وليد أبي مرشد: انقاذ الظاهرة اللبنانية/زياد ماجد: السجال حول الحراك اللبناني وهجاء المُثقّف/إيلـي فــواز: عندما يولّد اليأس الغباء

298

انقاذ الظاهرة اللبنانية
وليد أبي مرشد/الشرق الأوسط/15 تشرين الأول/15
في وقت تنهار فيه هيبة الدولة اللبنانية وتكاد تغرق في حالة شلل قد تجعلها مقعدة إلى فترة غير معروفة، كان متوقعًا أن تتشدد أجهزتها الأمنية في تصديها لمظاهرات «الحراك الشعبي». التشدد الأمني قد يكون إجراءً ضروريًا لاستعادة هيبة الدولة.. ولكنه، قطعًا، ليس الإجراء الأنسب، فالإفراط في الاعتماد على الحل الأمني لأي نزاع سياسي في لبنان قد يطيح «بالظاهرة اللبنانية» المميزة في الشرق الأوسط. إذا كان ثمة عبرة لمظاهرات لبنان السلمية فقد تكون تأكيدها أن الحالة اللبنانية ما زالت مختلفة عن حالة دول الجوار التي اختصرت الحياة السياسية فيها بالسلطة المركزية، واستطرادًا بأجهزة مخابراتها. ورغم أن التركيبة البنيوية للمجتمع اللبناني التعددي تشكل، إلى حد ما، مناعة ذاتية من الإصابة بعدوى «المركزية» السائدة في دول الجوار، فذلك لا يزيل مشاعر قلق الكثيرين من قضم تدريجي للحريات العامة في لبنان الذي يمر اليوم بحالة فصام ظاهر بين شارع ضاق ذرعًا بما يتحمل من أعباء معيشية ومن فقدان لأبسط الخدمات الاجتماعية وسلطة سياسية ضاقت ذرعًا بمطالب الشارع – ومعظمها بديهي في أي دولة عصرية. ملامح حالة الفصام اللبنانية تبرر التخوف من أن تتحول إلى عامل زعزعة للسلم الأهلي في حال تطورها إلى صراع بين جيلين: جيل الحرب الأهلية الممسك بزمام السلطة إلى يومنا هذا، وجيل الحراك الشعبي المتطلع إلى دولة تكون قيّمة على حقوق اللبنانيين كما واجباتهم. لا يختلف لبنانيان، إلى أي جهة سياسية انتميا، على أن إصلاح الدولة، وإعادة تأهيل مؤسساتها، هو عنوان المرحلة. واتهامات الهدر والفساد المتبادلة بين عدد من نواب البرلمان، وقبلهم بعض وزراء الحكومة الواحدة، مبرر كاف لاعتبار مواجهات الحراك الشعبي والسلطة السياسية صدامات تتعدى «المحاسبة السياسية» إلى صراع بين جيلين وذهنيتين. قد يكمن هنا بيت القصيد.. فجيل الحرب الأهلية، رغم إقراره ضمنًا بضرورة إصلاح الدولة، متمسك بمواقعه والحراك الشعبي زاده تمسكا بها.
أقصى ما يرضى به جيل الحرب الأهلية من «تنازلات» هو تسوية سياسية مع الجيل الصاعد لا تخرج عن قاعدة تسويات لبنان التقليدية – كي لا نقول التاريخية – أي «لا غالب ولا مغلوب».
بيد أن تمسك طرفي المواجهة بمواقفهما في ظل غياب أي مسعى لإطلاق حوار جدي بينهما من شأنه تحويل لبنان – بمؤسستيه السياسية والاقتصادية – إلى «مغلوب» وحرمان السلطة والشارع، معًا، من مجد الادعاء بأنه «الغالب».
قد توصلت حملة الحراك الشعبي إلى إسقاط الحصانات الطائفية لمن تتهمهم بالتقصير والهدر بين أرباب السلطة. ولكن الحراك ما زال أعجز من أن يطيح بالتركيبة الطائفية – التوافقية للنظام اللبناني بدليل أنه لم يفلح، حتى الساعة، في تحقيق مطلبه السياسي الأدنى، أي استقالة وزير البيئة. وعوض أن يدفع الحراك الطبقة السياسية إلى استرضائه مطلبيًا، وضعها – على العكس – في موقع دفاعي حوّل «حائطها» في السراي إلى بنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا – بصرف النظر عن التباينات الحزبية أو السياسية بين مكوناته.
مع ذلك، إذا كان لا بد من «تنازل» يضع حدًا لمواجهات الشارع والسلطة، فالمفترض أن تأتي مبادرته من الطرف الأقوى، الطرف الممسك بالسلطتين الأمنية والقضائية، أي الدولة. في هذا السياق تشكل «طاولة الحوار» مدخلاً متاحًا للتسوية بمجرد خروجها عن قاعدة «محاورة الذات» ودعوة ممثلي المجتمع المدني والحراك الشعبي إلى المشاركة في وضع تصور مستقبلي لصيغة لبنان الغد. بذلك تكون طاولة الحوار قد عززت حس المسؤولية في أوساط قادة الحراك الشعبي وأشركت الجيل الصاعد في القرار السياسي، وفي الوقت نفسه مهدت لتداول طبيعي للسلطة يصون «الظاهرة اللبنانية» في الشرق الأوسط.

السجال حول الحراك اللبناني وهجاء المُثقّف
زياد ماجد/لبنان الآن/15 تشرين الأول/15
شهدت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخّراً مجموعة سجالات على هامش الحراك المدني – السياسي القائم في لبنان وارتباطاً به وبمآلاته. وتميّزت معظم السجالات بالحدّة التي كان يمكن أن “تمرّ مرور الكرام” كما في حالاتٍ سابقة، لولا أن عدداً من المشاركين فيها هم صحافيّون وكتّاب ينشرون دورياً في أكثر من صحيفة لبنانية وعربية، وأسماء بعضهم اقترنت في السنوات الأربع الأخيرة بنصوصٍ جميلة ومفاجِئة، ويصعب بالتالي عدم التوقّف عند ما كتبوا ويكتبون سجالاً أو هجاء. ما يعنينا في التوقّف السريع هذا، أمران. الأول مرتبط بالحراك نفسه، موضوع السجال المُفترَض. والثاني متّصل بقضايا ثقافية وسياسية أُثيرت، غالباً على شكل اتّهامات لشخصٍ بحاله وبما خُيّل أنه يمثّل، انطلاقاً من السجال إيّاه. في الأمر الأول، من الواضح أن الحراك مأزوم، وأنّ اختلاف النبرات والحساسيّات والأولويّات فيه لم يعُد تنوُّعاً يُغنيه. فبين من يعدّه حملة مواطنية لمحاسبة طبقة سياسية حوَّل أداؤها الفضائحي بيروت إلى مكبّ نفايات، وبين من يدفعه دفعاً نحو تصفية حسابات سياسية مع فريق لبناني واحد تحت شعاراتٍ اقتصادية اجتماعية يبرِّئ بموجبها فُرقاء آخرين من المسؤولية عمّا انحدرت إليه الأمور (ويمتنع أصلاً عن ذكر هؤلاء أو عن رفع صوَر سيّدهم)، وبين من يُريده كِفاحاً يُفضي الى إسقاط “النظام” بأكمله، وبين من يُسقط عليه رغباته بقيام حالة تمرّد شاملة على مختلف البُنى والمؤسسات وعلى الموروث من قيم ومفاهيم في البلاد، صارت الاختلافات تُنذر بضمور جسم الحراك الأوسع من مُكوّناته، وتنذر أيضاً بتحوّل هذا الحراك إلى مجموعة “أنشطة” ينفكّ عنها تدريجياً قسمٌ غير قليل من الناس. فكيف وأن “السلطة” تسعى بدأبٍ لمحاصرته، وتواجه المتظاهرين بالعنف والاعتقال وتبعث ميليشياويّين للاعتداء عليهم؟ يبدو السجال في هذه القضايا عاجزاً حتى الآن عن الوصول إلى بلورة “استراتيجية” واضحة للحراك والاتفاق على تحديد المُشترك الذي ما زال قائماً بين مكوّناته والبحث في سبل المحافظة على قدرته الاستقطابية لجمهورٍ عريض كالذي شارك في تظاهرة 29 آب الماضي. وما التركيز على “حيوية” الشارع و”وضوحه” وعلى استقلاليّته وعلى تحوّله “مختبراً” يُنتج لِوحده السياسة سوى تجنّب لمواجهة أزمات الحراك، تماماً مثل تجنّب النقد الصريح لملامح “العنف” التي ظهرت في عددٍ من أنشطته بحجّة أنها غضب مشروع أو عنف مضاد لعنف رجال الأمن والميليشيا. وتُفيد هنا الإشارة الى أنّ المُقارنات التي تُعقد مع الحالة السورية بلهاء إذ تكاد تُشبّه الشتم والضرب بالهرّاوات أو استخدام خراطيم المياه – وجميعها انتهاكات مُستنكرة في أي حال – بالبراميل المتفجّرة والكيماوي والتعذيب حتى الموت…
في الأمر الثاني، كتب عددٌ من الزملاء تعليقات تستنكر الأبويّة ونبرات التعالي على الناس وعلى الناشطين التي تظهر عند مقاربة بعض المثقّفين لقضايا الحراك. وكتب زميلٌ مجموعة تعليقات تصلح لكل سياقٍ تُتداول فيه عباراتٌ سمجة من نوع “صراع الأجيال” و”للعُمر حقّه” و”قلنا لكم”، فيما ذكّرت زميلة بما تتعرّض له من ملاحظات وتلميحات ذكورية كلّما كانت في موقع قولٍ أو فعلٍ يُربك رجالاً فلا يجدون غير الإحالات العائلية والعُمرية لمُحاصرتها وللهروب من ارتباكهم.
وأُطلقت حملات “هاشتاغ” بدت فيها الرغبة بهدم مُسلّمات ومقولات ورمزيّات جامحة، وفي الأمر ما يُحفّز التفكير في أكثر من مسألة ثقافية وأخلاقية ويمنع عنها الحصانات ويُفكّك ما قد يبدو محرّمات في طرحها. وكلّ ذلك ضروريّ ووجيه ومثير لأسئلة لا نطرحها كفايةً، جاء الحراك وما أحاط به ليُطلقها ولَو ابتساراً أو على شكل برقيّات سريعة. المشكلة في الأمر، والظلم الفادح فيه، أن قسماً كبيراً ممّا كُتب بدا استهدافاً لمثقّف لبناني عبّر عن دعمه الصريح للحراك وعن استنكاره في نفس الوقت لمظاهر العنف المضرّة به ونقده لقسمٍ من الشعارات التي رُفعت ومؤدّياتها. والمثقّف هذا، أحمد بيضون، ليس واحداً من أبرز المثقّفين اللبنانيّين والعرب فحسب، بل هو أيضاً أكثرهم حيويةً ورصانةً (بالمعنى العلميّ للكلمة)، ولا يُشبه صورة المثقّف النمطيّ التي أُريدَ تحطيمها، ولم يبدُ في قوله وسلوكه العام مرّةً ما يشي بنزعات سلطوية أو أبوية أو ذكورية لديه، على العكس من الكثيرين من أترابه، وعلى العكس ممّا تُبشّر به أحياناً نزعات البعض من جيل أبنائه وبناته. حتى فصاحة اللغة العربية التي يتحصّن بها كتابةً لا تبدو متكلّفةً أو اصطناعاً يُريد الإيحاء بغموض أو تصعيب مهمّة القرّاء، وهذا يُسجّل له إذ هو من القليلين الذين تبدو العربيّة معهم لغة مطواعةً قادرة على مقاربة المواضيع جميعها بحصافةٍ أو بِلهوٍ ومرح.
بهذا المعنى، لم يكن اتّخاذ بيضون رمزاً لفئة من المثّقفين المنويّ نقدهم أو إسقاط قداستهم موفّقاً، إذ ليس هو المعنيّ بالأمر. وإن كان من خلاف سياسي أو نقد ثقافي أو استياء من مصطلحات محدّدة استخدمها الرجل في تسجيله ملاحظاته على الحراك من الموقع الذي يشاؤه، فلا أظنّ الردّ يكون بترسانة جاهزة وبحججٍ مُحقّة، لكنّه ليس طريدتها الأمثل ولا حقل عملها المشروع. فأن تُحاكَم صفةٌ أو قيمةٌ شائعةٌ (تنبغي مُحاكمتها فعلاً) عبر إلصاقها بمن لا يحملها أو يجسّدها، ففي الأمر تجنّ وظلم يُفقد المحاكمة نفسها الكثير من صدقيّتها…
في المحصّلة، وبالعودة الى الحراك، عكَس التوتّر المُحيط به وبدعمه كما بنقده أهميّة ما حقّقه من خلخلةٍ لاستقرار شكليّ كان أقرب الى الكسل والاستسلام لواقعٍ انحطاط مهين، جرّت إليه البلادَ طبقةٌ سياسية لا يُميّز أكثر مكوّناتها سوى انعدام الكفاءة والفساد وموهبة الاستفادة من الشبكات الزبائنية والعصبيّات والأوهام الطائفية. ولهذا تحديداً، يبقى الانحياز الى الحراك في شكله المواطني “بداهةً” ووفق شعاره الأوّل “كلّن يعني كلّن” ومن دون ادّعاءات تتخطّى في المقبل من الأيام مواجهة تعاطي “السلطة” مع أزمة النفايات وما ماثلها من أزمات وقضايا مهمّةٍ أُخرى. عدا عن ذلك، أخشى أن نندم بعد فترة فنكتب عن التوق لحراك جديد…

عندما يولّد اليأس الغباء
إيلـي فــواز/لبنان الآن/15 تشرين الأول/15
ليست صدفة أن تبرز في يوم احتفال ميشال عون بهروبه من قصر بعبدا تاركاً وراءه عائلته الصغيرة وتلك الكبيرة -الجيش – التي لطالما ادّعى حرصه عليها، شعارات وصوراً غريبة. فهناك مطبخ عوني يحضّر بدقة لتلك الشعارات التي توزعّ على مناصري التيار الوطني الحر، وتعكس في مكانٍ ما توجهاً فكرياً أو سياسياً معيناً لهذا التيار، كتلك مثلاً التي تبجّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يافطةٌ حملها من ينادون بالسيادة والحرية والاستقلال جاء عليها: “إجاكم فلايمير يا بلا ضمير”. المشكلة تكمن في داخل هذا المطبخ. وفي قراءة خاطئة لتطورات المنطقة، وفي تسرّع لاستنتاجات في غير مكانها، وفي الاستقواء مرحلياً بأقلية مسلّحة سينتهي بها المطاف الى الانكسار والإيمان المطلق أن ما يحصل هو نتيجة مؤامرات. على الموارنة ان يسألوا مفكري التيار مثلاً عن جدوى رفع صور بوتين في تظاهرة 13 تشرين. هل يعتقد فعلاً من طبع في احدى “أقبية الحقد” في الرابية صوراً لبوتين ان هذا الاخير قد يستطيع تغيير المعادلة في سوريا مع الف جندي جلهم من التقتنيين وبضعة طائرات سوخوي؟ هل يظن نخبة العونيين ان روسيا التي تحارب جورجيا وأوكرانيا، دول السوفيات السابقة، لوضعها تحت الوصاية البوتينية من دون نجاح، ستستطيع فعلاً حماية بشار الاسد ونظامه؟ ثم ما هي الحكمة من وراء استفزاز مشاعر سنّة العالم العربي الذين يرون بالرئيس الروسي جزاراً آخر على طراز بشار الاسد؟ وهل يعتقد للحظة الطباخون الانتهازيون ان عون له وزن إذا ما وضعه الروسي في ميزان مصالحه مع الدول العربية؟ الم يتعلم اولئك من تجربتهم في الحكم عام 1991؟
الاجوبة عن هذه الاسئلة قد تفسر اسباب تراجع الحضور السياسي المسيحي، من دون إغفال التغيرات الديمغرافية الجذرية التي حصلت في لبنان منذ بدء الحرب الاهلية. لكن الاستنتاج يبقى واحداً: الموارنة لم يتأقلموا مع الوضع المستجد بعد الحرب الاهلية، حيث قصر نظرهم معطوفاً على شعور هزيمة لحقت بهم بعد الطائف جعلهم أكثر ميلاً للانتحار، كما جعل مواقفهم متناقضة مع فكرة لبنان الذي اسسوه مع المسلمين بلداً للتسويات لا يكون فيه غلبة لطائفة على اخرى.  هؤلاء الناس الذي يقودهم عون ينتظرون منه ان يعيد امجاد المارونية السياسية بكل بساطة، وأن يستعيد ما اخبرهم عنها أنها حقوقهم المسلوبة في اتفاق الطائف باعتباره هزيمة شخصية له، لينتقل بعدها الى حكم كل لبنان كما حكم من قصر بعبدا بعض المناطق الشرقية.  هؤلاء الناس الذين يناصرون عون سيصابون بالاحباط في كل استحقاق يفشلون فيه بفرض ارادتهم على شركائهم في الوطن، واذاك سيسعون الى لوم الاخرين ليبقوا اسرى دوامة الكره أبداً.
قد يكون وليد جنبلاط اكثر السياسيين اللبنانيين تقلباً بالمواقف، ولكن لتلك التقلبات حكمة يرمي من خلالها بك المختارة الحفاظ قدر المستطاع على مصالح الطائفة الدرزية واستمرار دورها السياسي في النظام الطائفي اللبناني. هذا المنطق لا ينطبق على من يمثل اكثرية المسيحيين حسب اخر انتخابات نيابية جرت في لبنان. مأساة الموارنة عموماً وعون وجمهوره خصوصًا انهم اسرى الماضي….