وليد شقير:التدخل الروسي من دون حرب/راغدة درغام: خطة بوتين: العراق لواشنطن وسورية لموسكو/روجيه عوطة: البرميل والحائط والخط الأحمر

440

التدخل الروسي من دون حرب
وليد شقير/الحياة/18 أيلول/15
تقف روسيا على الحافة بين التزامها مقولة الكرملين الدائمة بوجوب التزام القانون الدولي وتشريع أي تدخل عسكري أممي في أزمات العالم، لا سيما في سورية، عبر مجلس الأمن، أو الانتقال الى اعتماد سياسة أحادية تستغني عن الغطاء القانوني الدولي، تحت شعار محاربة الإرهاب والقضاء على “داعش”، مع ما يعنيه ذلك من تصاعد في الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب. فسعي موسكو الى حماية نظام الرئيس بشار الأسد وحماية مكتسبات نفوذها في الشرق الأوسط انطلاقاً من دورها هذا في سورية، من طريق زيادة تواجدها العسكري كما حصل في الأسابيع الماضية، يشكل رسالة أولى بإمكان تخلي موسكو عن مبدأ الغطاء الدولي تمهيداً للدخول في صراع مكشوف، لا سيما مع الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد العالمي ككل. وإذا صح أن روسيا تتجه الى هذا المنحى فمعنى ذلك أن الرئيس فلاديمير بوتين حزم أمره للدخول في حرب باردة جديدة شاملة في مواجهة واشنطن وأنه سيتدخل حيث يستطيع ضد النفوذ الأميركي في القارات كافة. قد يكون من المبكر الوصول الى هذا الاستنتاج، قبل أن يحدد بوتين نفسه استراتيجيته في خطابه بعد أيام في الأمم المتحدة، وقبل أن يتضح ما إذا كان نظيره الأميركي باراك أوباما سيلتقيه في نيويورك، لمعرفة نياته من وراء تصعيد وجوده العسكري في بلاد الشام.
صحيح أن بوتين، بموازاة تمسك الديبلوماسية الروسية بالغطاء الدولي لأي تدخل عسكري في الخارج، مارس سياسة التدخل العسكري المباشر من دون إذن او تشريع دولي مرتين، في جورجيا عام 2008 ومن ثم في أوكرانيا عام 2014، ما تسبب بعقوبات اقتصادية غربية تنهك اقتصاد روسيا وتتسبب بعزلتها، لكن هذين التدخلين بقيا في الميدان الحيوي الروسي شرق أوروبا، وفي دولتين تقعان على حدود بلاد القيصر. أما الانخراط المكشوف في سورية فله بُعد آخر لأنه ينزلق بروسيا إذا ازداد تورطها مع إطالة الحرب السورية الى استنزاف طويل الأمد قد يصبح شبيهاً بتجربتها في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، ما أدى الى هزيمتها التي ساعدت مع عوامل أخرى في تفكك الاتحاد السوفياتي. وبقدر النقاش الحاصل في واشنطن في جدوى لقاء أوباما مع القيصر إزاء الهجوم الذي يقوم به وسط معلومات عن أن الرئيس الأميركي يفضل الانخراط الديبلوماسي مع بوتين، هناك نقاش في روسيا حول جدوى الدخول في مواجهة كاملة مع الغرب لأن ظروف الحرب الباردة ولّت ولأن الاستقطاب العالمي تبدّل جذرياً لغير مصلحة موسكو، بدءاً من أوروبا، و حول عقيدة بوتين بالتدخل العسكري حيث تتوافر الإمكانات لحماية المصالح الروسية وإيصال الأمور الى حافة الهاوية على طريق استعادة الدور القطبي في السياسة الدولية.
يبقي بوتين على خيط رفيع مع الغرب وواشنطن بحجة أن دول الغرب تعطي الأولوية لمحاربة “داعش” في سورية وأن طائرات التحالف التي تقصف مواقع التنظيم بدأت بذلك بعد أن أرسلت تطمينات بأنها لا تهاجم مواقع جيش الأسد وأنها دربت عناصر معارضة معتدلة (265 عنصراً) شرط حصر نشاطته بمحاربة “داعش” وأن التمسك بشرعية الأسد بالنسبة إليه شبيه باعتراف الولايات المتحدة بشرعية الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو على رغم التشكيك في نسبة الاقتراع خلال الانتخابات نتيجة الأزمة وانفصال القرم. وإذا كانت حجة بوتين من وراء تعزيز وجوده العسكري في سورية هي الشراكة مع الغرب في محاربة “داعش” كهدف يلتقي مع دوله عليه، فإن هذه الحجة تفترض رغبة الدب الروسي في التوصل الى تسوية مع الولايات المتحدة على سبل إدارة الأزمة السورية، والحل فيها، استناداً الى البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن في 18 آب (أغسطس) الماضي استناداً الى خطة ستيفان دي ميستورا التي تنطلق من صيغة جنيف 2012، بقيام هيئة انتقالية تنتقل إليها كامل الصلاحيات. وإذا كانت هذه الصيغة هي الطرف الأخير من الخيط فإنها النقطة التي يمكن للخيط أن ينقطع عندها، والتي تختصر الكثير من عوامل الصراع الدائر بين الدولتين العظميين. وإذا كانتا تتفقان على أن بداية الحل السياسي في سورية ليست مشروطة بذهاب الأسد وأن نهايته ليست مرهونة ببقائه، فإن المسافة التي تفصل هذه عن تلك هي المشكلة، لأنها تبقي الحل معلقاً على تبادل للضغوط تحت غطاء اتفاق مزعوم حول سورية، هو في الحقيقة اتفاق على نقل الأزمة الى مستوى جديد من الصراع، يناسب بوتين أكثر مما يناسب الغرب، من دون الوصول الى نهاية الحرب.

خطة بوتين: العراق لواشنطن وسورية لموسكو؟
راغدة درغام/الحياة/18 أيلول/15
بعد عشرة أيام في مدينة نيويورك، ستتزاحم المبادرات والتفاهمات والصفقات تحت عنوانين أساسيين هما الإرهاب والهجرة وكلاهما مرتبط في أذهان قادة العالم بسورية بالدرجة الأولى، ثم بالأزمات الأخرى المتفشية في المنطقة العربية.
الرئيس الأميركي باراك أوباما دعا الى قمة حول الإرهاب وفي باله «داعش» أولاً. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلّف وزير خارجيته سيرغي لافروف ان يترأس جلسة وزارية لمجلس الأمن تحمل عنوان «الحفاظ على السلام والأمن الدوليين: تسوية النزاعات في الشرق الأوسط ومناهضة الخطر الإرهابي في المنطقة». الرئيس بوتين أبلغ العالم صراحة ان روسيا تنوي خوض الحرب مباشرة وميدانياً ضد تنظيم «داعش» وأمثاله في ساحة المعركة السورية، وتنوي التمسك بالنظام السوري حليفاً أساسياً في هذه الحرب، وتريد من الولايات المتحدة أن تكون شريكاً عسكرياً لها – وللنظام – في هذا المسعى. الرئيس بوتين يريد اللقاء مع الرئيس أوباما في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تحتفي بعيدها السبعين. وقفة خاطفة أمام ما قاله سفير روسيا الحذق لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، لمحطة «سي.بي.اس» تكشف عن جزء من الاستراتيجية الروسية. قال: «أعتقد ان هناك أمراً نتشاطره مع الولايات المتحدة، مع الحكومة الأميركية: انهم لا يريدون لحكومة الأسد ان تسقط. لا يريدون لها ان تسقط. يريدون محاربة «داعش» بصورة لا تؤذي الحكومة السورية». وتابع تشوركين: «انهم لا يريدون للحكومة السورية ان تستغل حملتهم على «داعش». لكنهم لا يريدون إلحاق الأذى بالحكومة السورية بأفعالهم. فالمسألة معقدة جداً».
معقدة جداً، بالتأكيد، ان كان ما يقوله تشوركين مبنياً على افتراضات وتمنيات أو ان كان حقيقة لا تعترف بها الإدارة الأميركية علناً. فإذا كانت هذه مجرد قراءة روسية للسياسة الأميركية، فهي جزء من استراتيجيتها لتسويق ما تبتغيه لأنها تفترض ان واشنطن لن تتحداها عملياً. وبحسب تشوركين «المسألة واضحة تماماً في ذهني… ان أحد مصادر القلق الجدية للحكومة الأميركية الآن هو سقوط نظام الأسد وقيام «داعش» بالسيطرة على دمشق وتكون الولايات المتحدة حينذاك موضع اللوم لما حدث». قد يكون الرئيس السوري نفسه العقدة أمام تفاهمات أميركية – روسية، كما كان دوماً، وقد يكون النظام هو المخرج من عقدة الأسد. حتى الآن، ان الموقف الأميركي الذي نطق به باراك أوباما – ولم يتنازل أو يتخل عنه بعد – هو ان الأسد فقد الشرعية وعليه ان يرحل. الرئيس الأميركي وادارته تعمّدا اسقاط هذا الشرط – في أكثر من مناسبة – في التصريحات العلنية، لكن هذا ما زال الموقف الرسمي الذي لم يتنازل عنه باراك أوباما صراحة. في المقابل، وبكل وضوح ولأول مرة، قال الرئيس الروسي ان الدعم الروسي للحكومة السورية سيستمر سياسياً وسيتضاعف عسكرياً لأنها الحليف الذي لا غنى عنه في الحرب على الإرهاب في سورية. الديبلوماسية الروسية تتوجه الى نيويورك بعد عشرة أيام متأبطة مشروعاً متكاملاً للإنخراط في الشرق الأوسط. بالمقابل، تبدو الديبلوماسية الأميركية متحفظة ومنساقة رغماً عنها الى البحث في أزمات المنطقة.
هذا لا يعني أبداً ان الإدارة الأميركية اعتزلت الشرق الأوسط. ونتائج زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الى واشنطن مثال على اللااعتزال. انما المسافة بين الانخراط واللااعتزال مهمة للاستراتيجية سيما وان روسيا بوتين تعتزم الاستفادة منها بأقصى الحدود الممكنة.
القاسم المشترك بين الأولويتين الأميركية والروسية هو تقزيم واختزال الأمر الواقع للمسألة السورية الى ارهاب. واشنطن لا تنخرط في سورية بقرار رئاسي أتُخِذَ منذ سنوات. هذا اللاانخراط ساهم عملياً في تحويل الأزمة السورية من انتفاضة مدنية الى حرب أهلية الى ساحة اجتذاب للإرهاب بقرارٍ من عدة لاعبين بينهم الحكومة السورية وحكومات عربية واقليمية ودولية. في المقابل، مارست موسكو سياسة الانخراط بشراكة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية و»حزب الله» لدعم النظام في دمشق، وهكذا دخلت طرفاً في الحرب الأهلية وساهمت فعلياً في تحويل سورية الى مسألة إرهاب.
تريد موسكو وواشنطن اليوم، سحق «داعش» وأمثاله في سورية كما في العراق، لذلك تتأبطان ملف الإرهاب وتتوجهان به الى الأمم المتحدة لحشد الدعم الدولي لاستراتيجيته. «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة وتشارك فيه دول عربية انصّب على العراق وهو لا يضم بين أعضائه روسيا أو إيران مع ان إيران شريك سرّي للولايات المتحدة في الحرب على «داعش» في العراق. هذا التحالف أثبت إما الفشل والانهزام نسبياً أمام «داعش»، أو، انه لا يتنبه الى العناصر السياسية المهمة والضرورية إذا كُتِبَ له النجا،ح وواشنطن هي المسؤولة عن هذا التقصير. فإدارة أوباما انصبّت كلياً على هوسها بإنجاح الاتفاق النووي مع طهران ورفضت التنبه لمتطلبات إنجاح «التحالف الدولي» إذا ما تعرّضت لإيران، بل اختارت شراكة سرية معها. وهكذا سمحت «للحرس الثوري» الإيراني وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني ان يتباهى علناً بالشراكة السرية مع العراق وخسرت الكثير مما كان من شأنه ان يحشد الدعم الضروري لسحق «داعش» ميدانياً وسياسياً.
قاسم سليماني له علاقة أساسية بقرار روسيا الانخراط ميدانياً في الحرب على «داعش» وما يشبهه على الأراضي السورية. وجاء هذا القرار في أعقاب زيارته المعلنة الى موسكو بتزامن مع ضعف بنيوي خطير على النظام في دمشق أثار قلق طهران حليفة النظام. القلق الروسي – الإيراني على مصير نظام الأسد أدى الى تحوّل في اتجاه معاكس للذي توقعه وتحدث عنه الرئيس أوباما عندما قال أن موسكو وطهران مستعدتان للتخلي عن الأسد حرصاً على النظام. كلاهما قرر ان الحديث عن مصير الأسد ليس في محله – أو أقله، سابق لأوانه حالياً – بل ان الأمر يتطلب تعزيز الدعم السياسي والعسكري لنظام الأسد.
إعلان الرئيس بوتين عن هذا القرار وربطه بالحرب على الإرهاب يدشن مرحلة جديدة للدور الروسي في سورية. فقد تحدث بوتين عن تحالف اقليمي – دولي، وهو الآن يتحدث عن تحالف الحرب على الإرهاب بقرار دولي. انما الخلاصة ذاتها وهي ان روسيا اتخذت قرار خوض الحرب على الإرهاب في سورية.
متطلبات الحرب الروسية على الإرهاب في سورية تقتضي، بحسب الرئيس الروسي، ان تكون لموسكو صلاحية القيادة. بوتين، عملياً، يقول لأوباما: لكم الحرب على «داعش» في العراق، ولي الحرب على «داعش» في سورية. وهذا يتطلب ان توافق واشنطن – بصورة علنية أو ضمنية – على استراتيجية روسيا لكسب تلك الحرب بشراكة مع النظام والاعتراف بمركزيته لتحقيق الانتصار ميدانياً. فإذا وافقت واشنطن، هذا مستحسن لدى موسكو. وإذا لم توافق، فليكن. فقد قررت القيادة الروسية ان سورية مفتاح أساسي لها ولمصالحها في الشرق الأوسط، وان التحالف الروسي – الإيراني في مسألة سورية يشكل أولوية استراتيجية. لماذا؟
هناك عنصر التواجد الميداني من أجل ممارسة النفوذ عبر تحويل ميناء طرطوس الى قاعدة عسكرية روسية ومطار اللاذقية المدني الى مطار عسكري في خدمة روسيا. هناك عنصر النفط والغاز في الساحل السوري وتداعياته على المصالح الروسية في قطاع النفط والغاز. هناك عنصر استعادة الاعتبار عبر بسط النفوذ الروسي بعدما استبعدت الولايات المتحدة روسيا عن العراق في حربها على الإرهاب هناك، وبعدما «خدعت» دول حلف شمال الأطلسي روسيا في ليبيا. هناك مسألة فائقة الأهمية لروسيا هي منع صعود الإسلاميين الى السلطة كما حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا تحقيقه في مصر عبر دعم «الاخوان المسلمين» وتوليهم السلطة. وهناك قلق روسيا الجدّي من الإرهاب الإسلامي واقتناعها ان انتصاره في سورية سيأتي به الى روسيا.
وكي تنجح الاستراتيجية الروسية، رأت موسكو ان لا بد من شق سياسي يحمل عنوان حل أزمات الشرق الأوسط، بدءاً بسورية. لذلك تتحرك ديبلوماسياً تحت عنوان توحيد المعارضة السورية وهدفها الحقيقي كان تقليص «الائتلاف الوطني السوري» ومنع احتكاره المعارضة السورية. تحركت لاستبدال عملية جنيف بعملية جديدة تنسف الفكرة الأساسية في بيان جنيف أي انشاء هيئة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية. وما قدمته من بديل هو بمثابة تمزيق عملية جنيف بلطف على نسق إسالة دمائه بقطنة. ولذلك تحدث الرئيس بوتين عن استعداد الأسد لتقاسم السلطة مع المعارضة «الصحيّة» كما تعرفها الحكومتان السورية والروسية.
فروسيا متأهبة لدخول الشرق الأوسط بعدما أُخرِجَت منه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. والولايات المتحدة تبدو تقول لروسيا ان تتفضل لأنها غير راغبة بالانخراط مع انها غير جاهزة للاعتزال حتى إشعار آخر.

البرميل والحائط والخط الأحمر
روجيه عوطة/المدن/ الخميس 17/09/2015
في حين كان محبو رئيس المؤسسة التشريعية المقفلة، نبيه بري، ينقضّون على المعتصمين أمام وزارة البيئة، ويبرحونهم ضرباً، وفي حين كان البوليس يفسح المجال لوصولهم إلى ساحة اللعازارية، ويغض الطرف قصداً عن أفعالهم، فيكلفهم مواصلة مهمته، أطلق في “تويتر” هاشتاغ “#نبيه_بري_خط_أحمر”، الذي ظهر إثر كلامٍ وجّهه أحد المعتصمين إلى قائد “حركة أمل” عبر شاشة قناة “الجديد”. وهذا ما جعل المخلصين لبري يغردون ضد المحطة، ويحصرون دورها الإعلامي في “التسميم”، عبر هاشتاغ #سم_الجديد. مع العلم، أن المتفرج على التلفزيون في تلك اللحظة ينتبه إلى أن مراسلة “الجديد” عمدت إلى إبعاد ميكروفونها عن أي شخص يأتي على ذكر بري في أثناء استنطاقها له، فيصل صوته خافتاً. عبارة واحدة، منخفضة وبعيدة، كانت كفيلة بانتقال الشارع من قبضة القوى الأمنية إلى قبضة القوى “الأملية”، من الشرطة إلى الشرطة نفسها. أشهرت القوى “الأملية” خطها الأحمر، وحيّت المنقضين على المتظاهرين الذين نصحتهم بألا يتخلوا عن مصطلح “الطبقة السياسية”، وألا يتخطوا النطق به نحو الإشارة بأسماء مؤلفيه. وإذا أرادوا أن يذكروا إسماً من هنا وإسماً من هناك، فعليهم أن يستثنوا بري، لأنه “المحارب الأول للفساد والمكافح الأول للطائفية”، ولأنه “صمام أمان البلاد”، و”قائد الوطن”، و”لولاه ولولا حنكته لكان لبنان تحت الإحتلال”.
طبعاً، هذه الصفات لا تنفصل عن قاموس المديح للزعيم اللبناني، ورفع صورته ومنع التشكيك في طهارتها أو أدائها، كأنها لا تقيم وراء “خط أحمر”، بل هي “الخط نفسه”، على ما ذكرت إحدى المغردات.
إلا أن إعلان الخط الأحمر بوصفه حد التحريم، الذي على كل محتج، وبحسب القوى “الأملية”، الإبتعاد عنه، يندرج في سياق الحراك، الذي يحاول معسكر 14 آذار لجمه بآلية الطمر، ومعسكر 8 آذار بآلية الحظر. ذاك أنهما، وعلى وقع الشارع، كشفا عن وحدتهما في مواجهة التظاهرات، المأهولة بأناس يشهرون هوياتهم الدينية أو غيرها بلا أن يكونوا جنوداً من جنود سلطاتها. فعندما وجه المعتصم كلامه إلى نبيه بري أسوةً بغيره من زعامات نظام الحرب الأهلية في لبنان، بدا كأن خروج الطائفة الشيعية على سلطتها قد بدأ، بحيث أن ربط مصيرها بمصير حزب وحركة ما عاد يُحتمل، خصوصاً أن الطرفين لم يقدما لها سوى الخوف والحماية منه، مثلما لم يقدما لها سوى الإدقاع والإستثمار فيه. ممنوع الخروج بالطائفة من سلطتها، ومحظور النطق بأسماء ضابطيها. ثم، مَن يريد أن يفعل العكس؟ “الشلعوطين ونص” في الشارع، أي هؤلاء الذين، في صباح كل يوم، نقرأ ونشاهد ونسمع عبر الإعلام سرديةً جديدةً عنهم. مرةً، يدبجها إعلام “العابرين إلى الدولة” بمنطق حائطي، يزرع في الحراك حواجزه، ومرةً يقصها إعلام “المقاومة والممانعة” بمنطق برميلي، يُدَوِر الحراك، ويحاول تلفه بإحضار خطابه وشخوصه، من خالد حدادة ونجاح واكيم وزاهر خطيب وغيرهم، إليه.
مَن يريد أن يفعل العكس؟ “المندسون”، “زعران الخندق الغميق”،”عملاء السفارات الكبيرة والصغيرة”، “سرايا المقاومة”، “الحزب الشيوعي”، “الماركسيون اللينينيون”، “البربريون غير الحضاريين”، “الفقراء”… لا أحد يفهم من هم هؤلاء، لا أحد يدرك أن الشارع الآن يقطنه أناس، تعريفهم العملي أنهم رأوا، نعم، رأوا اللامحتمل حولهم، ولذلك بالتحديد، عمدت الدولة إلى إفقاد محمد قصير نظره! #نبيه_بري_خط_أحمر قالت القوى “الأملية” للشارع، مساندةً القوى الأمنية، وداعيةً المحتجين إلى التظاهر من أجل أي غاية، وحتى لو “من أجل إسقاط النظام”، لكن من دون تسمية قياداته. ثمة في ذلك نوع من المفارقة الشديدة. إذ يعرف المغردون، بخطهم الأحمر، أن زعيمهم، كباقي الزعماء، يريد تجميد أحوال البلاد، وبالتالي أحوالهم المعيشية، في ما دون حدها الأدنى، ولهذا السبب لا يمكن لأي مظاهرة مطلبية أن تحيده، لا سيما لما تُواجه برصاص شرطة مجلسه أو ترصد بكاميرات مخبريه.
كأن المغردين بحبهم لقائد حركة أمل يطلبون من المتظاهرين أن يعترضوا على معسكر 14 آذار فقط، تماماً كما هي الحال بالنسبة للمغردين من صفوف 14 آذار الذي يطلبون من المتظاهرين أن يعترضوا على معسكر 8 آذار فحسب. هذا، في حين أن الشارع يعترض على أداء الفريقين، اللذين لا يريدان منه أن يعترض في الأصل، بل أن يمكث أناسه تحت ثنائيتهما، وفي منازلهم، ويواظبون على نكران مشاكلهم اليومية بالخوف من التطرف، ومن انهيار السلم الأهلي، ومن عودة الحرب، ومن الفوضى، ومن العيش المشترك، ومن الإقتصاد… أن يمضوا عيشهم في الكتمان والإمتناع حتى النهاية، أن يمضوا عيشهم بين الخطوط الحمراء، التي لا تشكل سوى دوائر حولهم، تمنعهم من التنفس، ومن التعاطي بطريقة غير ضاغطة ومتوترة وعصابية مع هوياتهم وجماعاتهم وذواتهم. ربما، على الخارجين إلى الشارع أن يتوقعوا الكثير من المحظورات، التي ستضعها دولة “الدولة والدويلة” أمامهم كي لا يتقدموا، وكي تستمر في تجاهلها إياهم من جهة، ومحاولة القضاء عليهم من جهة أخرى. لقد كتب مرة فيلسوف رهيب: “العالم، الأنا، الله، الدائرة، المركز: هذا ما يمنع قدرتنا على التفكير في الحدث”، والآن، يمكن أن نضيف إلى عبارته: “البرميل”، و”الحائط”، و”الخط الأحمر.