عقل العويط/الله ليس قاتلاً

360

الله ليس قاتلاً
عقل العويط/النهار/25 تموز 2015

هذه الافتتاحية مكرّسة لـ”المؤمنين”، على اختلاف أنواع إيمانهم، وخصوصاً منهم الذين يعتقدون أن الله يمكن أن يقتل، أو يمكن أن ينحاز إلى مباهج الدنيا، أو أن يكون غنياً. هذا كلّه أناقشه، وألفت إليه، في غمرة ما تشهده حياتنا البشرية مطلقاً، وحياتنا الشرقية على وجه الخصوص، من استبداد سياسي وأمني ومجتمعي، وظلم وقهر وانعدام مساواة و… فقر مدقع.

الله رحمن رحيم
هل الله قاتل؟ الجواب الفوري: لا. هو ليس قاتلاً، لدى كلّ المؤمنين به، أياً كانت أديانهم ومعتقداتهم. إنه، عندهم، حبٌّ وعدلٌ وسموٌّ ورحمة. لكن ما شهدته أوروبا المسيحية في القرون الوسطى، وما تشهده مجتمعاتنا الشرقية المسلمة، يقول العكس تماماً، حيث يتمّ، باسم الدين، إما تأجيج النعرات الإلغائية المتطرفة، وإما تأليه لغة القتل والعنف والإلغاء والإرهاب والتكفير، وإما التقوقع العصبوي المهين. في الأحوال كلّها، يستعان بكلّ ما من شأنه التعبير عن القوة العارية، التي لا تتحمّل وجودَ آخر، أياً يكن هذا الآخر. فبأيّ “إله” يؤمن هذا العالم الشرقي، وإلى أين يذهب بنا “المؤمنون”، على اختلاف إيماناتهم؟

لن أناقش هل الله موجود أم لا. هذا ليس موضوعي. الموضوع الذي يشغلني ويشغل عالمنا الشرقي اليوم، هو العنف القائم على أساس ديني، بين غلاة المسلمين أنفسهم، سنّةً وشيعةً من جهة، والعنف الذي يتعرّض له المسيحيون من جهة ثانية، على أيدي التكفيريين الإسلامويين. علامَ يدلّ هذا العنف، في حالتَيه؟ إنه يدلّ على العماء الذي لا يجرّ إلاّ العماء. فالعنف مطلقاً، شأنٌ يعبّر عن انحطاط الحياة البشرية، وعن التخلّف والاستبداد والقهر، فكيف إذا كان يتحصّن بأسانيد يزعم أصحابها أنها ذات أساسٍ كتابيّ. كلّ تحصّنٍ من هذا النوع، هو مسبّة للدين، ومدعاةٌ للعار، لا لأيّ وصفٍ آخر. ما تقوم به الجماعات العنفية المسلحة، أكانت تقف إلى جانب الأنظمة الاستبدادية أم تقف في الجانب التكفيري الإرهابي المناهض لها، إنما يجعلها “تخلق” لنفسها آلهةً قاتلة، خارجةً بذلك على كلّ مفهومٍ لإله التراحم. ما تعيشه شعوبنا الشرقية حالياً من حروب، وما تتعرض له من أعمال قتل جماعية وفردية، شهادةٌ رهيبة وفظيفة على أن “الله” الحقيقي ليس موجوداً في ظهرانينا، ولم يعد هو موضع العبادة. هذا القتل الهمجي، العشوائي والمنظّم، لا علاقة له بـ”الله”، على الرغم من الادعاء بأن الأسانيد والشعارات والرايات المرفوعة، هي، بزعم هؤلاء القتلة، إلهية حصراً. هذه الأفعال المشينة ليست تجسيداً لإرادة إلهية سمحاء. إنها تجسيدٌ لإرادة إلهٍ مسخٍ، هو من اختراع القتلة أنفسهم.

نحن، في سوريا والعراق واليمن ومصر ولبنان…، في حضرة هذا الإله القاتل المسخ. والإله القاتل ليس ليُعبَد، أو ليؤتمَر به، بل ليُنتفَض عليه، وليوضع في الحبس.

التطرف الديني، هو قتلٌ للدين. ما تفعله التنظيمات الإسلاموية المتطرفة، يصبّ في مجمله، ضدّ الدين الإسلامي. وهذا بالضبط ما يدعو إليه “إله التوراة”، وما تهلّل له الصهيونية العالمية، وما تهدف إليه. لا دين للرحمن الرحيم يستطيع أن يحمل عبء هذا القتل الشرقي المتراكم، في العراق واليمن وسوريا ومصر ولبنان. تحميل الدين، ما لا طاقة له عليه، يفضي، في الضرورة، إلى عكس الغاية المرجوّة منه. هكذا تخطئ التنظيمات الإرهابية المتطرفة خطيئة تاريخية كبرى، عندما تعتقد أنها بجرائمها الدموية تثبّت أركان الدين الإسلامي، وتمكّنه في الأرض.

إنه زمن القتل، وشعوبنا الشرقية هم رهائنه. وهو بالتأكيد ليس زمن الله. إنه زمن القتل. كلّ قتلٍ هو نفيٌ لله، وهو قتلٌ له. ا نعيشه من أحوال، يحتّم علينا، وخصوصاً على المعنيين الدينيين، مسؤولية عظمى. وإذا كانت المؤسسات الدينية، تعالج بالمسكّنات، أو بالتهرّب والتغافل، كلّ هذا القتل القيامي، فإن تَنَعُّجها المريب لن يحميها، ولن يحمي الدين الذي تزعم أنها تمثّله.

الدول تتفكّك. المجتمعات تتفكّك. الحياة تنحلّ انحلالاً قيامياً مفجعاً. باسم الدين، يتم الإجهاز على التاريخ والحضارة والحياة والأوطان. لن يبقى على هذه الأرض إلاّ الشهود الذين يحملون الأوجاع إلى مثواها الأخير. مام هذا المثوى الأخير، لن يكون ثمة منتصرٌ واحدٌ في المقتلة. المنتصرون مهزومون، والمهزومون مهزومون. لن يبقى في الحفلة إلاّ الغربان التي تحلّق على علوّ منخفض في انتظار اكتمال مشهد الجثث، لتبدأ وليمتها. ثمة شاهدٌ سيشهد. الله ليس قاتلاً. وإذا كان ثمة إله في هذه المقتلة فهو ليس إلهاً ليُعبَد. الله هو حبٌّ كلُّه، وتَرَاحُم. هذا ما يجب أن يقال للقتلة، من الجانبَين. للأسف، هم لا يفهمون الآن. وربما لن يفهموا إلاّ بعد فوات الأوان!