بول سالم: قضية الشباب العربي بين الأمس والغد//معتز حيسو: السباق السوري والعربي إلى الهاوية

362

قضية الشباب العربي بين الأمس والغد
بول سالم/الحياة/02 تموز/15

يشكل قطاع الشباب – أي المواطنين بين أغمار 15 و30 سنة – أكثر من ثلث المجتمع في المجتمعات العربية. تشكل هذه الفئة نواة المستقبل في أي وطن، وكان الشباب رأس الحربة في الانتفاضات التي اندلعت عام 2011 مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن، تم دفعهم جانباً من قبل الحركات الإسلامية الأكثر تنظيماً أو قوى «الدولة العميقة» العائدة. إنما خيارات الشباب وتأثيرهم سيحدد مستقبل المجتمعات العربية على المدى البعيد. وعلى رغم الأحداث المأسوية التي تسيطر على عناوين الصحف اليوم، فإن غالبية الشباب العربي تطمح إلى العيش في مجتمعات مستقرة ومعتدلة ومتنوعة وديموقراطية.
يمثل تحدي الشباب في بعض جوانبه ظاهرة من ظواهر الحداثة. في الأزمنة ما قبل الحديثة كان الأهل يتفادون تحديات سني المراهقة بتنظيم زواج الأولاد سريعاً بعد الوصول إلى سن البلوغ ويحملونهم مباشرة أدواراً ومسؤوليات مثل الراشدين ضمن الاقتصاد والمجتمع الزراعي الذي لا حاجة فيه إلى سنين من الدراسة والتأهيل. أما في عالمنا اليوم فإن فترة الانتقال ما بين مرحلة الطفولة ومرحلة البلوغ تمتد لسنوات عدة. إن هذه الفترة، خصوصاً في العالم العربي، طويلة وصعبة جداً بسبب ارتفاع معدلات البطالة، وصعوبة إيجاد المسكن، ووجود حظر مجتمعي عام على العلاقات الجنسية قبل الزواج. لهذا، فغالباً ما يظل الشباب والشابات في الكثير من الدول العربية في حالة توتر وإحباط شديدين، ابتداء من سن المراهقة وصولاً إلى عمر الثلاثينات في كثير من الحالات، أضف إلى ذلك حظراً عاماً على المشاركة السياسية والتعرض لمستويات عالية من القمع، ونستطيع أن نقدر حجم التحديات.
في النصف الأول من القرن العشرين، كان ينظر إلى الشباب على أنهم أمل الأمة ومحرك التغيير والقيادة الجديدة. وقد قامت الثورات والانقلابات في العالم العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تحت شعارات تحمل اسم جيل من الشباب انتفض ضد فساد جيل الكبار وخمولهم. ولكن في وقت لاحق، أصبح ينظر إلى الشباب على أنهم «مشكلة»، بل أنهم مصدر تهديد للدولة والمجتمع. وسعت الحكومات إلى مواجهة هذا «التهديد» من خلال السيطرة على المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، ومن خلال مؤسسات التجنيد العسكري وجهاز استخبارات متغلغل.
ولكن، مع انتشار القنوات الفضائية وتطور شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، ظهر مجال عام جديد – افتراضي، ولكن حقيقي جداً! – ليس للدولة سيطرة تذكر عليه.
أبدت الدولة قلقها من الفضائيات، لكنها اعتقدت أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي توفر مساحة غير مقلقة للدولة حيث يمكن الشباب أن يمضوا أوقاتهم في الدردشة ومشاهدة أشرطة الفيديو. لكن الدولة فشلت في إدراك أن هذه المجالات الجديدة شكلت فضاء حقيقياً لتشكيل الرأي العام ولحشد الشباب تجاه العمل العام. وقد رأينا نتائج ذلك في المرحلة الأولى من الثورات العربية.
ولم تكن الدول فحسب هي التي شعرت بأنها مهددة من جانب تمكين الشباب، بل المجتمع الأبوي نفسه، فضلاً عن السلطات والتيارات الدينية. فقد هزهم هذا القطاع الكبير من المجتمع الذي لا يندمج في شكل سلس في البنية السياسية والاجتماعية القائمة والذي يشكل جزءاً من ظاهرة متنامية لشباب العولمة. ويشعر المجتمع الأبوي والديني بالقلق، ولا سيما أمام مطالب مساواة المرأة ضمن هذه المجموعة. وبدأنا نرى عودة لصورة الدولة أو الزعيم «الأب» وهياج غاضب من جانب الحركات الدينية المتطرفة التي تحاول إجبار النساء على الخضوع بالقوة.
لكن هموم الشباب يجب أن تبقى نصب أعيننا. وفي استطلاع للرأي أخيراً أجرى مقابلات مع الشباب من 16 دولة عربية (*1)، ظلت البطالة على رأس قائمة أولوياتهم. فالوظيفة هي التي تفتح الباب أمام الشباب للانتقال إلى مرحلة الاستقرار، من خلال تأمين الدخل، والسكن، وتكوين أسرة. فهناك 500 ألف شاب يدخلون سوق العمل العربي كل عام. وسيظل تحدي النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل حاجة استراتيجية رئيسية في المنطقة على مدى العقود المقبلة.
لكن المثير للقلق في هذا الاستطلاع، هو تراجع اعتقاد الشباب بإمكان الوصول إلى الديموقراطية في العالم العربي في المستقبل المنظور. فبين عامي 2011 و2014، أدرج الشباب الذين شملهم الاستطلاع «غياب الديموقراطية» باعتبارها العقبة الأولى التي تواجه المنطقة. وفي عام 2015، أصبح القلق من «داعش» وانتشار الإرهاب والتطرف في الأولوية، وتراجعت الديموقراطية على قائمة الأولويات.
إن التجارب المخيبة للآمال في التحولات الديموقراطية منذ 2011 التي جرت في الدول العربية الخمس التي نجحت منها واحدة فقط، أدت إلى ضعف الاعتقاد في نجاح الديموقراطية يوماً ما في العالم العربي. أجاب أربعون في المئة من الشباب الذين شملهم الاستطلاع في عام 2015 أنهم لا يعتقدون أن الديموقراطية سيتم تطبيقها يوماً ما في العالم العربي، وهذا موقف مذهل بعد أيام سادها الأمل الديموقراطي في عام 2011. والواقع أن الرواية القديمة التي تقول أن الخيار الوحيد هو بين التطرف الديني والدولة السلطوية يبدو أنها قد عادت من جديد لتنتشر حتى بين الشباب في المنطقة.
لكن هناك بيانات أخرى تشير إلى اتجاه مختلف. حيث تظهر دراسة البيانات عبر الإنترنت في العالم العربي اتجاهاً واضحاً ومستمراً نحو القيم والأفكار الليبرالية التي تؤمن بالحرية والديموقراطية والمساواة بين الأجناس والتنوع وقبول الآخر. كما أوضح أحمد بنشمسي في دراسة نشرت أخيراً (*2)، إذا وضعنا جانباً مواقع المؤسسات الإعلامية والمطربين، فإن حسابات «تويتر» العشرة الأكثر متابعة في مصر هي تلك التابعة لقادة أو معلّقين ليبراليين من أمثال محمد البرادعي وباسم يوسف وعمرو حمزاوي وغيرهم. وفي المملكة العربية السعودية، فإن ستة من عشر قنوات «يوتيوب» الأكثر مشاهدة هي البرامج الساخرة التي ينتجها عدد من الشباب السعودي غير الراضي. وقد حصلت هذه المقاطع على أكثر من 900 مليون مشاهدة حتى الآن.
ما زالت الدول السلطوية أو الجماعات المتطرفة تهيمن في الساحات السياسية التقليدية وفي ساحات الصراع المسلح، أما الفضاء المسمى افتراضياً، حيث يقضي الشباب معظم أوقاتهم ويتشكل وعيهم، فتهيمن عليه أفكار وقيم أخرى.
يحدث تغيير الأجيال ببطء شديد أحياناً. رفع هذا الجيل رأسه في عام 2011، وتعرض لضربات قاسية من جانب مؤسسات الأجيال القديمة. ولكنه لم يهزم، وفي الواقع أنه لا يمكن أن يهزم لأنه هو المستقبل. إنه ينمو على طريقته في وسائل التواصل الحديثة وبين جماعات المجتمع المدني النشطة في جميع أنحاء العالم العربي. إنه لا يحبذ استمرار النظام السياسي السلطوي القديم، ولا صعود شكل جديد من أشكال القمع الديني المتطرف. لم يجد بعد السبيل لتحويل نفسه من حالة اجتماعية وثقافية واسعة إلى قوة سياسية تستطيع أن تفرض نفسها وخياراتها، أو السبيل إلى تطوير النظام السياسي من دون التسبب في انهيار الدولة ومقوماتها أو التسبب في رد فعل عنيف.
ولكن، لا يمكن النظام القديم أن يستمر إلى أجل غير مسمى، وستفشل محاولات التطرف الإسلامي لفرض نظام توتاليتاري جديد. إن القوى القائمة اليوم لا تزال تمثل تراكمات الماضي، ولكن يجري تشكيل المستقبل بين شباب اليوم. وستشرق شمس هذا الجيل في سنوات ليست بعيدة، لا محالة.
* كاتب لبناني، نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
(*1) www.arabyouthsurvey.com
(*2) http://goo.gl/dbVcFM

 

السباق السوري والعربي إلى الهاوية
معتز حيسو/الحياة/02 تموز/15
يشهد العديد من البلدان العربية ما يمكن أن ندعوه سباقاً إلى الهاوية. لهذا لن تكون سورية نموذجاً فريداً لا يتكرر في بلدان أخرى وإن بأشكال مختلفة. وإذا حاولنا أن نحدد أسباب الانهيارات والتصدعات، نلحظ أنها تعود إلى ذات الأسباب البنيوية، أما الخلاف فينحصر في إطار التجليات الظاهرية. من البداهة بمكان أنَّ عوامل الأزمة البنيوية التي مهّدت لمعاناتنا الراهنة تتزامن وتتقاطع وتتراكب مع الميول الدولية العامة: «إذا استطاعت الرأسمالية أن تتحالف مع أشكال إنتاجية قبل رأسمالية، فإن أحداً لن يستطيع التنبؤ بالمآلات التاريخية التي يمكن أن تؤول إليها الأمور»، فكيف ونحن أمام قوى رأسمالية تتحالف مع تلك الأشكال وتعمل على توظيف تنظيمات وحركات ومجموعات جهادية إسلامية موغلة في التخلف والقهرية؟. فهذا بالتأكيد سيعطينا مؤشراً إلى أننا مهددون بالسقوط في مستنقعات وكوارث قلّما شهدها أو سيشهدها التاريخ البشري. وتتزامن ميول الرأسمالية في تصنيع وتصدير أكثر أشكال التخلف والعصابية المحمولة على ميول دينية جهادية وتكفيرية مع عوامل أزمتنا العميقة: سياسية، تتمحور حول احتكار السلطة وتجفيف تربة العمل السياسي المعارض، واقتصادية، تتجلى في عدم بلورة مشروع تنموي استراتيجي، وقد شكّل تقاطع ذلك مع انتشار مظاهر الفساد وهدر الثروات وتفاقم النهب، أهم الأسباب التي ساهمت في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وثقافية، تتجلى في تراجع تأثير الفكر العلماني مقابل انتشار واسع للفكر والوعي الديني المتشدد الذي يميل في لحظات التأزم إلى العقيدة الجهادية. وشكّل غياب الحريات السياسية وازدياد معدلات الفقر، البطالة أرضية خصبة لنمو الأفكار المتطرفة والميول السلفية ومظاهر التدين.
إن كان ما نشهده من تحولات عاصفة يعود في بعضٍ من أسبابه إلى عقود ماضية، فالتنظيمات والمجموعات المحمولة على فكر جهادي متطرف تعمل على توظيف الظروف الموضوعية السياسية والثقافية والاقتصادية السائدة وفق آليات وأشكال تخدم تمدد مشاريع أيديولوجية دينية تكفيرية. في السياق واللحظة ذاتهما تشتغل الأنظمة المحمولة على فكر عقائدي سياسي أحادي على إعادة إنتاج البنية السياسية والأمنية للسلطة المسيطرة ذاتها.
لكن التقاطع في آليات التفكير والممارسة بين الطرفين الديني المتطرف والسياسي الأحادي لا يلغي الاختلاف والتمايز بينهما. ويكمن ذلك في أن جذور العقيدة الجهادية التكفيرية تعود إلى عصور الظلام والانحطاط. إضافة إلى ذلك يعمل مشايخها ودُعاتها على تبرير جرائم المجموعات الجهادية التي تستهدف تدمير الإنسان، وكل ملامح التاريخ والحضارة الإنسانية، بالاعتماد المشوه والانتقائي والمجتزأ على بعض النصوص من القرآن والسنّة. وإذا كان التاريخ لا يكرر ذاته إلا على شكل مهزلة، فما يقوم به تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وبقية المجموعات السلفية الجهادية يتجلى في الاشتغال على استعادة أكثر اللحظات التاريخية عنفاً وتخلفاً وقهراً. وفي سياق ذلك يتم إجبار الأقليات وفي شكل خاص الدينية على اعتناق عقيدتهم، أو دفع الجزية «صاغرين» وإلا فالتهجير أو القتل.
ولا تقف تلك المجموعـات عند هذا الحد، لكنها تستهدف بالقتـل كل من يـخـالفها التفكير والممارسة، علمانيـاً كان أو مسلماً.
أما في ما يتعلق بالسلطة السياسية، فتعمل في سياق الحفاظ على بنيتها الأحادية الشمولية، على مواجهة حركة التاريخ التطورية. ويتجلّى ذلك من خلال ممارسة كل أشكال القهر والعنف ضد كل من يخالفونها الرأي، سواء اندرجوا في أطر معارضة سياسية أو لم يندرجوا. لكنّ مكر التاريخ أدخل السوريين في أتون حرب متعددة الأطراف، ومتراكبة المستويات، يتصارع فيها المدافعون عن السلطة الأحادية مع جحافل المجموعات الجهادية و»معارضات معتدلة»، وجميع هؤلاء يرون أن لغة العنف والقهر والاستئصال تشكّل المدخل الوحيد لتحقيق أهدافهم. أما ضحايا تلك الحرب فإنهم: الإنسان المقهور والمجتمع والاقتصاد والتاريخ والحضارة الإنسانية والجغرافية. فالإنسان والمجتمع يتم تدميرهما بكل الوسائل وعلى مختلف المستويات والأشكال، فيما بالنسبة للاقتصاد، وإضافة إلى مظاهر النهب المستشرية، يتم تهديم وتدمير البنية التحتية ومصادر الثروة. أما التاريخ والحضارة الإنسانية فيتم الاشتغال على تحطيمهما وإزالتهما من دائرة الزمن والجغرافيا، وهذا يصب في سياق الاشتغال على مسح ذاكرة الإنسان وتفريغها من أي إرث أو تاريخ حضاري، وصولاً إلى سلخ الإنسان عن تاريخه الحضاري. وبخصوص الجغرافيا، يتم الاشتغال على إزالة الحدود الراهنة، وإعادة تقسيمها في سياق تتحول معه حدوداً لمجرد جمّاعات عرقية، عشائرية، طائفية، مذهبية متخارجة ومتصارعة. وهذا يتزامن مع نبش خزائن العقائد البائدة وتظهير أكثرها تخلفاً وتعميمها بالقوة القهرية في سياق القضاء على أشكال التمايز والتنوع الإنساني الفكري والثقافي.
أما الغائب عن المشهد فطرفان، الأول: فئات ترفض الانتماء إلى أي من الأطراف المتصارعة. والثاني: حملة الفكر التنويري والحركات السياسية المدنية والعلمانية، وأنصار الحل السياسي السلمي.
وحتى لا نستمر في سباقنا إلى الهاوية والمجهول من المآلات، بات واضحاً أننا في حاجة إلى استنهاض العقلانية الموضوعية والإنسانية والقيم الأخلاقية ومن يحملون هذه القيم. وهذا يستدعي من الجميع العمل على إنهاء الصراع والتمسّك بالعقلانية والموضوعية ومصالح المجتمع العامة والأساسية والحفاظ على التنوع والتكامل الاجتماعي، ووحدة أوطاننا ومجتمعاتنا.