فايز سارة: مسارات العجز عن الحل في سوريا/مصطفى فحص: الستالينية الإيرانية والديموغرافيا السورية/علي نون: خياران

266

الستالينية الإيرانية والديموغرافيا السورية
مصطفى فحص/الشرق الأوسط/09 آب/15

تسرع سلطات الانتداب الإيرانية على سوريا من خطوات التمكين الديموغرافي على ما تبقى من أراضي الدولة السورية، التي تخضع سياسيًا وعسكريًا لنفوذ هذا الانتداب. فيحاول مسلحو حزب الله إلى جانب وحدات عسكرية موالية لنظام الأسد منذ أكثر من شهر اقتحام مدينة الزبداني ذات الطابع السني، ليس فقط لطرد مقاتلي الجيش السوري الحر، بل بهدف ترحيل السكان الأصليين للمدينة إلى مناطق أخرى. وقد كشف بيان المكتب السياسي لحركة أحرار الشام – وهو الفصيل الذي تولى التفاوض مع الطرف الإيراني – من أجل التوصل إلى هدنة عسكرية في الزبداني كانت تهدف إلى وقف هجوم الحزب عليها بالتزامن مع وقف هجوم جيش الفتح على قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين في ريف إدلب، إلا أن فريق أحرار الشام المفاوض انسحب من المفاوضات بعد إصرار الطرف الإيراني على طلبه بترحيل سكان كفريا والفوعة إلى مناطق الساحل العلوي بالإضافة إلى ترحيل سكان الزبداني إلى منطقة ريف دمشق. وهي أول عملية تلاعب علني بالتركيبة السكانية السورية والفرز الواضح بين مكوناتها، ضمن خطة استراتيجية ساعية إلى تحقيق ربط ديموغرافي متجانس ضمن مساحة جغرافية آمنة مندمجة عقائديًا وتشبه إلى حد بعيد التوزيع الديموغرافي على الجانب الثاني من حدودها الغربية مع لبنان. بالنسبة إلى طهران باتت معركة الزبداني حلقة ضرورية في مشروع الربط الجغرافي بين مناطق سورية موالية للأسد وأخرى مطلوب إخضاعها للنظام من خلال احتلالها وإعادة هندستها ديموغرافيًا. وقد بدأ هذا المشروع منذ ثلاث سنوات في ريف حمص الغربي بعد احتلال حزب الله لمدينة القصير وريفها وتهجير أهلها إلى مدينة عرسال اللبنانية ومنعهم من العودة إليها، «باستثناء سكان بعض القرى المسيحية». وتلا هذه الخطوة قيام النظام بتدمير المناطق المتمردة في مدينة حمص وتفريغ أحيائها القديمة من سكانها والحرق المتعمد للدوائر العقارية. ثم استكمل حزب الله وميليشيات الأسد عملية التشتيت السكاني في كل مناطق القلمون الغربي. وتأتي هذه الخطوات في إطار مشروع الفرز الطائفي الذي تراه طهران ملحًّا وضروريًّا في المناطق الخاضعة للأسد. وهي الأراضي التي سلمت مرافقها الحيوية من الدمار وتحتفظ مؤسساتها الحكومية بقدر مقبول من المتانة، الأمر الذي يمكنّها من تلبية حاجة تشغيل الآليات الحكومية الضرورية، أي المحافظة على شبه دولة مستقرة تحاول طهران تسويقها لدى المجتمع الدولي أو استثمارها على طاولة تقاسم النفوذ الإقليمي، أو حتى تقديمها كشريك محتمل في الحرب على الإرهاب.

بعد قرابة 25 عامًا على سقوط الاتحاد السوفياتي وأكثر من ستة عقود على وفاة ديكتاتور روسيا، جوزف ستالين، تعيد طهران إلى أذهان السوريين فصلاً مظلمًا مليئًا بمحطات مرعبة في ذاكرة الشعوب السوفياتية والعالم عن الحقبة الستالينية، تلك الحقبة التي مورست فيها أسوأ جرائم التطهير الديموغرافي بحق الجماعات السكانية المتباينة عرقيًا ودينيًا، إذ تم تشتيت هذه الجماعات بحجة الاندماج الأممي داخل المجتمع السوفياتي، تحت شعارات تطبيق الوحدة الآيديولوجية للأمة. وبالحديد والنار تم تهجير شعوب شمال القوقاز إلى سيبيريا، وتهجير الكتل القومية من أقصى الشرق الروسي إلى جمهوريات آسيا الوسطى، كما قامت الستالينية بإعادة ترسيم الحدود بين جمهورياتها، وتوطين كتل بشرية كبيرة من الروس الأرثوذكس فيها، فبلغت نسبة المتحدرين من أصل روسي في كازاخستان حاليا قرابة 42 في المائة، وقد جرت هذه التحولات الديموغرافية ضمن مخطط استهداف القوميات وضرب نسيجها الاجتماعي وإلغاء هويتها الثقافية، وهو ما يتطابق إلى حد كبير مع ما يحدث في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات، إذ تم تهجير أكثر من 10 ملايين سوري أغلبهم يحملون هوية دينية واحدة، بالإضافة إلى تخريب حواضر سوريا التاريخية في حلب وحمص. وترافق ذلك مع تدمير ممنهج للبنية التحتية في أغلب المدن التي خرجت على النظام، إذ تسعى طهران إلى حصر الدولة في كتلة ذات طابع مذهبي أقلّوي بعد أن نجحت في تطهير جغرافيتها. وشرع رأس النظام السوري هذا المشروع وكل هذه الممارسات من خلال انسياقه وراء فكرة أن سوريا حق لمن يدافع عنها وليس فقط من يحمل جنسيتها، الأمر الذي شرع الأبواب واسعًا أمام عملية توطين الإيرانيين والعراقيين والأفغان والباكستانيين واللبنانيين، لملء الفراغ الديموغرافي بعد تهجير الكتلة السنية السورية المنتشرة على الحدود الغربية مع لبنان، حيث الكثافة الشيعية اللبنانية. فباتت هذه الشريحة على تواصل مباشر مع الديموغرافيا العلوية المسيطرة على سوريا المفيدة، ما يمكّن النظام من والاحتفاظ بدمشق ضمن هذه التركيبة بعكس مشروع التقسيم الفرنسي سنة 1936، حيث اختصرت الدولة العلوية في مدن الساحل وحمص. 

مسارات العجز عن الحل في سوريا
فايز سارة/الشرق الأوسط/09 آب/15

أربعة أعوام ونصف العام مضت على انطلاقة الثورة السورية، التي حملت مطالب أساسية للسوريين من أجل تغيير حياتهم ومستقبل بلادهم، وهي مطالب محقة، لم يكن لأحد في العالم أن يرفض دعمها وتأييدها، الأمر الذي احتال عليه نظام الأسد بوصف ثورة السوريين بالإرهاب والتطرف، والارتباط بالخارج وأعداء سوريا. ودفعت تطورات الأحداث السورية بما فيها من قتل وتدمير وتهجير، وبما حملته من تحديات وتهديدات للدول المحيطة بسوريا والأبعد منها للانخراط في مبادرات من أجل حل سياسي، يخرج بالوضع السوري من مجرياته واحتمالاته، فتوالت مساع سعودية وتركية وأردنية وقطرية للتوسط مع نظام الأسد، قبل أن تدخل الجامعة العربية على خط المساعي، لكن جهود الجميع أحبطت، ومساراتهم فشلت لصدامهما بمسار العنف والدم الذي اختطه النظام، وأصر عليه طريقًا وحيدًا في التعامل مع ثورة السوريين.

ومهد فشل مسارات الحل العربية والإقليمية لدخول دولي على الموضوع السوري، عبر حلقة وسيطة، فكان كوفي أنان مبعوثًا مشتركًا للأمم المتحدة والجامعة العربية لمعالجة الوضع عبر جولات ولقاءات وحوارات، كان الأهم فيها وصوله مع مجموعة العمل الدولية إلى ما صار أساسًا دوليًا متوافقًا عليه في الحل السوري، وهو بيان «جنيف1» الصادر في يونيو (حزيران) 2012، باعتباره يحمل نقاطًا، يمكن البناء عليها. غير أن إصرار نظام الأسد وممانعة حلفائه وخصوصا روسيا وإيران والصين، أفشلت المضي على طريق «جنيف1»، ودفعت أنان إلى إنهاء مهمته وسط يأس، كان واضحًا على وجهه في آخر زيارة له إلى دمشق، التقى فيها الأسد، واقتنع منه، ألا تغيير في موقف وسياسات نظامه في الموضوع السوري.

وكررت تجربة المبعوث الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي فشل سابقه. ولم يكن «جنيف2» في بدايات 2014 رغم اختلاف تفاصيل وجهود ولقاءات التجربتين، سوى تعبير عن انسداد أفق معالجة الوضع السوري بفعل إصرار نظام الأسد على رفض الحل السياسي وسط عجز دولي وإقليمي عن الوصول إلى خطوة، تجعل الحل ممكنًا بأخذ النظام أو إجباره على الدخول في مفاوضات جدية ومثمرة، تستفيد من فرصة ارتكاب النظام جريمة الكيماوي، مما جعل الإبراهيمي يتخلى عن مهمته، التي راهن كثيرًا على تحقيق نجاح أو إحداث اختراق فيها.

إن فشل مسارات الحل المتعددة، والتطورات الميدانية في سوريا، التي كرست صعود التطرف والإرهاب وجماعاته، وتزايد حدود الكارثة الإنسانية، وتجاوزها الحدود السورية، كانت حاضرة في تكليف ستيفان دي مستورا مبعوثًا دوليًا للموضوع السوري في العام الماضي. ولأن الرجل لمس فشل سابقيه في إنجاح مسارات مبادراتهم، فقد سعى إلى بداية مختلفة، انطلقت متواضعة في الاشتغال على وقف القتال في حلب شمال سوريا، غير أن النتائج كانت سلبية، فغير تكتيكاته بالعودة إلى معالجة كلية للوضع السوري على نحو ما فعل أنان والإبراهيمي، لكن مع توسيع قاعدة الحوار والنقاش واللقاءات مع المتصلين بالملف السوري وأصحابه.

جهود دي مستورا وصلت إلى حدود الفشل المعلن مع تقديمه لتقريره مؤخرًا للأمم المتحدة، والسبب كما ظهر في العميق من تقريره وفي تصريحاته إصرار نظام الأسد وحلفائه على المضي في مسار العنف الذي تم اختياره من البداية، وبهذا وصل دي مستورا إلى ذات النتائج السابقة في مسارات حل القضية السورية، لكنه لم يغلق باب جهوده بالإعلان عن خطة، لن تجد فرصتها للنجاح في ظل المعطيات الراهنة، لكنها ستبقيه حاضرًا في الجهود الدولية، وهو أمر مطلوب كما يبدو، حتى لا يترك الملف السوري خارج الرعاية الدولية ولو شكليًا.

خلاصة الأمر، أن مسارات الحل السياسي في سوريا، والتي توالت على مدار السنوات الماضية فشلت في الوصول إلى نتيجة، تصنع حلاً، أو تضع القضية على سكة حل، ومقابل فشلها، فإن مسار العنف والدم الذي تبناه النظام، هو الوحيد من المسارات الذي لم يتوقف، ومستمر في تصعيده لإعادة إحكام قبضة النظام على سوريا والسوريين، رغم كل ما أصابه من خسائر سياسية وبشرية.

إن السبب الرئيسي لما صارت إليه مسارات الحل في سوريا، تمثله حالة عجز تحيط بالمجتمع الدولي الناجمة عن عوامل أبرزها انقسام دولي، حيث ما زالت روسيا ومعها دول أخرى، تدعم نظام الأسد، وتسعى إلى تسويقه عبر محاربة الإرهاب والحفاظ على الأقليات، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وادعاءات أخرى، بينما يفتقد الطرف الدولي الآخر وفيه الدول الغربية والولايات المتحدة ودول بينها تركيا لقوة الإرادة السياسية في إقرار حل سياسي والمضي به عمليًا، وفي انقسامه في النظر إلى القضية السورية بين الاعتراف بها قضية شعب أو اعتبارها جزءًا من الحرب على الإرهاب، والحق فإن النظرة الأخيرة، تعزز مسار العنف والدم الذي اختاره النظام ومستمر فيه.

خياران!
علي نون/المستقبل/09 آب/15

ما قاله وزير الخارجية السعودي عادل الجبير من روما بالأمس، يضع حدّاً فاصلاً بين الحقائق والتخريف وبين الوقائع والتحريف: «إمّا حلّ سياسي من دون بشار الأسد وإمّا حلّ عسكري وهزيمة بشار الأسد». والواضح أنّ هذا الكلام يكشف حقيقة ما يدور في هذه الأيام. ويُنهي التوظيف التشبيحي السياسي والإعلامي الممانِع لكل التحرّكات و»المبادرات» التي تُطرح تحت شعار «الحلّ السياسي» لسوريا.. والأهم من ذلك، هو أنّ الوزير الجبير يُنهي المناورة الإيرانية قبل أن تأخذ مداها تحت لافتة «المبادرة» المزعومة. ويؤكّد، على عكس كل التسريبات الممانِعة، أنّ السقف العربي لم يعد قابلاً للنزول تحت مسلّمة انتهاء سلطة بشار الأسد ولا شيء غير ذلك.. الفارق الجوهري بين الموقف السعودي ومواقف قوى الممانعة، هو أنّه واضح ومباشر وتام فيما هي مبهمة ومسرّبة ومشوّهة، وتبني على جزئية صحيحة بناءً تحريفياً من طبقات عدّة: واحدة تفيد أنّ الآخرين رضخوا! وثانية تفيد انّ ما يُقال علناً يُقال غيره سرّاً! وثالثة تقول إنّ الروس يرمون طوق النجاة لإنقاذ السعودية من الغرق! ورابعة تقول إنّ بشار الأسد انتصر وها هو العالم بأسره يهبّ للوقوف خلفه في «محاربة الإرهاب».

وما سلف جزء من تلك السيرة التحريفية الممانعة المنطلقة على مداها في هذه المرحلة مستفيدة من مناخات «اتفاق فيينا» الإيراني مع الدول الست الكبرى وفي مقدّمها الولايات المتحدة.. مثلما هي مستفيدة من تقاطع المواقف ازاء مكافحة الإرهاب، ومن بعض المواقف الأوبامية المائعة والمبهمة إزاء مصير بشار الأسد! لكن لم يخطئ مَن افترض، أنّ «اتفاق فيينا» أنهى المشروع النووي الإيراني، أو بالأحرى أنهى الطموح إلى عسكرة ذلك المشروع، وأنهى أيضاً بعض السياسات الأميركية التي اعتمدت طوال فترة المفاوضات، ومنها تحديداً، السياسة الخاصة بسوريا، والتي كانت وظيفتها الوحيدة عدم استفزاز المفاوِض الإيراني بمواقف تصعيدية ضدّ سلطة الأسد.. انتهت الوظيفة بانتهاء المفاوضات، وكان لا بد أن تتغيّر لصالح واحدة مناقضة أساسها الأخذ بالبديهة القائلة بأنّ محاربة الإرهاب لا تستقيم من دون محاربة الأسد والانتهاء من سلطته وممارساته. وتخطئ طهران إن افترضت أنّ عدم التسليم لها بامتلاك السلاح النووي يمكن أن يُعوّضه التسليم لها بنفوذ غير بنّاء وتخريبي في المنطقة المحيطة بها، أو بقبول استمرارها في اعتماد تلك اللعبة المزدوجة الخاصة بالدولة وقيمها من جهة و»الثورة» وصادراتها من جهة ثانية أو بقبول عودتها إلى المجتمع الدولي بشروطها هي وليس بشروطه هو.. بهذا المعنى تأتي تطوّرات الوضع اليمني، و»اتفاق انجرليك» التركي الأميركي، وإعادة فتح ملف استخدام السلاح الكيماوي من قِبَل الأسد في مجلس الأمن، والتطوّرات الميدانية المتسارعة في الشمال والجنوب السورييَّن، وترسيخ التفاهمات البينية العربية، والعربية التركية وبلورة موقف واحد موحّد من سوريا وغيرها.. كلها تأتي لتضيف ثقلاً إلى منطق الأمور وبديهيات هذه الدنيا: لا يمكن تحت أي ظرف، القبول باستمرار نكبة الشعب السوري أو بإعادة إحياء أي نبض في جثة السلطة الأسدية، أو إعادة فرض سلطتها الفئوية على أكثرية ترفضها، خصوصاً، وخصوصاً جداً، أنّ تلك السلطة لم تعد قادرة على تقديم أي شيء سوى الإمعان في تدمير ما تبقّى من سوريا حجراً وبشراً. في هذا السياق، تساعد تطوّرات هذا الخارج بعض الداخل الإيراني، وتحديداً ذلك الذي يدفع باتجاه جعل «اتفاق فيينا» محطة فاصلة بين مرحلتين: واحدة لم تنتج إلاّ الأزمات، وثانية يُفترض أن لا تُنتج إلا الحلول لتلك الأزمات.