جورج سمعان: سورية بين نظرية بريماكوف وهجوم بوتين/أندرو فوكسال: لا تثقوا ببوتين في سوريا/مأمون فندي: اللوبي الإيراني مرة ثالثة

437

سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين
جورج سمعان/الحياة/21 أيلول/15
«العسكرة الروسية» في سورية لم تتضح معالمها كاملة بعد. لكنها بالتأكيد تندرج في إطار سياسة استراتيجية. إنها خطوة في إطار مشروع قديم. وتطور طبيعي لنهج الرئيس فلاديمير بوتين. نهج عبر عنه أفضل تعبير يفغيني بريماكوف في أكثر من مناسبة وكتاب وخطاب. حتى يخيل أن سيد الكرملين يسير على خطى نظرية صديقه الذي نعاه قبل أشهر. وصفه بأنه رجل دولة وعالِم وسياسي ترك إرثاً ضخماً جداً. وأنه أراد دوماً أن يستمع إلى آرائه في القضايا الدولية. وخلاصة النظرية أن بلاده الضعيفة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكنها مواجهة الولايات المتحدة والغرب عموماً. لكنها يمكن أن تعود قوة عظمى كما في السابق بالحفاظ على «الخارج القريب» من الفضاء الروسي. أي الجمهوريات السوفياتية السابقة. ثم الانطلاق بالتدريج نحو الأبعد. دعا إلى تمتين عرى «رابطة الدول المستقلة» (روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا ومولدلفيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وكازخستان وطاجيكستان وقرغيزستان). ونادى باكراً، مطلع التسعينات، بقيام «المثلث الذهبي» مع الهند والصين. لم يحض على مقاطعة أميركا بل حض على التفاوض معها. وبالفعل قاوم الرئيس الروسي سعي «الناتو» إلى ضرب طوق حول بلاده. لم يتردد لحظة، كما هو معروف، في اقتطاع أوسيتيا وأبخازيا من جورجيا عندما شعر بأنها تسعى إلى دخول الحلف، واستضافة جزء من «الدرع الصاروخية» للأطلسي. كما لم يتردد في القفز إلى أوكرانيا واقتطاع ما طالته يده. وهو يرفع عصا التهديد في وجه دول البلطيق بذريعة حماية المجموعات الروسية في هذه البلدان.
وبريماكوف هو أيضاً صاحب مقولة أن روسيا «لا يمكنها إلا أن تكون في الشرق الأوسط، ولا أريد أن يتكون انطباع لدى أيّ كان بأنها تنوي الذهاب من هناك». وهذا ما يريد تأكيده الرئيس بوتين من انخراطه العميق في الأزمة السورية. وهو استمع إليه بوجوب استعادة صداقات السوفيات التاريخية مع العرب، من مصر إلى العراق وما تيسر بينهما في الطريق. والواقع أن روسيا منذ أيام بطرس الأكبر تجد صعوبة في التصالح مع الغرب، أي أنها ترفض سيطرة أميركا وأوروبا عليها، ليس بمعنى القوة أو الحرب، بل بالمفاهيم الثقافية وطرق الحكم والإدارة وسياسة الناس. تؤمن بأن لها دوراً خاصاً ومختلفاً. والدعاية التي يروج لها الإعلام الروسي اليوم استعادة للإعلام السوفياتي: الغرب هو العدو. مع فارق واضح أن الناس كانوا أيام الحرب الباردة يتوقون إلى الانعتاق وعيونهم على أوروبا وأميركا. فيما تحفزهم اليوم روح قومية صاعدة. ويقفون خلف زعيمهم على رغم كل ما يقال عن المعارضة. وعلى رغم أن الأزمة الاقتصادية مستفحلة بفعل العقوبات وتدني أسعار الوقود.
ولا شك في أن الرئيس بوتين أفاد في «هجومه» من «قعود» الإدارة الأميركية الحالية، أو اعتكافها وترددها في المبادرة الجدية والمواجهة، ليعزز نفوذه ودوره في أزمتي جورجيا وأوكرانيا أو في أزمات الشرق الأوسط عموماً وسورية خصوصاً. وكان من سنوات بدأ بتحديث المؤسسة العسكرية وتحويل جيشه قوات محترفة معززة بأفضل الأسلحة. ومعروف أن موازنة هذه المؤسسة ربما كانت نسبياً الأكبر في العالم: نحو عشرين في المئة من الموازنة العامة للبلاد. التدخل في سورية إذاً يأتي في إطار مشروع وخطة ليسا جديدين. والهدف معروف: منع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد خصوصاً المؤسسة العسكرية، والحفاظ على الحضور الروسي الراجح في الشرق الأوسط وبناء قاعدة ثابتة في بلاد الشام. إضافة إلى استعادة العلاقات القديمة مع مصر والعراق. والهدف أيضاً جر أميركا وأوروبا إلى طاولة تفاوض تشمل أزمتي سورية وأوكرانيا وغيرهما من القضايا الكثيرة العالقة بين الطرفين. وكان اختيار توقيت التدخل مدروساً، وإلا لماذا لم يتم سابقاً عندما كان النظام في دمشق يتعرض لما تعرض له من تراجع في الأشهر الأخيرة؟ خطا الرئيس بوتين خطوته فيما المعنيون الآخرون بأزمة سورية منشغلون بأزماتهم. ولا حاجة إلى سرد ما تواجهه أميركا وأوروبا وتركيا ودول الخليج وإيران ومصر… من صراعات داخلية وحروب على حدودها، أوما تعانيه من تداعيات الاتفاق النووي وأزمة اللاجئين وغير ذلك مما بات معروفاً.
لذا ليس مبالغة القول إن الكرملين فرض قواعد جديدة على اللعبة. وما على جميع المعنيين بأزمة سورية سوى إعادة النظر في حساباتهم ومقارباتهم. والحديث عن احتمال رفع التحدي إلى حد الانخراط الميداني في الحرب يرفع وتيرة الضغط على هؤلاء. والهدف إرساء تسوية سياسية مرضية لموسكو، وفتح حوار في شأن الأزمات الأخرى وعلى رأسها أوكرانيا من أجل فك طوق العقوبات. وهذا هو الثمن الأساس الذي تريده روسيا. يمكنها أن تصبر على ضائقتها كما فعلت طهران التي لم تجد واشنطن في النهاية مفراً من الحوار معها. وقد نجح الرئيس بوتين حتى الآن في فرض أجندته على الجميع: أولوية الحرب على الإرهاب. وقد بدأ التنسيق بين القيادتين العسكريتين في موسكو وواشنطن. ولعلهما سيتقاسمان الأدوار: هذه تتولى «داعش» سورية، وتلك «داعش» العراق. ليس ضرورياً جلوس الطرفين الآن للبحث في سبل التنسيق. يمكن تكرار نموذج العراق حيث يخوض التحالف الدولي حربه على «الدولة الإسلامية» وتخوض إيران حربها هي الأخرى، كل بوسائله في أطار قواعد مدروسة ومصانة. والتنسيق نفسه هذا سينسحب أيضاً على الإسرائيليين الذين أغاروا أكثر من مرة على مواقع في قلب سورية بذرائع كثيرة. وهو ما سيحمله بنيامين نتانياهو إلى موسكو وهو يسمع بعض دوائره التي لا ترى ضرراً في الوجود العسكري الروسي إذا كان سيؤدي إلى إطالة الحرب التي تستنزف فيها إيران وينشغل بها «حزب الله»!
ولماذا لوم روسيا في فرض هذه الأولوية؟ أهل التحالف بدلوا في الأولويات. بريطانيا وفرنسا قررتا أخيراً، بعد أميركا، الانضمام إلى الطائرات الأميركية التي تضرب التنظيم الإرهابي في سورية. وأهملوا شروط أنقرة التي أصرّت على ضرب نظام الرئيس بشار الأسد أيضاً. صحيح أن القوى الغربية لا تزال تتمسك بشعار رحيل الأسد، لكن انخراطها العسكري في الأجواء السورية ليس عملياً سوى رفع أولوية محاربة الإرهاب على أي قضية أخرى. أي ان مواجهة الإرهاب لا تسير بالتوازي مع التسوية السياسية التي تصر عليها واشنطن والعواصم الغربية وبعض العرب. والسؤال اليوم: هل يبدل التدخل الروسي في المعادلات الحربية على الأرض؟ حتى الآن يصعب تحقيق إنجازات عجز عنها الجيش السوري وحلفاؤه. مثل هذا الأمر يستدعي الزج بآلاف الجنود. إذاً هل يكتفي الروس بإعادة هيكلة الجيش السوري ومده بالعتاد الحديث اللازم لضمان بقاء النظام في المناطق التي يسيطر عليها حالياً مع تحسين بعض المواقع هنا وهناك؟ أم أن هناك هدفاً آخر من الحرب على «داعش» «علناً» هو تحقيق إنجازات على الأرض ترغم كل أطياف المعارضة، خصوصاً «الائتلاف الوطني» والفصائل العسكرية التي تسمى معتدلة على تليين موقفها؟
من المسلم به أن الجبهات الساخنة التي تهدّد النظام يمسك بها «الجيش السوري الحر» والفصائل الإسلامية، من «أحرار الشام» إلى «جيش الإسلام» وغيرهما من ألوية و»جيوش». والانتكاسات الأخيرة التي أصيب بها كانت على هذه الجبهات، فضلاً عن تدمر التي استولى عليها تنظيم «الدولة الإسلامية». وأي تحرك روسي لاستعادة بعض ما فقده النظام يعني أن تشمل «الحرب على الإرهاب» حكماً كل هذه الفصائل «المعتدلة» وغير المعتدلة. في ضوء هذا الواقع ربما هدف التدخل الروسي إلى إرغام المعارضة على القبول ببقاء الرئيس الأسد، إن لم يكن لفترة معينة، فعلى الأقل القبول بتقاسم السلطة معه، كل في أرضه. علماً أن الأسد سيزداد تشدداً بعد الدعم الروسي. وهو أعلن أخيراً أن لا تسوية سياسية قبل دحر الإرهاب. أمام تطور كهذا لن يكون أمام المعارضة سوى خيارين: إما مواجهة التدخل الروسي وتوسعه، وإما القبول بخطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بلا أسئلة وتحفظات، على رغم ما يكتنف مآلاتها من غموض وتعمية، ومحاولة دفن بند الهيئة الحاكمة بصلاحيات مطلقة بين بنود أخرى كثيرة لا تعدو كونها مجرد قرارات وإجراءات يمكن هذه الهيئة اتخاذها مستقبلاً.
لا أحد يتوقع أن يجازف الرئيس بوتين في الذهاب بعيداً. لا تغيب عن باله تجربة أفغانستان. ومن المبكر توقع حدود التدخل في سورية. الثابت حتى الآن أن الولايات المتحدة لم تبد معارضة. بل سارعت إلى التنسيق. وقد ينتقل هذا من التكتيك العسكري كما قالت إلى حوار سياسي ما دام أنها هي الأخرى لا تمانع في «رحيل مؤجل» للأسد، ولا تريد سقوط النظام من دون ضمان «اليوم التالي». وإذا كانت موسكو ستساعدها على أهدافها الرئيسة في محاربة «داعش» فقد لا تجد غضاضة في مجاراتها في التسوية السياسية. وسيد الكرملين قادر على انتظار موعد لقائه مع الأميركيين والأوروبيين، ما دام أنهم سكتوا من قبل عن جورجيا وأوكرانيا. لكن الانتظار طويلاً ربما حمل مفاجآت غير محمودة، فالتدخل قد يتدحرج ليهدد «نظرية» بريماكوف و»هجوم» بوتين!

 

لا تثقوا ببوتين في سوريا
أندرو فوكسال/الشرق الأوسط/21 أيلول/15
في 4 سبتمبر (أيلول)، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده تمد دمشق بمساعدات عسكرية في مواجهة «داعش» – الدعم الذي جرى تعزيزه مؤخرًا. كما دعا لتشكيل «صورة ما من تحالف دولي لمحاربة الإرهاب والتطرف». ويأتي هذا متماشيًا مع سياسة موسكو حيال سوريا، والتي تميزت بالاتساق منذ عام 2010، وتقوم على إعاقة أي خطوة مدعومة أميركيًا لإسقاط الأسد، والعمل بدلا من ذلك على إجبار الغرب على إقرار وجوده كشريك. ورغم أن الغرب فرض حالة من العزلة ضد روسيا بسبب تصرفاتها، فإنها تطرح نفسها حاليًا كمخلص غير متوقع – وشريك لا غنى عنه في إطار الجهود الغربية ضد التطرف. ومع ذلك، عادت الشكوك في أن موسكو تستغل الإرهاب لتحقيق مصالحها للظهور على السطح. في يوليو (تموز)، ذكرت «نوفايا غازيتا»، إحدى الصحف القليلة المستقلة المتبقية داخل روسيا، أن مكتب الأمن الفيدرالي الروسي عمد إلى السيطرة على تدفق المتشددين من شمال القوقاز إلى سوريا، حيث انضم الكثيرون منهم إلى «داعش». وخلص التحقيق الذي عرضته الصحيفة إلى أن المكتب أسس «ممرا آمنا» يسمح للراديكاليين المتشددين بالانتقال عبر تركيا، وذلك لأن موسكو تفضل أن يقاتل هؤلاء المتشددون في سوريا بدلا من روسيا. بطبيعة الحال، لا تتناسب هذه السياسة مع زعم موسكو قيادتها الجهود الدولية ضد الإرهاب. من جانبه، قال الرئيس أوباما إنه شعر بـ«التشجيع» من مكالمة تلقاها من بوتين لمناقشة الأوضاع في سوريا، وإن هذا «يطرح أمامنا فرصة لإجراء حوار جاد». في الواقع، لا ينبغي أن يخدع أوباما بمثل هذه المكالمة. وتبدو سياسة بوتين الكبرى حيال سوريا – التي يروج لها وزير خارجيته سيرغي لافروف – واضحة: أن الدول الغربية والعربية، التي تمثل التحالف الحالي ضد «داعش»، ينبغي أن تتعاون مع الأسد، بجانب القوات الكردية والعراقية. وربما تنضم إيران و«حزب الله» وروسيا لهذا التحالف. وترى موسكو ضرورة أن يحصل مثل هذا التحالف على تفويض رسمي من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأن ينزل بعد ذلك الهزيمة بحركة التمرد المتشددة. ومن المفترض أن تفرض روسيا بعد ذلك الأسد على طاولة المفاوضات، وتتولى الإشراف على فترة انتقال سياسي تحافظ على نظامه. من جهته، ينوي بوتين إلقاء خطاب أمام الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة حول هذه الخطة في وقت لاحق من هذا الشهر. في خضم جهوده للترويج للتقارب بين روسيا والغرب في ما يخص التعامل مع «داعش»، يأمل بوتين إعادة تأهيل صورته، مثلما فعل بعد هجمات 11 سبتمبر. آنذاك، نجح بوتين في إقناع الغرب بأن التهديد الذي يواجهه داخل أفغانستان ومناطق أخرى هو ذاته ما تواجهه روسيا في الشيشان. وعبر القيام بذلك، نجح الرئيس الروسي في التخفيف من حدة الانتقادات الغربية الموجهة للوحشية الروسية في الشيشان. ورأى الكرملين في حماس الغرب تجاه التعاون مؤشر ضعف. وقد دفع ذلك بوتين نحو الاعتقاد بأن بمقدوره التصرف كيفما يحلو له داخل روسيا، والإفلات بذلك. ولا يزال هذا الاعتقاد قائمًا – لكنه لم يعد مقتصرًا على روسيا. حال إقرار تقارب جديد حول سوريا، سيصبح من السهل نسيان أوكرانيا. وينطوي ذلك على مخاطرة تقويض العقوبات التي يفرضها الغرب على صلة بأوكرانيا، وإمداد بوتين باعتراف ضمني بضم روسيا للقرم وهيمنة موسكو على شرق أوكرانيا. وبذلك يكون بوتين قد انتصر على النظام العالمي الذي فرضه الغرب بعد نهاية الحرب الباردة. وسينظر أعداء أميركا، من الصين إلى إيران، إلى هذا التطور باعتباره دعوة لإعادة تعريف علاقاتهم مع واشنطن. لذا، ينبغي على الغرب دراسة جميع الخيارات المتعلقة بسوريا – بما في ذلك تشكيل ائتلاف دولي مع روسيا ضد «داعش». إلا أنه حال اختيار هذا المسار، يجب أن يشك الغرب في إمكانية الثقة في بوتين، وفي المعلومات الاستخباراتية التي تقدمها روسيا، وفي إمكانية تقديم الكرملين العون في التفاوض بخصوص إقرار تسوية دبلوماسية داخل سوريا يمكن للغرب وحلفاؤه العرب تأييدها. لقد كشفت جورجيا وأوكرانيا ما يحدث عندما لا يتصدى الغرب لدبلوماسية روسيا القمعية. لا يجب أن نترك بوتين يملي علينا شروط التعاون، لأن السماح بذلك ينطوي على مخاطرة تكرار أخطاء الماضي.* خدمة «نيويورك تايمز»

اللوبي الإيراني مرة ثالثة
مأمون فندي/الشرق الأوسط/21 أيلول/15
في 14 مايو (أيار) 2008، أي في عز زمن مبارك، كتبت مقالاً في صحيفة «المصري اليوم» القاهرية، بعنوان «اللوبي الإيراني في مصر»، وأعيد التذكير به هنا لتوسيع الحوار مع الزميلة سوسن الشاعر حول الفشل الاستراتيجي العربي. فعلى غير عادة كثيرين من الكتاب العرب ردت الأستاذة سوسن الشاعر على مقالي عن «التوحد الاستراتيجي» العربي بمقال في الصحيفة ذاتها «الشرق الأوسط»، وأشكرها على ذلك لأن معظم الكتاب العرب يكتبون ولا يتحاورون، فقط يبثون ولا يستقبلون، أما وقد سنحت الفرصة للحوار، فيجب ألا تمر دونما استغلالها على أمل أن تشترك عقول أخرى في توسيع دائرة النقاش عن حالة التفسخ العربي الداخلية، واستغلالها من قوى غير عربية، وهنا لا أعني فقط اللوبي الإيراني، بل اللوبي التركي أيضًا، الذي تتزعمه جماعة الإخوان بأموالها وكتابها، وخصوصًا في دول الخليج، كتاب ليسوا بعيدين عن صناع القرار، وربما قريبون منهم لدرجة عدم رؤيتهم. في مقالي في عام 2008 طرحت سؤالاً واضحًا للقارئ المصري، الذي كان يومها ضحية لوبي إيراني متغلغل في القاهرة، وكان السؤال كالآتي: «بعد أن سيطر حزب الله على بيروت، سؤالي الواضح لأي قارئ عربي اليوم لا مواربة فيه، ودون لفّ أو دوران: هل أنت مع المشروع الأميركي الذي يريد إعادة رسم خريطة المنطقة العربية من الخارج؟ أم أنك مع المشروع الإيراني الذي يهدف إلى تقويض العالم العربي من الداخل؟!». يومها لم يكن في مصر كتاب مثل سوسن الشاعر يتحاورون، كان مدير مكتب قناة «المنار» في القاهرة من أقرب الناس إلى مبارك وجماعته، وكنت عندما تكتب عن اللوبي الإيراني تصنف أنك أميركي الهوى، لأن الغوغاء وأنصاف المتعلمين وكتاب «السبوبة» كانوا يسيطرون على المشهد. وكان «آية الله» الصحافة المصرية، محمد حسنين هيكل، الذي لا ينطق عن الهوى عند المثقفين في مصر، مع إيران وحزب الله، وكنت أنا أيامها أغرّد خارج السرب. النقطة الرئيسية هنا هي أن اللوبي الإيراني داخل العالم العربي حينها واليوم أكبر من اللوبي الإيراني خارجه. قلت في 2008 «إذا كانت أميركا تستخدم الغزو كوسيلة للتقسيم، فوسيلة إيران هي تقوية حركات أصولية داخل الدول، كي تبتلعها وتقوّضها من الداخل، حركات أصولية لها جيوش وإعلام وقنوات تلفزيونية».
أيامها كان الأمر واضحًا وضوح الشمس،، وما زال، أن العالم العربي يقع بين مطرقة إيران والفرس، وبين سندان الأميركان، العالم العربي اليوم متلاعب به في مشروعين، أحدهما أميركي والثاني فارسي. ورغم أن كثيرًا من العرب مغرمون بتحليل المشروع الأميركي الهادف إلى تقسيم العرب من الخارج، فإن كثيرًا منهم لا يتحدث عن المشروع الفارسي الهادف إلى تقويض العالم العربي من الداخل. قلت يومها، إن «لدينا اليوم كتابًا ورجال إعلام يروجون للمشروع الإيراني علانية وبفجور صارخ، ولكن تحت شعار التصدي للهجمة الأميركية على المنطقة. ومصر اليوم هي معقل اللوبي الإيراني في المنطقة». الحقيقة الواضحة كالشمس هي أن إيران كأميركا، فهي دولة محتلة لجزر العرب في دولة الإمارات، إذ تحتل إيران جزر أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى، كما أن لإيران نفوذًا غير مباشر في كل المنطقة، التي سمّاها ملك الأردن الهلال الشيعي. الغريب أن اللوبي الإيراني في الإعلام العربي أخرس أي صوت يتحدث عن الاحتلال الإيراني. أساس السيطرة الإيرانية في المنطقة هي استراتيجية إيرانية ثلاثية الأبعاد. البعد الأول يتمثل في تحالف إيران مع دول عربية، والبعد الثاني هو سيطرتها ودعمها لحركات تملك الشارع في بعض الدول العربية. أما البعد الثالث فهو يتمثل في وجود لوبي إيراني قوي في الإعلام العربي من مالكي الصحف إلى مالكي العراق، إلى كتاب ومعلّقين يتصدرون صفحات الرأي في أهم الصحف العربية، وكذلك مقدمو ومعدو البرامج في كثير من التلفزة ومحطات الراديو في البلاد العربية. إيران اشترت العشرات من الصحف والصحافيين، ومصر هي مركز التشيع الصحافي اليوم. كما رأينا في لبنان. إيران سيطرت علي لبنان عن طريق أهم حركة سياسية مسلحة اليوم في العالم العربي، وهي حركة حزب الله، حركة اكتسبت شرعية وشعبية، بعد خروج الإسرائيليين من لبنان.
وصفق لها الجميع، وادّعى البعض أن الشيعة في لبنان هم الوحيدون الذين طردوا إسرائيل من أراضيهم، أما أراضي السنة فما زالت ترزح تحت الاحتلال. الارتباط الإيراني بحزب الله، وكذلك بالجناح السياسي للشيعة المتمثل في حركة أمل والقبول الشعبي لحسن نصر الله. بين القومجية العرب والإسلامويين، جعل العرب يصدقون أن إيران هي المخلص للعرب من براثن الاحتلال. انظر ماذا يحدث اليوم، يوجّه سلاح إيران ضد السنة في لبنان، وفي مصر من يروجون لذلك، لأن فلوس الثورة الإسلامية قد أعمت القلوب. مفهوم أن تسيطر إيران على حزب الله الشيعي في لبنان، ولكن غير المفهوم هو سيطرة إيران على جماعة أصولية سنية في فلسطين. ولكن الأخطر اليوم هو تغلغل إيران أيضًا في كل الإسلاميين الحركيين، الذين يسيطرون على الشارع في كثير من الدول العربية. جماعات تدعو لزيارة طهران وأحيانًا تمول من طهران. وقد كتبت مقالاً عن المال الطاهر الذي تحدث عنه حسن نصر الله، وقلت يومها إن كلمة طاهر ليست من الطهر، بل الطاهر من طهران. لإيران اليوم علاقات خاصة بكل فروع جماعة الإخوان المسلمين، في مصر، وفي الأردن، وفي دول الخليج. علاقة إيران بإسلاميي الأردن هي ما دفعت ملك الأردن للحديث عن الهلال الشيعي وخطره على المنطقة. كذلك تغلغل إيران وسيطرتها شبه الكاملة في جنوب العراق هما ما دعوا وزير خارجية السعودية الراحل سعود الفيصل للحديث إلى الأميركان في عقر دارهم، قائلاً لهم «إنهم سلموا ثلث العراق لإيران». البعد الأخطر للهيمنة الإيرانية في المنطقة، هو سيطرة اللوبي الإيراني على الإعلام العربي وتخويف كل من ينتقد إيران، وربما تكفيره.
بسذاجة نحن غالبًا ما نقول إن فكرة اللوبي وأصحاب المصالح الخاصة هي فكرة توجد في الدول الديمقراطية فقط. الحقيقة هي أن جماعات الضغط وجماعات المصالح توجد في كل الدول، والناظر إلى اللوبي الإيراني في القاهرة مثلاً يرى عجبًا، فهناك مئات الكتاب الذين يروجون لإيران في أهم الصحف المصرية. بغض النظر عن المسيطر: أميركا أم إيران، المهم في الموضوع هو أن القوتين تتصارعان على السيطرة على العالم العربي، وأن العالم العربي هو متلاعب به لا فاعلاً في هذه الحملة الاستراتيجية. بالطبع، هناك تقريبًا دولتان أو ثلاث في العالم العربي يمكن الحديث عنها على أنها دول مستقلة ذات سيادة، لكن يبقى أصل المسألة واضحًا، العالم العربي اليوم هو منطقة صراع على النفوذ بين نفوذ الفرس من ناحية، ونفوذ الغرب من ناحية أخرى. العالم العربي اليوم يتم تفكيكه وإعادة رسم خريطته بطريقتين: الطريقة الأولى هي الطريقة الأميركية، المتمثلة في الغزو والاحتلال وتغيير الأنظمة من الخارج، كما حدث في العراق، الطريقة الأخرى هي الطريقة الإيرانية، التي تقوّض النظام من الداخل، عن طريق دعمها لحركة تصبح لها سيطرة، لها جيش وعلم وقناة إعلامية، تبتلع الدولة التي هي فيها، ومثال ذلك حركة حزب الله، كذلك رأينا كيف ابتلعت حركة حماس السلطة الفلسطينية، ورأينا كيف احتل حزب الله بيروت. هل أجهزة الأمن قادرة على تتبع فلوس إيران التي تضخ لمصر، للحركة وللصحافة، لديّ شك كبير في ذلك. هذا كان جل حديثي في مصر عام 2008، أما اليوم فالحديث عن اللوبي الإيراني يحتاج إلى حوار أوسع وأعمق.