الـيـاس الزغـبـي/الأمر للعقلاء

315

الأمر للعقلاء
الـيـاس الزغـبـي
08 آب/15

مرةً تلو مرة، يتّضح لكلّ ناظر هادئ أنّ لبنان موجود، منذ 4 سنوات على الأقلّ، في حاضنة غير معلنة رسميّاً، تقيه من الانزلاق الكبير، وتدير شؤونه بعناية لصيقة وتوازن دقيق لتجنيبه الحرائق المشتعلة في محيطه الأقرب والأبعد.
ليس أمراً بسيطاً أن يتورّط “حزب الله”، بما يشكّل شعبيّاً وعسكريّاً وسياسيّاً، في الحرب السوريّة، ويبقى الوضع الداخلي اللبناني ممسوكاً إلى هذه الدرجة من الاستقرار المفروض، وربّما المفتعل. ولكنّه استقرار قائم وموجود وحيّ، ومحكوم بضوابط غير مرئيّة.
منذ سنوات، تهتزّ الدنيا في لبنان ولا تقع. فهل في الأمر سحر؟
بالتأكيد، لقد انتهى عصر السَحَرة وزمن العجائب السياسيّة. ولبنان لا يحميه السحر ولا ضاربو المندل، بل حقيقة جغرافيّة سياسيّة تحكمها توازنات إقليميّة ودوليّة، وتحميها شبكة مصالح.
إنّها الواقعيّة السياسيّة بامتياز انتقلت عدواها من أدمغة الأُمم إلى بعض الأدمغة اللبنانيّة التي ما زالت قابلة للاشتغال والتفاعل، فنشأت عن هذه العدوى حالة قبول وتقبّل، ولو على مضض، بين أطراف كثيرة متنازعة تحت اصطفافات سابقة، وحصلت تجارب تعايش بين خصوم وأعداء، نتجت عنها قرارات بالحدّ الأدنى لإدارة الأزمة.
الواضح أنّ معظم الأطراف انخرطت في هذه الواقعيّة السياسيّة، ولكلّ طرف أسبابه ودوافعه وبراغماتيّة مواقفه. وبدا الشذوذ عن هذه القواعد والضوابط خروجاً من الواقع ونوعاً من التفرّد الأحمق تحت شعارات اهترأت لكثرة استهلاكها.
وهكذا انكشف الخارجون على هذا التوازن انكشافهم الكبير والأخير، وتحوّلوا بسرعة قياسيّة إلى فرقة عشوائيّة، ليست “ناجية” في أيّ حال، بل إلى حالة دونكشوتيّة تهوى ضرب السيوف في الماء أو الهواء. أليس في هذه الفرقة “غير الناجية” عاقل واحد يرفع صوته ويقول كفى.. لعلّها تنجو؟!
في الخارج، تغييرات ميدانيّة من اليمن إلى سوريّا، وحراك بمستوى عالٍ بين موسكو وواشنطن عبر الرياض وطهران على الأقل، وبحث متقدّم عن مخارج وحلول للأزمات.
وفي الداخل، ما زال هناك من يعزف منفرداً لحن حلمه الغابر، ويخرج من جديد بشعاره البالي: يسحقني العالم ولا يأخذ توقيعي!
فأيّ توقيع بقي “لمن يقف في وجه العالم” بعدما منح هذا التوقيع على بياض لأسوأ نموذج ديكتاتوريّات منقرضة، بين حزب ديني مدجّج ونظام دموي مقفل.
أسوأ ما يُصيب أيّ إنسان فرد هو إغماض عينيه على حجمه، فلا يرى إلاّ ذاته. وأسوأ ما يُصيب أيّ جسم سياسي هو الامتلاء من نفسه والغرور إلى درجة الانتفاخ فالانفجار.
من السهل القيام بأيّ ردّة فعل على أمر ما، وليس صعباً تجميع عشرات البسطاء وتوظيف اندفاعهم الشبابي واستغلال سذاجة عواطفهم. ولكنّ الصعب هو إقناع الناس بالدوافع والشعارات. والأصعب هو تحقيق أي هدف شخصي أو عام.
فليس كلّ من يرفع الصوت ويحرّك المشاعر يكون صاحب حقّ. فالسارق يجادل ويزايد في العفّة، والقاتل يصرخ ببراءته، وكاسر مزراب العين يتباهى بفعلته، وتلك الشاذّة لا تحلف إلاّ بشرفها!..
مراحل الهوس والشعارات التي تُلهب المشاعر انقضت. وترميمها مستحيل بعد انكسارها. ولا يمكن أن ينتج عنها إلاّ المزيد من الخسائر، لأصحابها قبل سواهم.
وانتهى زمن إعلان الطهرانيّة في وجه الفاسدين. وشعار “أنا النظيف العفيف الشريف وجميعهم ملوّثون أشرار”، بات كلاماً للتندّر وأضحوكة الناس.
لبنان الآن، بكلّ موبقاته وآفاته وقرف أهله، داخل سلّة الأمان النسبي. وكلّ من يظنّ أنّ في استطاعته خرق أو هزّ هذا الأمان موهوم. فكيف إذا كان جزءاً لا يتجزّأ من هذه الموبقات والآفات!
والمعادلة واضحة: تشارك في الفساد والموبقات شارك في الترتيبات. لا يمكنك أن تجلس في حضن الحكومة وتنتف ذقنها. لا تأكل من خبز السلطان وتضربه بسيفك ولو كان من خشب.
من يريد أن يغّير ويُصلح عليه أن يكون صالحاً ويبدأ بنفسه وبطانته.
إنّها، في الواقع، مرحلة العقلاء. الأمر لهم.
أمّا أهل الجهالة، فتدهسهم عجلات المرحلة.