علي الحسيني: حزب الله الساكت عن المجازر من الغوطة إلى دوما/علي نون: خلاصات مشتركة/عقل العويط: مهنة الترويض

373

حزب الله» الساكت عن المجازر من الغوطة إلى دوما
علي الحسيني/المستقبل/22 آب/15
أمس استعاد العالم مشهد جثث الأطفال والنساء الممددة على الأرض بعد تنشقهم غاز «السارين» من جراء قصف نظام بشار الأسد الغوطة الشرقية بصاروخين فريدين من نوعهما يحملان «هدايا» الموت الخانق في داخلهما لمدنيين عُزّل لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في بلد باعه حُكّامه بأبخس الأثمان لقاء ضمان إنتقال السلطة فيه من والد قاتل مأجور إلى ولد مجرم مأمور. فجر 21 آب العام 2013 استيقظ العالم على واحدة من ابشع مجازر العصر واكثرها فتكاً وقتلاً للإنسانية. جريمة ارتكبها النظام السوري بحق شعبه في الغوطة الشرقية راح ضحيتها أكثر من الف شخص نصفهم من الاطفال والنساء، والمفارقة أن المجزرة أو الإبادة الجماعية كما وصفها السوريون آنذاك، ارتكبت بعد ثلاثة أيام من وصول بعثة المفتشين الدوليين إلى العاصمة دمشق لتحقيق في اتهامات استخدام النظام السلاح الكيميائي ضد المدنيين، وكأنها رسالة من رأس هذا النظام إلى العالم بأسره بأن الحفاظ على كرسي الحكم لا يمكن أن تحده دماء الأبرياء ولا أشلاؤهم.
ذبح بلا دماء. التوصيف الأصح لمجزرة ارتكبها «بشار الكيماوي» ووقف على ضفافها حلفاؤه من داخل لبنان وخارجه. لم تُشعر مشاهد الضحايا هؤلاء الحلفاء والتي وزعت يومها بحسب الأرقام بعد أن تشابهت أجسادهم الممدة على أرض المستشفيات والمساجد بأي حرج تماماً كما لم تشعرهم مجزرة بلدة «دوما» منذ أيام بأي تأنيب ضمير ولا حتى دعتهم أقله أمام جمهورهم إلى وقفة مع الذات يستشرقون فيها حال غدهم، لكنهم وبكل تأكيد فقد إستعادوا مقطعاً صغيراً من مجزرة الغوطة يظهر فيه رجل يتوسل حفيدته ابنة العام أن تستيقظ من موتها «قومي الله يخليكي يا جدو»، لكن تسلل «السارين» الى داخل جسدها الطري، كان أسرع من رجائه وتوسلاته. «حزب الله» الحليف الأكبر والداعم الأبرز للنظام السوري لم يخرج عنه حتى اليوم أي إدانة للمجازر التي تُرتكب في سوريا على يد سفاحها، والأنكى من عدم إستنكاره يكون عادة بتوجيه إتهامات للمعارضة السورية بوقوفها وراء المجازر رغم التقارير الدولية والإعلامية التي تؤكد بالصوت والصورة مسؤولية حليفه عن أكثر من تسعين في المئة من المجازر التي ارتكبت منذ بداية الحرب السورية. لكن هذا كلّه يُقابله الحزب بردود فعل لا تتعدى مقولة «ليس هناك حرب نظيفة». بالأمس استسلم «حزب الله» مجدداً لصمته بعد مجزرة دوما. قد تكون دواعي الحلف تتطلب منه «موقفاً» كهذا وربما أكثر يمكن ان تصل في بعض جوانبها إلى حد المساهمة الفعلية وكأن هناك تناغماً يصل إلى حد الشراكة والتواطؤ على الشعب السوري، مع العلم أن صمته هذا عن المجازر يحعله شريكاً فيها، كما انه لا يتطابق مع الحملة التي ادارها بعد مجزرة «قانا» خلال العدوان الإسرائيلي في العام 1996، فيومها رفع شعارات «إنتصار الدم على السيف« وسط تأييد عربي ودولي واسع أدى لاحقاً إلى إسقاط الحكومة الإسرائيلية. بينما يقف اليوم عاجزاً حتى عن الإستنكار. في الذكرى الثانية للمجزرة، لا يمكن إستعادة حقيقة الأرقام أو الإحصاءات الأخيرة لضحاياها، لكن وحدها والدة الطفل ياسين عمّار ابن السنتين والذي قُتل يومها بعد تنشقه غاز الأعصاب، ما زالت تختزن في ذاكرتها آلام وأوجاع ذاك اليوم بكل لحظاته وتفاصيله، «لم يكن هناك من وقت للبكاء ولا للغضب إذ إن كل ما تمنيته ان يفتح ياسين عينيه او أن يُحرّك يده. حملته واتجهت مسرعة الى احدى سيارات الأسعاف التي وصلت بعد ساعتين على سقوط الصواريخ نظراً للحصار الذي فرضه النظام حينها. فرحت عندما خُيّل لي بأن رجله تحركت، لكن ذلك حدث بفعل السرعة التي توجهت بها إلى سيارة الأسعاف التي كانت امتلأت بجثث الأطفال. قبلته بين عينيه ووعدته بلقاء قريب».
مجزرة الغوطة التي ستبقى وصمة عار تُلاحق النظام السوري وحلفاءه، يُمكن أن تتلخّص بمعادلة حسابية بسيطة كان شرحها والد طفل قُتل في المجزرة، تقول « كيماوي سارين، كلور، خردل، + قصف براميل متفجرة، صواريخ + حصار + منع الغذاء والدواء والغطاء + تهجير حمص، القصير، يبرود + مليشيات شيعية + دعم دولي = أسلحة بشار الكيماوي التي قتل بها السوريين على مدى سنوات لكنها خذلته ولم تحقق له أي انتصار على الثورة. الثورة الى النصر و بشار الى القبر«.

خلاصات مشتركة!  
علي نون/المستقبل/22 آب/15
يسوّق الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني «إتفاق فيينا» باعتباره شرطاً «لحل القضايا الاجتماعية والاقتصادية» في بلاده.. ويذهب الشيخ هاشمي رفسنجاني خطوة إضافية الى الأمام لكن بحذر المتبرّم من ذلك الانفصام المروّع والمدمّر بين الواقع والشعار في دولة «ولاية الفقيه»، ويقول، لا فضّ فوه، تعليقاً على استمرار رفع شعار «مقاومة الغرب» في بعض المنتديات والنواحي والتنظيمات، «ان البعض كان يتغنى بشعار المقاومة، إلا أن إفقار البلد لا يُعتبر مقاومة». وفعل «كان» يدل على ماضٍ مضى، لكن الشيخ رفسنجاني، الذي سبق وأعلن قبل نحو عام، ان إيران «أفلست» بالمعنى الحرفي للكلمة، يستخدمه في موضع المضارع الراهن والقائم، ويتدخل على طريقته الصادمة في النقاش الصاخب الذي لا يزال مندلعاً، بين مؤيدي الاتفاق النووي ومعارضيه، والذي يُعتبر (النقاش) استمراراً للاشتباك السياسي والفكري العام القائم بين الاصلاحيين والمحافظين، أو بين الدولتيين والثورويين، في شأن كل توجهات إيران، الداخلية والخارجية. ما يقوله روحاني ورفسنجاني في خلاصته، هو أن السياق الذي حكم إيران في السنوات الماضية أوصل حسب الأول الى «قضايا اجتماعية واقتصادية« أي الى أزمات عميقة وبعيدة الأثر، وحسب الثاني الى حد «الافقار». وهما في ذلك، يقولان قول العارف ولا يرميان معرفتهما في غير موضعها، ويطلقان من داخل النظام حُكماً يدين هذا النظام ويؤكد كارثية نتاجه العام وعجزه المزدوج النظري والتطبيقي: أزمات داخلية متعددة الأبعاد في الشؤون المالية والاقتصادية والتنموية، وخواء تعبوي لا يعوّضه اللغو المفرط بمصطلح «المقاومة»، ولا باستخداماته المطاطة والمراهقة خصوصاً إذا كان من النوع الذي يضع «الغرب« في مرمى تلك «المقاومة»! لا يحتاج الجوار العربي والاسلامي لإيران، الى شهادات توثّق وتؤكد الكوارث التي أصابته بدوره من جراء الأداء الآتي من مصدر القرار ذاته. واقع الحال يفيد بأن «معاناة» الإيرانيين تبدو مرحلية وعابرة ويمكن معالجتها بمقاربات جديدة شبيهة بتلك التي دفعت الى الذهاب نحو الغرب من أجل الاتفاق معه والتخلّي عن مقارعته بمحاولة انتاج السلاح الافنائي التدميري الشامل، في حين ان «معاناة» الآخرين في هذا الجوار، الذين وضعتهم دولة «ولاية الفقيه» في صلب طموحاتها، تبدو أعمق بكثير من إمكانية معالجتها بمقاربات تسووية أو تصالحية جديدة! ما فعلته السياسة الخارجية الايرانية في بضع سنوات، تعجز أفحل العقول التآمرية الغربية (والاسرائيلية) عن انتاج جزء يسير منه على مدى عقود وعقود! بل لا تجوز المقارنة بين الأمرين أساساً: تكفي نكبة السوريين وتدمير بلد بحجم بلدهم! ونكبة العراقيين والاستثمار المخزي في تركة نظام صدام حسين! ونكبة اليمنيين والاستفادة الانتهازية الرخيصة والمسفّة من الحالة الاجتماعية والاقتصادية لبلدهم ولواقع تنوعهم الذي لم يكن أحد ينتبه إليه خارج اليمن! ويكفي البناء على مصيبة اللبنانيين في الاحتلال الاسرائيلي وفي تراكمات وتداعيات حربهم الطويلة وممارسات سلطة الوصاية الأسدية. وتكفي محاولات التخريب المبنية على فرضية الفتنة في دول الخليج العربي وفي البحرين والكويت خصوصاً.. يكفي كل ذلك النتاج العام لدولة «الولي الفقيه»، كي يكون الحكم عليها في الداخل والخارج هو ذاته، وان تباينت الى حدود كبيرة، الأثمان والتداعيات والتأثيرات والكوارث.

مهنة الترويض
عقل العويط/النهار/22 آب 2015
ماذا تفعل الأنظمة الاستبدادية، والمؤسسات الدينية، والاتجاهات والتنظيمات القيامية والتكفيرية، والأحزاب الشخصانية، والإيديولوجيات الكليانية، لتثبيت أحاديتها، وسلطانها، وترسيخ وجودها في الأرض؟ كيف تستولي على مصائر الدول، وتتحكم برقاب الشعوب، وتمحو النشاط النقدي في دماغ الرأي العام، فيصير قطيعاً من النعاج؟ كيف تروّض شعباً؟ أو شخصاً؟ أو متمرداً؟ أو صاحب رأي؟ أو صحافياً؟ أو مثقفاً؟ وكيف تصير هي “كلّ شيء”، و”كلّ وجود”، نائبةً عن الألوهة، ناطقةً باسم الأبد، وممثِّلةً له؟ هذه الافتتاحية مخصصة لملامسة مسألة الترويض، التي تقتل الحسّ النقدي لدى الجماعات والأفراد، وتستأصل روح الممانعة الأخلاقية.
إذا كان “مفهوماً” الرضوخُ القسري للديكتاتور في أنظمة استبدادية، كحال النظام السوري قبل اندلاع ثورة الأحرار، وقبل إجهاضها وقد كان ثمة، قبل ذلك، انتفاضات ثقافية – فكرية – سياسية خلاّقة شهدت لروح الثورة لدى السوريين خلال مراحل مختلفة، فإني لا أستطيع أن أتفهم حصول هذا الرضوخ في مجتمع يتمتع أفراده بالحدّ الأدنى من حرية الرأي والتفكير والتعبير. فما الذي يحمل شخصاً “عاقلاً” (موظف، أو أستاذ جامعي، أو طبيب، أو قاضٍ، أو عاطل عن العمل) على أن يكون في خدمة فكرة، أو عقيدة، أو رئيس، أو قائد، أو زعيم، إلى درجة العبودية (أكرّر العبودية)، والاستعداد للتضحية بكل شيء من أجله. في حين يغيب عن بال هذا الشخص “العاقل”، أن “معبوده” (أكان فكرة أم شخصاً)، لا بدّ أن يكون في أحسن الأحوال، كائناً نسبياً، محدوداً في الزمان والمكان، وفي العقل، وأنه عرضة للخطأ والصواب. فكيف يسع هذا الشخص “العاقل” أن يتعامى عن معطيات مثل هذا الواقع الموضوعي، فيسلّم إرادته، ووعيه، وشخصه، بصورة تبعية مطلقة، ليصير متماهياً مع شخص “معبوده”، رائياً بعيني هذا “المعبود”، مفكراً بعقله ومصالحه، ماعساً ملكاته الشخصية، وكاتماً طاقاته النقدية، غير آبه لذاته، باعتباره شخصاً عاقلاً، حرّاً، وسيداً؟!
أتحدث حصراً عن اللبناني، الذي عانى الأمرّين من تسليم ذاته إلى أسياده، في أيام الحروب، كما في أيام السلم الشبيهة بالحروب، ولا يزال على رغم كل العبر المريرة، ممعناً في التخلّي عن كرامته الوجودية، العقلية تحديداً، بقطيعية لا مثيل لها، لكن ممهورة بالادعاء والعنطزة والأبهة والاعتزاز. كم هو مثير للشفقة، هذا الماحي ذاته بيديه! كم يمحو بفعلته هذه، كلّ أملٍ له ولعائلته ولمجتمعه بالنجاة!
مثل هذا المحو، ينطبق على كلّ مَن يسلّم ذاته لطائفته، أو لمذهبه، أو لحزبه، أو لتيّاره، أو لقائده، تسليماً يخلو من كلّ مساءلة. وإذا كان ثمة مساءلة، فهي لا تعدو كونها فقاعة لفظية وشكلية بقصد التمويه ليس إلاّ.
لا أقصد الوفاء للأفكار، ولا الإخلاص للقادة، إنما أعني غياب المساءلة والنقد والتمايز والاختلاف لدى طاقم الجماعة الوفية والمخلصة.
فأيّ عبقريةٍ ترويضية تملكها الأديان والطوائف والمذاهب، والأفكار الفلسفية والسياسية، ويملكها الزعماء والقادة السياسيون والدينيون، بحيث يتمكن هؤلاء جميعهم، من الاستيلاء على عقول مريديهم وأتباعهم استيلاءً أين منه استيلاء المعشوق على قلب عاشقه وعقله وإرادته؟! أنظر إلى اللبنانيين، في أمسهم البعيد، والقريب، وفي يومهم الماثل رعبه أمام الحواس، فلا أرى لهم إلهاً، إلاّ إله الاستيلاء والترويض، وقد تمكّن من إحكام قبضته الجهنمية على رقابهم وعقولهم وأفئدتهم. فإذا من انتصار ملموس، فهو هذا الانتصار بالذات؛ الانتصار على العقل؛ ليس فيه أيّ لبس أو شكوك أو منازعة. أنظر إلى اللبنانيين، بدون تعميم طبعاً، فلا أرى إلاّ الترويض من جهة، والانتصار من جهة ثانية: ترويض الناس والجماعات، كلٌّ في قفصه وحديقة حيواناته، وانتصار القطيعية، بما يجعل المجتمع خلواً من كلّ دينامية نقدية خلاّقة.
هذا التروّض الانقيادي الأعمى، ألا يحتاج شخص صاحبه “العاقل”، إلى أن يخضع لاستقصاء نفسي، وطبّي، لاستخلاص الأسباب التي تنزع فيه كلّ إحساس بالوجود، فيصير وجوده مرئياً من خلال “معبوده” الذي لا يستحق – أياً يكن – أن يحتل منزلة توازي الألوهة المعصومة من الخطأ؟! فكيف لشعب، باختلاف طبقاته، وفئاته، وجماعاته، أن يكون مروَّضاً إلى هذا الحدّ المثير للعجب؟ فإذا كان من قعر، فهذا الشعب يقيم في قعر القعر. وعليه، لا بدّ أن تكون الطبقة الحاكمة، الدينية والسياسية، محسودةً، لأنها مطمئنة إلى استتباب حكمها، ولا تخشى حصول ردود فعل لدى مَن فقد كل إحساس بالانتفاض أو بالكرامة أو بالعقل. تأملوا معي، كيف ينظر المحازبون إلى زعمائهم السياسيين والدينيين نظراتٍ ملؤها الانسحار والاندهاش والتقديس و… البله! فهل رأيتم شعباً مروَّضاً أبله مثل هذا الشعب الذي يعيش في مرحاض عقلي جماعي، ولا يفعل شيئاً من أجل الانتفاض على العيش في المرحاض؟! فإذا كان يتألم من جراء ذلك ولا يفعل شيئاً، فهذه مصيبة. أما إذا كان سعيداً ومتنعماً بالتمرغ في عطور المرحاض، فأعتقد أنها مصيبة المصائب.
أقسم أن اللبنانيين، بدون تعميم طبعاً، يتوزعون بين هاتين المصيبتين. مَن منهم خارجهما، فأقلية لا يُحسَب لها حسابٌ بين القطعان! إنها فلسفة الترويض، التي لطالما استخدمها الطغاة السياسيون والأمنيون والدينيون في حياتنا الشرقية، لا تزال سارية المفعول، إلى آجال بعيدة.