الاستهانة به، ولديهم قضايا عادلةٌ بإمكان إحيائها الضغط على بعض صناع القرار في الدول الغربية ودفعهم لاتخاذ مواقف أكثر دعمًا لمواقف دول الاعتدال العربي. قام وزير الخارجية السعودي بجولةٍ في دول شرق آسيا لتوثيق الصلات وتعزيز العلاقات، وهي خطوةٌ ذكيةٌ، ومن المهم أن تعقبها جولاتٌ في مناطق أخرى في العالم تقف على رأسها منطقة آسيا الوسطى ودولها النفطية وغير النفطية، تلك المتاخمة للصين وروسيا وإيران، فالاستثمار فيها وتعزيز العلاقات معها يمنح نفوذًا في منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية عليا لا لمواجهة إيران فحسب، بل لخلق توازنٍ استراتيجي واسعٍ وتوسيع دائرة الحلفاء الذين أصبح بعضهم أقل ثقةً مما كان متوقعًا وأكثر ابتعادًا عن قضايا الدول العربية ضمن رؤى وأوهامٍ متعددةٍ فرضت سيطرتها على بعض قيادات الحلفاء الأقدم. إن الوقت لا يفوت أبدًا لمن يمتلك الرؤية الصائبة والعمل الدؤوب والقرار الشجاع، هناك دائمًا ما يمكن فعله، والسياسي لا يفتر من تصيّد الحلول وخلق النجاحات، وأي تقدمٍ في أي ملفٍ وإن صغر يمثل لبنةً في استراتيجية أوسع يمكن دائمًا توفير الظروف اللازمة لضمان نجاحها ونجاعتها. غير مجدٍ أن يردد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نفس كلام الأسد الممل وغير المقنع بأن الذي يقرر رحيل الأسد هو الشعب السوري، فالحقائق تقول إن الشعب السوري تم قتل ربع مليون منه على يد نظام الأسد، وأعداد النازحين واللاجئين منه تقدر بالملايين، إن داخل سوريا، وإن في دول الجوار، وإن في موجة الهجرة الجماعية لأوروبا، والجميع يعلم أن الغالبية الساحقة من الشعب السوري لا تريد الأسد ولا تقبل به بأي حالٍ من الأحوال. أخيرًا، فإنه إذا كانت روسيا جادةً في إيجاد حلٍ للأزمة السورية فليس عليها أن تتجه لإيران وتطالب بحضورها محادثاتٍ تتعلق بدولةٍ عربيةٍ وشعبٍ عربي، بل عليها أن تتجه للدول العربية، وخاصة مع ما أظهرته هذه الدول من برغماتية عاليةٍ تؤكد الحرص الواضح على إيجاد حلٍ حقيقي في سوريا لاستعادة الدولة السورية وبنائها من جديد لتكون ممثلة لكل الشعب السوري بكل تنوعاته.

موسكو المقرر الأول لأي حل في سوريا
المركز العربي للابحاث | السبت 24/10/2015
أجمع الباحثون والمختصون والخبراء الذين جمعتهم ندوة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، السبت، على أن التدخل الروسي المباشر في سورية يدخل في سياق إثبات الذات والتقدم خطوة أخرى للعب روسيا دور دولة عظمى عالميا، كما يحمل في طياته أبعاد انتقام روسيا وبوتن خصوصا من ازدراء الغرب وتعامله الفظ في الأزمة الأوكرانية. وشكل تحول روسيا إلى فاعل أول والمقرر في أي مفاوضات دولية تجري بشأن سورية نقطة التقاء أخرى للمشاركين في الندوة التي كانت تحت عنوان ” التدخل العسكري الروسي في سورية: الدوافع والأهداف والتداعيات”. وسجل الباحثون أن التدخل الروسي يسعى إلى حماية النظام السوري ودعم مواقعه من أجل أن تفرض روسيا منطقها في أي حل ديبلوماسي مستقبلي، وهو ما يشير إلى أن العمليات العسكرية الروسية في سورية ستستمر لفترة أشهر قد تتوسع، لكنه من المستبعد أن تصبح المهمة الروسية في سورية واسعة النطاق بقدر أفغانستان، كما أنها لا يمكن أن تتواصل لفترة طويلة، فهي تمهيد للبدء بالمفاوضات على أساس توازن بين القوى، بما يحافظ على مصالح روسيا والنظام السوري.
بشارة: مصير النظام السوري أصبح بيد روسيا
قدم الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المحاضرة الافتتاحية للندوة بعنوان: ” التدخل الروسي: الجيو-استراتيجية فوق الأيديولوجية، فوق كل شيء”. وأشار إلى أن الوجود العسكري الروسي يعود إلى المنطقة العربية بعد 43 عاما منذ أمر أنور السادات الخبراء السوفييت بالخروج من مصر سنة 1972. ولكن القوات الروسية تعود هذه المرة بتدخل مباشر لا يكتفي بغطاء الخبراء.وفي قراءته الجيوستراتيجية للتدخل الروسي في سورية، أكد الدكتور عزمي بشارة في البداية أن الدول الحليفة للأطراف السورية لا تتمايز في ما بينها بدرجة الأخلاقية. وهي تنحاز لهذا الطرف أو ذاك لأسباب لا علاقة لها بقضية الشعب السوري نفسها. ويبقى عبء عدالة القضية ملقى كله على من يناضل في سورية. وأضاف أن علينا الإقرار بأن روسيا بوتن لا تحاول أن تقدم تدخلاتها العسكرية ضمن خطاب عدالة خلافا لنهج شيوعية الاتحاد السوفياتي في التبرير، وخلافا لنهج أميركا حتى عصرنا هذا. فهي لا تسعَى لنشر الشيوعية ولا الديمقراطية، ولا للتبشير بدين ما، إذ اعتمدت خطاب الأمن القومي على مصالح روسيا الحيويّة. وفي هذا السياق يدخل التدخل الروسي في سورية بسعي بوتن لاستعادة مكانة روسيا المترنحة وبناء دولة عظمى. ويرى الدكتور عزمي أن صعود روسيا ومحاولتها أخذ موقع الدولة العظمى ليس عودة لنظام القطبين العالميين. فلم يقم هذا النظام على دولتين عظميين فحسب، بل أيضا على معسكرين يحملان مشروعين مختلفين للإنسانية جمعاء. وليس لروسيا اليوم مشروع تطرحه للإنسانية كما كان الاتحاد السوفيتي. وبحسب المحاضر يبدو أنّ الرئيس الروسي يمتلك إستراتيجيّة، فبعد أوكرانيا اندفع إلى الأمام، ليصبح التدخل في أوكرانيا وضم القرم حقيقة ناجزة، ويفرض على الغرب الحديث معه على قضية أخرى حارقة، يحاول أن يملك مفتاح حلها. وأوضح بشارة أن الغرب خشي من دعم الثورات العربية بسبب الخوف من التيارات الإسلامية، وهو تخوف يحمله الطرف الروسي أيضا؛ مع الفرق أن الخوف الأحادي في حالة الدول الغربية جعلها تتردد في دعم الثورة في سورية، في حين أن الخوف المزدوج من الغرب والإسلاميين دفع روسيا إلى العمل بقوة مع النظام السوري حليفها. ولذلك، وإذا لم يتم التوصّل إلى حل سياسي مع الروس في سورية، فسوف يضطر أوباما أو الإدارة المقبلة إلى تغيير إستراتيجيتها في سوريّة، وربما في الشرق الأوسط عموماً.
ومن وجهة نظر الدكتور عزمي، فإن هدف السياسة الروسيّة القريب من التدخل المباشر في سورية هو حماية نظام الأسد من الانهيار والسقوط. لكن وبمجرد وجود روسيا عسكريا في سورية، لم يعد النظام سيد مصيره، ولم يعد حتى لاعبا على الساحة الدولية، إذ أصبحت روسيا المقرر في أي مفاوضات دولية تجري بشأن سورية. ويواصل بالقول إن إنقاذ النظام ليس هدفا بحد ذاته، بل هو وسيلة لإثبات الذات والتقدم خطوة أخرى للعب روسيا دور دولة عظمى عالميا، عبر الشرق الأوسط. ولكن روسيا تصر على مشاركة الأسد، وقد تشير إلى مثال تفاوض الغرب مع الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش على الرغم من أعمال القتل المتكرّرة على أيدي القوات الصربية ضدّ مدنيين بوسنيين وألبان في كوسوفو، لكن هذه ديماغوغيا. فلا أحد يرفض التفاوض مع نظام الأسد، بل المرفوض هو مشاركته في مرحلة انتقالية بعد التفاوض. بقاء الرئيس السوري في مرحلة انتقالية يعني إفشالها. فهو ديكتاتور، ولا يمكن للديكتاتور أن يتقاسم السلطة مع أحد.
ولخص الدكتور عزمي أهداف التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية في ثلاث نقاط: جعل النظام يصمد مدّة كافية حتى تحصل موسكو على الاختراق المرغوب به على المسار الدبلوماسي؛ قطع الطريق على أي تدخل عسكري خارجي في سوريّة وهذه رسالة للأتراك والغرب على حد سواء؛ تعزيز وضع روسيا الدبلوماسي ويصبح من الصعب اتخاذ أي قرار في سوريّة من دون مشاركتها الحاسمة.
ولكنه يرى وجود كابحين ذاتيين رئيسين أمام تكثيف التدخل الروسي العسكري في سوريّة، وأولهما أوكرانيا، فلاتزال القوات الروسيّة متمركزة في مناطق الحرب هناك؛ وثانيهما كابح لوجستي، إذ إن نقل دبابات وأسلحة ثقيلة لفيلق واحد فقط مهمّة صعبة جداً للقوات الروسيّة المجهدة أصلاً.
ويخلص الدكتور عزمي إلى أنه من الصعب أن تصبح المهمة الروسية في سورية واسعة النطاق بقدر أفغانستان، كما أنها لا يمكن أن تتواصل لفترة طويلة، إنها تمهيد للبدء بالمفاوضات على أساس توازن بين القوى، بما يحافظ على مصالح روسيا والنظام السوري. وهو ما يرى فيه الدكتور عزمي مجالاً واسعاً للعمل والتأثير ضد التدخل الروسي إذا توفرت الإرادة عند القوى المؤيدة للشعب السوري. واختتم الدكتور عزمي بشارة حديثه بالقول: “مع تحول الحرب في سورية إلى حرب بين قوى تتصارع جيوستراتيجيا وليس أخلاقيا أو قيميا، يصبح الفرق بين المعارضة والنظام ملقى على عاتق المعارضة. فهي إذا طرحت بديلا ديمقراطيا للاستبداد تعني أنها قادرة على حكم سورية، وفي ما عدا ذلك تصبح المسألة مجرد صراع قوى ينتهي بتسوية، فالحروب الأهلية تنتهي بتسويات ومحاصصات للأسف. والأهم من ذلك أن التدخل الروسي حاليا قد يجعل مسألة طبيعة النظام في سورية، بل طبيعة سورية كلها مجرد بند في تسوية جيوستراتيجية بين دول كبرى”.
روسيا تسعى للعودة دولة عظمى وللانتقام أيضاً
يقدّر فيكتور ميزن، نائب مدير معهد الدراسات الدولية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، أن سياسة روسيا في سورية حاليا هي تجلٍّ لعودة روسيا قوة عظمى في الساحة الدولية، بعودتها إلى منطقة مهمة إستراتيجيا ومشاركتها في محاربة الإرهاب وحماية مصالحها الأمنية. ولم يهمل كون التدخل الروسي محاولة أيضا لتحويل الأنظار عن الفوضى التي تورطت فيها روسيا في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه إثبات أن روسيا ليست في عزلة دولية. ويتوقع فيكتور ميزن أن تكثف روسيا ضرباتها الجوية في سورية وأن عملياتها هناك ستستمر لثلاثة أو أربعة أشهر مقبلة، ويتوقف ذلك على تطور الوضع الميداني، لتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة جديدة تحدد بقيادة روسيا. وبحسب المحاضر، وبالنظر إلى سورية كرقعة تتصارع فيها مقاربات القانون الدولي والعلاقات بين الدول، تبدو روسيا متمسكة بمبادئ مؤتمر ويستفاليا ومركزية مفهوم السيادة وحق أي دولة في صد أي محاولة لتفكيكها. وفي المقابل تقود مفاهيم أخرى مثل “المسؤولية في حماية الشعوب”. ويضيف ميزن أن روسيا تسعى ولو بشكل غير رسمي إلى بلورة مفهومها الخاص “المحافظ المتنور” في مواجهة “التفسخ الغربي” وانحلاله من القيم الأخلاقية والروحية. وترى روسيا أنها تكسب تعاطفاً عبر العالم وفي العالم الإسلامي خصوصا من الذين ضاقوا درعا بسعي أميركا للهيمنة على العالم.
ويؤكد الباحث أنه لا أحد من الأطراف الدولية ذات المصلحة في سورية يريد إنتاج “ثقب أسود” جديد من عدم الاستقرار والإرهاب، وأن التوجه إلى حل سياسي تفاوضي أمر محتوم. ويعتقد أن مسار الحل في سورية قد يمر عبر هيكلة مشابهة لمفاوضات إيران مع مجموعة “خمسة زائد واحد”، بحيث تضم كلاً من الولايات المتحدة وروسيا وممثل الاتحاد الأوربي وتركيا وممثل لدول الخليج مع مشاركة الأردن. من جانبه، يرى مروان قبلان، الباحث ومنسق وحدة تحليل السياسات في المركز العربي، أن التدخل الروسي في سورية يمكن فهمه من مرتكزين. وأول مداخل الفهم هو “نظرة بوتن إلى الأمور والعالم”، فهو مصر على إعادة روسيا إلى مصاف الدولة العظمى، كما أنه محبط من تعامل الغرب معه، واستخفافه به، ومحبط أساسا من تعامل أوباما معه إذ لم يفضِ التقارب الذي دشنه أوباما مع بوتن منذ أول عهدي الرئيس الأميركي إلى أن يكون بوتن الشريك الند، بل كان أوباما أول دافع نحو فرض عقوبات على روسيا في أعقاب الأزمة الأوكرانية كأنه يتعامل مع أي دولة صغيرة. وتابع قبلان تحليله بالإشارة إلى أن بوتن يشعر براحة أكبر عندما يتقارب ويتحالف مع من يشبهه، فالديكتاتوريات ترتاح أكثر لديكتاتوريات مشابهة. وفي المجمل، يرى قبلان أن روسيا بوتن تدخلت في سورية عسكريا على الميدان إثباتا للذات وأيضا “انتقاما” من تعامل الغرب معها وخصوصا في أوكرانيا. والمدخل الثاني لفهم التدخل الروسي، بحسب الباحث، هو السياق الدولي الملائم، الذي يميزه الانكفاء الأميركي، مما يفسح المجال لتنافس أربع قوى إقليمية في المنطقة وهي تركيا وإيران، اللتين لديهما سياسة توسع، وإسرائيل التي لا تحظى بحلفاء في المنطقة ولكنها تستغل كل ثغرة تحقق مصالحها، والقوة الرابعة هي السعودية التي ينحصر اهتمامها حاليا في منع القوى الأخرى من تحقيق طموحاتها التوسعية.
روسيا ومفاتيح الحل السوري
يرى المفكر برهان غليون، أول رئيس للمجلس الوطنيّ السوريّ بعد انطلاق الثورة السوريّة، أن روسيا قد وضعت نفسها في موقع الطرف الأول في الوضع السوري. وأقر أن لدى روسيا جزءا كبيرا من مفاتيح الحل، فقد فرض تدخلها العسكري المباشر وجودها، كما أنها تحظى بما يشبه التفويض الدولي لقيادة عملية التسوية السياسية، من دون أن يعني ذلك التفاهم المسبق على شروط هذه التسوية وماهيتها. ويضاف لهذا أن روسيا أصبحت الوحيدة التي تملك القدرة على التواصل مع جميع الأطراف السورية والإقليمية والدولية، وعلاقات متميزة مع الخصوم الإقليميين الرئيسيين: إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا، وكذلك مع أطراف المعارضة السورية المعتدلة وغير المعتدلة، وهي الوحيدة التي تملك إمكانية التأثير على الموقف الإيراني من منطلق التحالف والصداقة. ولكن غليون يرى أن هذا الموقع المتميز لروسيا لا يعني بالضرورة نجاح بوتين في استخدام المفاتيح والأوراق التي في حوزته بالشكل الصحيح، إذ يواجه ذلك تحديان رئيسيان، أولهما التصور المسبق الذي يحمله الروس عن طبيعة الحرب ورفضهم منذ البداية الاعتراف بشرعية مطالب السوريين، وثانيهما تشتت المعارضة وغياب القطب الجامع والمسيطر فيها مما يضعف موقعها ويساعد على تهميشها. ويؤكد برهان غليون على ضرورة وقوف الدول العربية بقوة وراء المعارضة وعدم التسليم لنوايا موسكو أو الثقة بها، والمساعدة على إبراز قيادة وطنية سورية تضم تحت جناحها جميع الفصائل المسلحة وغير المسلحة وتمثلها وتتكلم باسمها. وتلك هي الضمانة الوحيدة للدفاع عن حقوق الشعب السوري وثورته في مواجهة تفاهمات جيوستراتيجية بين القوى الدولية المتصارعة في الرقعة السورية.
ردود فعل متضاربة
كُرس عدد من أوراق الندوة العلمية للمركز العربي، لدراسة ردود الفعل الدولية والإقليمية من التدخل الروسي المباشر في سورية والمواقف المختلفة منه. وقدم سليم أوزرتيم، مدير مركز دراسات أمن الطاقة في منظمة البحوث الإستراتيجية الدولية، ورقة عن انعكاسات تحول الإستراتيجية الروسية في سورية على السياسة الخارجية التركية. وأشار فيها إلى الرد التركي على التدخل الروسي، من خلال البحث عن نقطة تطبيع جديدة في العلاقة مع روسيا قائمة على المعطيات الجديدة. ومن جانبه أوضح رود ثورنتون، الخبير بالشؤون العسكرية الروسية والأستاذ بجامعة كينغز كوليدج لندن، في ورقة بعنوان “روسيا وإيران في سورية: تحالف أم تنافس؟”، أن ما يجمع روسيا وإيران في سورية هو تمسكهما ببقاء الأسد على اختلاف أسبابهما، كما يلتقيان عند الرغبة في إنهاء خطر “داعش” أو تحييدها. وفي سياق ردود الفعل الدولية ونظرة مختلف الأطراف إلى التدخل الروسي أيضا، تحدث سيرغي ستروخان، المحلل السياسي في دار النشر الروسية “كوميرسانت”، عن توقعات كانت تشير إلى إمكانية اشتراك روسيا والتحالف الغربي ضد داعش في حلف واحد ضد عدو واحد – داعش – يمثل تهديدا للحضارة، كانت توقعات ساذجة. وأن ما حدث هو تشكل حلف ثان ضد داعش لا يتشارك مع الحلف الغربي في نظرته إلى الأزمة السورية وفي تعاونه مع نظام بشار الأسد وحمايته له، ويضم إلى جانب روسيا كلاً من إيران والعراق والنظام السوري نفسه. ويقدر أن التدخل الروسي المباشر في سورية تسبب في خلخلة التحالف الغربي العربي، ونموذج ذلك تأكيد الإمارات العربية المتحدة (أحد أعضاء التحالف الغربي-العربي) أنها لا ترى في التدخل الروسي خطراً، وأنها لا تبالي برغبة روسيا في بقاء نظام الأسد. ويرى ستروخان أن تنافس الحلفين لن يحدد من منهما سيحقق النصر على الإرهاب ولكنه سيحدد النظام الإقليمي الجديد للمنطقة. وقلل حيدر سعيد الباحث في المركز العربي من إمكانية تمدد التدخل الروسي إلى العراق، لأن للحملة الروسية منطقها العسكري، وثمة هدف عسكري، واضح محدد، يتمثل بقطع الطريق إلى دمشق، أمام الجماعات المسلحة السورية، بعد ما بدا أن بإمكان هذه الجماعات تهديد دمشق والوصول إليها، ومن ثم، تهديد النظام السوري في وجوده، وذلك بعد ما حققت هذه الجماعات من تقدم على هذا المسار مؤخراً. وهذا يعني أن داعش خارج دائرة الأهداف الروسية لهذه الحملة. ومن ثم، يبدو أن العراق كله يقع خارج دائرة التفكير الروسي. غير أن إعلان روسيا عن إنشاء مركز تعاون استخباري أمني، يجمع روسيا وإيران والعراق وسورية، مقره في بغداد، يبقي احتمالا ضعيفا لمساعدة روسية في الحرب ضد داعش في العراق.
ويرى حيدر سعيد أن ثمة موقفين عراقيين من الحملة الروسية: الموقف الرسمي، الذي يمثله رئيس الوزراء حيدر العبادي، والذي يعلن أنه لا يقبل بأن يندرج العراق في سياسة المحاور القائمة (بحسب ما جاء في البيان المشترك الذي أصدره العبادي ورئيس الجمهورية فؤاد معصوم)، وموقف (الحشد الشعبي)، الذي انخرط بالفعل في التنسيق مع الروس، ليس في العراق فقط، بل كذلك في ما يخص الوضع القتالي في سورية، والذي يجمع الآن ما هو أكثر من الحلف الرباعي السالف، كل الأطراف الداعمة لنظام الأسد، والتي قبلت بأن تكون جزءا تنفيذيا من الحملة التي تقودها روسيا.
ومن جانبه يؤكد رضوان زيادة في تحليله الموقف الأمريكي من التدخل العسكري الروسي في سورية، أن أوباما يبدو منسجماً تماما مع عقيدته السياسية في الانسحاب الكامل من منطقة الشرق الأوسط وعدم استخدام القوة العسكرية عند الحاجة لها بالنظر إلى التكاليف الباهظة التي تحملتها إدارة بوش السابقة في حربيها في العراق وأفغانستان. لكن هذا الانسحاب الكامل كلف الولايات المتحدة خسائر لمواقع إستراتيجية ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما في أوروبا الشرقية أيضا وخاصة في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، يعد ظهور داعش وتمددها في المشرق العربي في كل من سورية والعراق، هزيمة إستراتيجية لعقيدة الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب. وأوضح محمود محارب، الباحث المشارك في المركز العربي، في عرضه الموقف الإسرائيلي من التدخل العسكري الروسي في سورية، أن إسرائيل تولي أهمية كبيرة للتدخل العسكري الروسي المباشر في سورية وتعتبر أن هذا التصعيد يمكن أن يخدم سياساتها ومواقفها التي بلورتها منذ تفجر الثورة السورية، وهي إطالة أمد الحرب أطول فترة ممكنة لإضعاف سورية الدولة والشعب والجيش، وتقسيمها على أسس طائفية وإثنية، وإخراجها من دائرة الصراع مع إسرائيل أطول فترة ممكنة، وإبقاء نظام بشار الأسد في الحكم ضعيفاً.