علي القاسمي: إيران وسياسة أن تعيش بوجهين/يزيد صايغ: الفرص محدودة أمام قيام منطقة آمنة في سورية/زهير قصيباتي: تقسيم الحدود السورية – التركيّة

404

إيران… وسياسة أن تعيش بـ «وجهين
علي القاسمي/الحياة/30 تموز/15
تكاد الوقائع، ومجريات الأحداث أن تثبت أنه ما من بَلَدٍ قافيته «ألِفٌ» و«نون» إلا وهو مرشح لزرع البلابل والفتن أو استقبالها أو تصديرها، ولنا في «إيران» و«لبنان» و«أفغانستان» أمثلة حية طرية، وإن كانت الأولى سيدة الترشح والترشيح، والعاشقة حد الجنون للتدخل في الأنفاق المظلمة، وإضاءتها في ما بعد على الطريقة التي تحلو لها، وتتفق أولاً وأخيراً مع أوراقها وتوجيهات عمائمها. في حياتها اليومية، ترْتَدي «إيران» وَجْهين، الأول تخرج به حين تتحدث للعالم بوصفها دولة إسلامية ذات تأثر وتأثير، وهنا تطرق على وتر العاطفة ممررة نفسها على أنها «الضعيفة المظلومة»، أما وجهها الثاني فتلبسه حين تستعد كل مساء للتخطيط برفقة الأصدقاء من ذوي المصالح المشتركة، لرسم الألعاب السياسية الرديئة، وأداء الأدوار التي يكشفها الوقت المتقلب تبعاً لتقلب المصالح، وتغير الأفكار التي تدور في الرؤوس.
من أخطر ما تفعل السيدة «ذات الوجهين» إشغال الرأي العام، وتغيير بوصلة الاهتمام من وطن لآخر عبر إحْدَاثِ الفوضى المتقنة، وإشعال النيران المحْرِقَة، تسحب – بمكر – دائرة الاهتمام الدولي من قُطْرٍ لِقُطْر في ظرف ساعة واحدة من دون أن يَشُكَ متعلق بالشأن العام أن تكون لها أصابع سرية أو نصف يد مستترة في الفعل والتفاعل، باختصار هي تمارس كل هذه الأدوار السرية وتظهر أمام الملأ في دور البريء النقي وإن كانت كشفت تماماً كل هذه الألعاب والحيل. يَحْدُثُ أن نختلف في عالمنا المضطرب، ونختصم في شرقنا الأوسط المشتعل على التقسيم الحقيقي لمحاور الخير، إنما سنتفق ونجتمع على تحديد محاور الشر والشك، وسنرمي حينها بالاختلاف والخصام جانباً لأن المعطيات صريحة واضحة وتسمرت «إيران» عميدة لهذا المحور والرقم المهم فيه. إيران تتمتع بشجاعة وجرأة لا مثيل لهما حين تلتفت إلى دول الجوار، وأصدقاء الحدود، وعندما تلمس أصوات مواطنيها الذين توزعتهم الجغرافيا، ويغريهم التاريخ بأن يكونوا ذوي ثقل، إنما فات عليهم أنه يستحيل إحداث ثقل لافت في غياب العقل. وإن سلمنا جدلاً بوجوده في بضع لحظات فهو يكيل بمكيالين، ويؤدي مهمات متناقضة بلسان واحد وضمير لا يمكن الحكم بنقاوته. وعلى الوجه الآخر تأخذها ملامح الجبن والضعف والانكسار حين يسلط الكبار أضواء الرقابة عليها، ويبدأون نبش الملفات، ومراجعة التصريحات المنفلتة، ويضعونها تحت المجهر. أن تكون «إيران» خلف كل الملفات الشائكة، ووراء الألغاز المستعصية – زمناً – على الحل على رغم التصالح والتغافل وغض الطرف وتصديق الأقوال، فذاك ما يتطلب يقظة تامة وتكاتفاً خليجياً لازماً في المقبل من الأيام، وكذلك تركيزاً لا يسمح لمرور خيط بسيط من حسن النوايا، فأكثر الحكايات التي صفعتنا بها الأيام كانت من تأليفها وحبكها. المرحلة المقبلة تستدعي ترتيب أولويات الأعداء ومحاور الشر والشك، وإن كانت المسرحية الشرق أوسطية تقول إن إيران بطلة الشك والشر في آن واحد، ورائدة الحضور بوجهين متناقضين حد العار! ولن نذهب من بعد للأسئلة الفاضحة لأن إجاباتها فضيحة أخرى كالتي تأتي على وزن لماذا تتلون إيران هكذا؟ وما الذي تريده بالضبط؟ وإلى متى؟ ما نتفق عليه وأفرزته الأيام حتى تاريخه أن إيران جغرافياً «تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول».

الفرص محدودة أمام قيام منطقة آمنة في سورية
يزيد صايغ/الحياة/30 تموز/15
أثارت التقارير الصحافية التي تقول إن الولايات المتحدة وتركيا وافقتا أخيراً على إنشاء منطقة «أمر واقع» آمنة في سورية، يمكن للنازحين السوريين فيها الحصول على المساعدة الإنسانية والحماية من هجمات نظام الرئيس بشار الأسد، اهتماماً له ما يبرّره. غير أن إلقاء نظرة فاحصة على تفاصيل ما يفترض أنه يجري اقتراحه يشير إلى ما هو أقلّ بكثير من منطقة آمنة يمكن أن يتم فيها تجميع عدد كبير من السكان المشردين واللاجئين العائدين من تركيا، كما تشير بعض المصادر غير الرسمية. يتمحور الاتفاق المفترض على افتراضين، أولهما أنه سيتم طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من منطقة مساحتها حوالى 7 آلاف كيلومتر مربع من دون تدخّل مباشر من قبل القوات البرية التركية أو القوات غير السورية، و ثانيهما أنه يمكن بعد ذلك لمسلَّحي المعارضة السوريين توفير حماية كافية للمنطقة الآمنة التي يحميها غطاء جوي تركي وربما أميركي. هذان الافتراضان موضع شك، إن لم يكونا خاطئين تماماً، كما أن الإيحاء بأن المنطقة الآمنة سوف تظهر «في شكل طبيعي»، أي تلقائياً، مضلّل. وما لا يقلّ عن ذلك إشكاليّةً هو الحقيقة الضمنية أن المنطقة الآمنة لن تشمل أهم تجمعات النازحين والمراكز السكانية الكبيرة في محافظتي حلب وإدلب التي هي الأكثر عرضة لهجمات النظام.
ما يكشفه التفاهم الأميركي- التركي هو أن تركيا تخلّت عن مطلبها الدائم منذ أكثر من سنة بإنشاء منطقة آمنة في سورية. ويأتي ذلك حتى في الوقت الذي تصعّد فيه الحكومة التركية ضرباتها العسكرية وحملاتها الأمنية ضدّ «حزب العمال الكردستاني» وتنظيم «داعش»، وتتّخذ التدابير الدفاعية الأخرى على طول حدودها مع سورية. استدارة تركيا هذه تقرّبها أكثر من الولايات المتحدة، التي دأبت على مقاومة الضغوط التركية للالتزام بإنشاء منطقة آمنة، والتي لن تخصّص، وفقاً لآخر المعلومات، الأراضي التي يتم تطهيرها من تنظيم «داعش» كمنطقة محمية، ما يعني تفادي أي التزام رسمي أميركي بإقامة ملاذٍ آمن للمدينيين. على مدى أكثر من عام، قاومت تركيا الدعوات التي قادتها الولايات المتحدة للانضمام إلى الحملة العسكرية ضد تنظيم «داعش»، من خلال الإصرار على أن يتعهد التحالف ضد هذا التنظيم باتّخاذ إجراءات موازية ضد نظام الأسد. وأصبح المطلب التركي بإقامة منطقة حدودية آمنة داخل سورية محور المفاوضات مع الولايات المتحدة في شأن الانضمام إلى الحملة المناهضة لـ «داعش» وكذلك استضافة برنامج أميركي موسّع لتدريب مسلَّحي المعارضة السوريين في تركيا. مع ذلك، وعلى رغم خطاب تركيا العلني الحادّ، فليس من المؤكّد بأي حال أنها كانت تنظر إلى المنطقة الآمنة باعتبارها فكرة واقعية في أي وقت مضى. ذلك أن لجوءها الى معاهدة حلف شمال الأطلسي (ناتو) لتأمين نشر بطاريات «باتريوت» للدفاع الجوي على حدودها مع سورية في كانون الثاني (يناير) 2013 قيَّد فعلياً قدرة القوات المسلحة التركية على العمل عبر الحدود، لأن القيام بذلك تحت غطاء «الناتو» المخصّص لأغراض دفاعية بحتة من شأنه أن يورّط الحلف ويثير ردّ فعل روسياً قوياً.
تشير التحركات التركية الأخيرة إلى منطق مماثل، لأن تأثيرها الرئيس يتمثّل في تعزيز الدفاعات وتحسين أمن الحدود مع سورية، بدلاً من الاستعداد لعمل هجومي أو مدّ المظلة الواقية اللازمة لتأمين منطقة آمنة داخل سورية. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة التركية تقترب من الموافقة على إقامة «نظام أمن فعلي» جديد للحدود السورية، يضم جداراً خرسانياً وأبراج مراقبة ووحدات مراقبة أرضية وجوية على طول الحدود المشتركة البالغة 911 كيلومتراً. كما أن طلب تركيا يوم 26 تموز (يوليو) الماضي، عقد اجتماع لحلفائها في «الناتو» على أساس المادة 4 من المعاهدة المشتركة، والتي تستلزم الدفاع الجماعي في حال تعرّض سلامة أراضي أو أمن أي من الدول الأعضاء للتهديد، يحول مرة أخرى دون القيام بإجراءات من جانب واحد خارج ما سماه الأمين العام للحلف الجنرال ينس شتولتنبيرغ «حدود حلف الناتو في تركيا».
تمت الإشارة بوضوح إلى أن إقامة منطقة آمنة لم تعد على الأجندة التركية، على خلاف ما يشبه الحملة الدعائية، يوم 25 تموز، عندما أشار وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى أن مناطق شمال سورية التي يتم تطهيرها من مقاتلي تنظيم «داعش» ستصبح مناطق آمنة «طبيعية»، «يمكن وضع» النازحين السوريين فيها. لم تكن هناك إشارة إلى دور تركي مباشر في إقامة هذه المناطق، أو توسيع نطاق الحماية العسكرية عبر الحدود من أجل الحفاظ عليها عقب إنشائها بأي وسيلة كانت. بل الواقع أن السلطات التركية تعمّدت التأكيد أن طائراتها التي هاجمت موقعاً حدودياً تابعاً لتنظيم «داعش» يوم 24 تموز انتقاماً لمقتل جندي تركي لم تدخل المجال الجوي السوري لتنفيذ الهجوم. من شبه المؤكّد أن تركيا ستقوم بعمليات عسكرية أخرى عبر الحدود ضد أهداف تنظيم «داعش» و»حزب العمال الكردستاني»، كما فعلت في شمال العراق في 27 تموز. يأتي ذلك على خلفية تحذيرات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ 26 حزيران (يونيو) الماضي، عندما صرّح «إننا لن نسمح أبداً بإقامة دولة (كردية) جديدة على حدودنا الجنوبية في شمال سورية». وتتحدّث وسائل الإعلام المحلية عن حشد القوات التركية لإنشاء «منطقة أمنية» معادية لتنظيم «داعش» في سورية، فيما يتحدّث كبار المسؤولين عن الانتقال من الدفاع «السلبي» إلى الدفاع «النشط» ضد التهديدات المحسوسة، وبخاصة من جانب «حزب العمال الكردستاني» و»حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» السوري المتحالف معه.
ان تكثيف العمل العسكري التركي ضد «حزب العمال الكردستاني» وتنظيم «داعش» (وربما «حزب الاتحاد الديموقراطي») لا يترجم إلى إنشاء منطقة آمنة في سورية، على رغم الإيحاء الواضح بأنها ستقوم بذلك فعلاً. على العكس تماماً، فإن احتمال الانجرار إلى صراع نشط مع كل من تنظيم «داعش» والأكراد، اللذين يشكّل كل منهما تحدّياً لأمن تركيا الداخلي فضلاً عن التحدّي الذي يشكّلانه عبر الحدود، يعقّد الخيارات التركية للسعي لإنشاء منطقة آمنة حقيقية. وعلاوة على ذلك فإن كل هذا يحدث في سياق عدم اليقين السياسي العميق في تركيا، فصعوبة تشكيل حكومة ائتلافية قد تستوجب إجراء انتخابات مبكّرة، ما يعيق تنفيذ التزامات عسكرية كبيرة في البلدان المجاورة يحتمل أن تكون معقّدة وطويلة الأجل.
وحتى لو تولّت القوات البرية التركية دوراً مباشراً في إنشاء»منطقة أمنية» ضد تنظيم «داعش» في سورية، في نهاية المطاف، فذلك لن يوفّر الحماية الكافية لغالبية السوريين الذين يعيشون في المناطق الأخرى التي يستهدفها النظام يومياً. كما أنها لا تعالج التحدّيات العملية الكثيرة التي يجب حلها من أجل إقامة ملاذ قادر على اجتذاب النازحين من أنحاء أخرى من سورية، بما فيها نظرياً المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، ناهيك عن اللاجئين الذين يقيمون الآن في تركيا.
الاستدارة باتجاه منطقة آمنة «بحكم الأمر الواقع» تحجب الأسئلة الصعبة التي ينبغي الإجابة عنها من أجل إقامة منطقة آمنة حقيقية في المناطق الأكثر كثافة سكانية في شمال غربي سورية (أو على الحدود الجنوبية مع الأردن). فهل سيُسمح للمناطق الآمنة الخاضعة للحماية الأجنبية بأن تصبح ملاذات آمنة لمسلّحي المعارضة السورية؟ وإذا لم يسمح لهم بذلك، من هي الجهة التي ستتولّى عملية ضبط هذا الأمر؟ وكيف ستتم إدارة المناطق الآمنة بوسائل تتوافق مع إصرار الولايات المتحدة على عدم السماح لـ «جبهة النصرة» بالاستفادة من الدعم الخارجي المقدّم للجماعات الأخرى؟ وما هي أرجحيّة أن تتحمّل المعارضة السورية والهياكل الإدارية المحلية العبء الرئيس لتنسيق المساعدة الدولية على الأرض ووضع نظم فعّالة للحوكمة وحفظ النظام وتسوية النزاعات بدلاً من الجماعات المسلّحة المختلفة التي تقوم حالياً بمعظم هذه المهمات؟ على رغم الاهتمام الكبير الذي حظيت به فكرة المنطقة الآمنة بفضل التأييد التركي الرسمي خلال العام الماضي، لم يجر سوى القليل من النقاش العام في شأن هذه المتطلبات والأسئلة العملية الأخرى. وكانت الولايات المتحدة، وكذلك تركيا على رغم خطابها الذي يشي بعكس ذلك، تدركان تلك المتطلّبات على الدوام على الأرجح، ما يفسّر مأساة ضآلة احتمالات إقامة منطقة آمنة منذ اللحظة الأولى. أما المنطقة الآمنة «الطبيعية» التي يبدو أن الولايات المتحدة وتركيا تتبنّيانها الآن فليست سوى نموذج رخيص، أو منطقة آمنة «لايت».
* باحث أول، مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

تقسيم الحدود السورية – التركيّة
زهير قصيباتي/الحياة/30 تموز/15
بات واضحاً أن سباقاً بوتيرة سريعة انطلق بين قوى إقليمية معنيّة بفوضى الحرب السورية ومستنقعات الطائفية في العراق، لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة في مرحلة ما بعد الرئيس بشار الأسد. لا يعني ذلك أن السوريين باتوا على موعد مع سلام يُنهي مآسيهم، ويطوي الفظائع التي عاشوها سنوات، بل يعني أن مرحلة أخرى ستبدأ، سواء انكفأ الرئيس السوري إلى معقل في اللاذقية، أو أقنعه حليفاه الروسي والإيراني بمنفى خمس نجوم على بحر قزوين أو في سوتشي. «النقص في الطاقة البشرية» لدى النظام السوري، كما اعترف الأسد، ليس وحده جوهر المعادلة المتقلّبة. وأن تصرّ دمشق على أن الدعم الإيراني لما يرتكبه النظام لن يتغيّر، فذاك ليس سوى أمنية، وإلا لما اضطر إلى نقل قوات إلى مناطق يمكنه الدفاع عنها، مرحلياً، بالبراميل المتفجّرة وسواها. ما تغيَّر هو أن إيران ما بعد الاتفاق النووي لن تكون ما كانت قبله. لكنها لن تنقلب داعية سلام، ولن تسحب أصابعها من المنطقة العربية، فقط لإرضاء الغرب. لن يحصل ذلك سريعاً، رغم كل الغزل الأوروبي والتسابق على زيارة طهران. وإن كانت إيران اعترفت للمرة الأولى بأن ملف القضايا الإقليمية سيُفتح في حوار على مستوى رفيع مع الاتحاد الأوروبي، فالحال أن شهوراً طويلة من تراجعات النظام السوري وفقدانه السيطرة على مناطق واسعة في سورية، ربما أقنعت الإيرانيين بلا جدوى إنفاق البلايين التي أُهدِرت لدعم «صمود» الأسد.
ومثلما فوّض الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الأوروبيين التفاوض مع طهران على القضايا الإقليمية وعلى البيئة والتجارة، يُرجَّح أن تفوِّض إيران إلى الكرملين البحث عن مخرج لمأزق الأسد، من أجل تفادي سيناريوات أكثر سوءاً، أبرزها سنوات مديدة من القتال بين «داعش» والفصائل التي تحارب النظام السوري. ولم يكن مريحاً لأنقرة أن ترى مقدار الغزل المتسارع الذي يطلق الغرب إشاراته إلى إيران، فيما شركاته تتسابق على العقود والصفقات، لتحظى بحصة في كعكة السوق الإيرانية. لا يريح تركيا أن تخرج إيران من قفص الحظر الدولي والعقوبات الأميركية- الأوروبية، لتكتسب مزيداً من القدرات المالية التي تمكّنها من تحصين مواقع النفوذ، وإنعاش قدرة أدواتها وحلفائها على أداء الأدوار المطلوبة بالوكالة.
وإذا كانت الأولوية لدى طهران أن تحافظ على إمساكها بالورقة العراقية، أي الحديقة الخلفية، فيما تجني تدريجاً ثمار التطبيع مع أوروبا وأميركا، فتركيا المنافس الإقليمي لإيران، لن تبقى «جنّة» المنطقة اقتصادياً، ولا واحة استقرار منذ انكشف التفاف حزب العمال الكردستاني على مفاوضات السلام مع أنقرة، بتحالفه مع الأكراد السوريين الذين يطمحون إلى نموذج إقليم كردستان العراق. هاجس آخر للرئيس رجب طيب أردوغان، مهما كانت تطلُّعات حزبه إلى الثأر من الانتخابات النيابية الأخيرة، هو أخطبوط «داعش» الذي تمدّد من الحدود التركية- السورية إلى الداخل. والمفارقة في ظل تبدُّل علاقة طهران مع الغرب، من العداء إلى الغزل، أن علاقته مع أنقرة ما زالت تتأرجح على حبال انعدام الثقة. فليس سراً أن تركيا تُدرك ما يمثّله الكردي «المدلّل» لدى واشنطن- إذا استثنينا حزب العمال الكردستاني- وبدا أن أردوغان اختار مقايضة التحاقه بالتحالف في الحرب على «داعش»، بورقة بيضاء تتيح له ضرب «الكردستاني» في كل مكان. وأما السجال الأميركي- التركي المُعلن حول مناطق آمنة في شمال سورية، أو منطقة آمنة خالية من «داعش» يحرسها تركمان سورية، و «جزر» آمنة وحظر جوي، وغطاء جوي للمعارضة السورية المعتدلة فقط، فلا يعكس سوى عمق الأزمة الطويلة بين أنقرة وواشنطن، منذ اختارت إدارة الرئيس باراك أوباما «التعايش» مع نظام الأسد، بلا أسنان كيماوية تزعج إسرائيل.
أقلقت نار الحرب السورية طويلاً الحدود التركية التي يُفترض أن يحميها الحلف الأطلسي، كلما تعرّضت لتهديد. لكن الثنائي أردوغان- أحمد داود أوغلو اكتشف أن تداعيات الحرب نقلت الخطر إلى قلب تركيا التي تعاطف أكرادها مع الأكراد السوريين، وجميعهم يرى فرصة سانحة لكيان خاص، أسوة بأكراد العراق الذين يعتبر الغرب أنهم باتوا يمتلكون مقوّمات دولة. كل ذلك يبرر قلق أردوغان، ويحيّره بل ما زال يخيِّب أمله رفض أوباما إعلان منطقة آمنة في شمال سورية، بحماية طيران التحالف الدولي. فتح الرئيس التركي قاعدة أنجرليك لحرب التحالف على «داعش»، واختار «تقسيم» الحدود مع سورية أو تجزئتها في مناطق مغلقة، لتشديد الرقابة على تسلُّل «داعش» وخطره، فيما المقاتلات التركية تلاحق «الكردستاني» … ولا تضمن زوال خطره. بين إيران والغرب غزل في بداية «شهر عسل» يُقلِق المنطقة… وبين تركيا والتحالف، اختبار مرّ، خصوصاً بعدما تلكّأ أوباما طويلاً، وترك السوريين في مواجهة إبادة، وحرم الأتراك من رتبة الحليف المميّز، على خاصرة «الأطلسي».