الياس حرفوش: ساحة الحرب مع داعش» تتسع//خالد الدخيل: تطاول الأقزام والأفق المصري المسدود//علي نون: استراتيجية الهباء

366

ساحة الحرب مع «داعش» تتسع
 الياس حرفوش/الحياة/28 حزيران/15

انشغلت الجهات السياسية والأمنية الغربية أمس بالبحث في الرابط بين الاعتداءات الثلاثة التي وقعت في الكويت وسوسة التونسية وليون الفرنسية، وفي احتمال أن يكون أمر العمليات قد صدر من جهة واحدة لتنفيذ هذه الاعتداءات في اليوم نفسه وفي وقت واحد تقريباً، في حدود صلاة الظهر من الجمعة الثانية من شهر رمضان. لم يكن صعباً أن يتجه الاتهام إلى تنظيم «داعش» الذي صار اليوم ماركة عالمية للأعمال الإرهابية. فالاعتداءات الثلاثة حصلت ضد أهداف يعتبرها التنظيم بين خطط نشاطه المشروعة. في الكويت كان الاعتداء على الشيعة، وهم في لغة «داعش» يعتبرون من «الروافض». وفي تونس تم الاعتداء على سياح أجانب، يجمع بين «مشروعية» استهدافهم كونهم فاسدين وفاسقين، تتمدد أجسادهم شبه العارية على الشواطئ التونسية، إضافة إلى أن معظمهم من المسيحيين «الكفار»، ما يضاعف في استحقاق عقوبة الموت التي نالوها. أما في ليون، فيكفي أن يكون المصنع المستهدف أميركياً، وأن يتم قطع رأس الضحية، وهو مدير المعمل، ثم تعليقه على السياج الخارجي وبقربه رايتان تحملان شعارات «داعش»، للإيحاء بأن الجريمة مستوحاة من عمليات التنظيم، وإن لم تكن الأوامر قد جاءت مباشرة منه. سبق لأبو محمد العدناني، المتحدث باسم «داعش» أن توعد «الكفار» في بداية شهر رمضان هذا العام بأن هذا الشهر سيكون «شهر الكوارث» التي ستحل بهم، كما دعا أتباع التنظيم ورافعي رايته إلى القتال، حيثما كانوا وبأي طريقة استطاعوا. وهو ما يجعل السؤال منطقياً عن مسؤولية «داعش» المباشرة عن هذه العمليات، مع أن الجواب لن يغير شيئاً في الواقع، فحتى لو ثبتت المسؤولية، يستبعد أن نشهد قادة هذا التنظيم يمثلون أمام محاكم جنائية في تونس أو الكويت أو فرنسا ليلقوا جزاءهم، كما أن مرتكبي هذه الاعتداءات هم انتحاريون أساساً، ولن ينتظروا موعد المحاكمات ليعرفوا طبيعة الأحكام التي ستصدر بحقهم. وهكذا ففي الوقت الذي يفكر العالم المسلم والغربي في الطرق المناسبة للقضاء على «داعش» وإنقاذ المنطقة من جرائمه، وكذلك إنقاذ الدين الإسلامي من الإساءة البالغة التي تلحقها به جرائم هذا التنظيم، نجد أن ساحة المواجهة تتسع ولم تعد تقتصر على الرقة وعين العرب والموصل وتدمر وسواها من المناطق والمدن التي يسيطر عليها، ما يجعلنا نتذكر تهديد العدناني نفسه في مناسبة سابقة توعّد فيها بالوصول «إلى باريس قبل روما».

ومع اتساع ساحة المواجهة تزيد الصعوبات أمام تحقيق انتصار. فلا تستطيع أي دولة في العالم أن تحمي منشآتها السياحية ومصانعها ومساجدها وكنائسها أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، وحتى عندما تفعل ذلك، فإن النتيجة ستنعكس سلباً على طبيعة الحياة اليومية في البلدان الغربية التي اعتاد أهلها أن يتمتعوا بحياتهم في شكل طبيعي، بعيداً عن العوائق الأمنية. كما أن تنظيم «داعش» سوف يعتبر هذا الوضع مكسباً لأنه سوف يرى أنه انتصر على الغربيين وتمكن من تعطيل أسلوب حياتهم، وعزز الانشقاقات بين المواطنين من أهل البلد والوافدين إليهم، وأكثريتهم من المسلمين. أما بالنسبة إلى استهداف الحركة السياحية في عدد من الدول العربية، وهي مصدر أساسي للدخل القومي في هذه الدول، مثل مصر وتونس، فإن القضاء عليها هو أيضاً هدف لـ «داعش» لأنه يضرب هذا المرفق الذي يعتبره التنظيم من المحرمات، كما يؤذي في الوقت ذاته اقتصاد دول ينظر إليها على أنها معادية له ولمشروعه المتطرف والتخريبي. أمام سهولة التواصل القائمة بين دعاية «داعش» وأشرطته على الوسائل المسماة «اجتماعية» وبين جمهوره العريض من المتطرفين والسذّج والمغالين أو السطحيين في فهمهم أصولَ الدين، لم يعد ممكناً لبلد واحد أو لكيان سياسي بمفرده أن ينتصر. المعركة العريضة المفتوحة مع العالم تحتاج إلى جبهة عريضة أيضاً. ومن هنا ضرورة تعاون الجميع، عرباً ومسلمين وغربيين، ضد هذه الآفة التي تهدد الإسلام والمسلمين وحضارتهم قبل أي طرف آخر.

تطاول «الأقزام» والأفق المصري المسدود
 خالد الدخيل/الحياة/28 حزيران/15

 الجميع تقريباً يدرك الآن حال التراجع العربي. يرى مؤشراتها في كل بلد، وكل مجال، وكل مناسبة. أصبح هذا التراجع يقدم نفسه مباشرة لكل من يريد أن يرى في الحروب الأهلية، والإرهاب، والميليشيات، والسلطات المستبدة، والتدخلات الأجنبية، والدماء التي تنتشر في كل المساحة الممتدة من الخليج العربي وحتى المحيط الأطلسي في المغرب العربي. كتب كثيرون عن هذا الموضوع. ولعل الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي من بين أكثر الذين يعبرون عن ضيقهم وحسرتهم لما وصل إليه حال العرب. آخر ما كتبه عن ذلك الإثنين الماضي في صحيفة الشروق المصرية. إذ تداخلت في مقالته مشاعر الحسرة على مدى تراجع الحال العربية، ومسحة تشاؤم لا تخطئها عين. لكن اللافت أن المؤشرات التي يوردها عن الحال العربية لا ترقى إلى حجم الخطر كما يراه. أحد هذه المؤشرات ما يقال عن تقارب خليجي، وتحديداً سعودي، مع إسرائيل. وعلى رغم خطورة هذا الادعاء إلا أن هويدي لم يجد ما يعتمد عليه سوى خليط يجمع معلومة مبتسرة، وأخرى لا علاقة لها بالموضوع إلى رأي وتفكير بالتمني أحياناً. من أهم ما اعتمد عليه مقالة لمجلة الإيكونومست البريطانية بعنوان «The New Frenemies»، أي «الأصدقاء – الأعداء الجدد». وهي مقالة كتبت من مكتب القاهرة، لا يتجاوز حجمها (573) كلمة. وهي أقرب للرأي منها للتحقيق، وتحديداً رأي المجلة، كما يعبر عنه عنوان المقالة الإنكليزي، ومضمونها، وأنها تخلو من اسم كاتب عليها.

المؤشر الآخر، والأكثر غرابة على تراجع العرب بحسب هويدي، هو أن سؤال «من هو العدو؟» بات كما يقول: «وارداً وباب الاجتهاد فيه مفتوحاً». وهو يقصد بذلك أن إسرائيل لم تعد في نظر العرب هي العدو الوحيد لهم، بل دخلت، أو أدخلت إيران على قائمة العداء. والحقيقة أن الكاتب أبدى جزعه من هذا التطور في مقالات عدة. لكنه استشهد في مقالته الأخيرة على هذا التطور بما جاء بشكل خاص في الإعلام الخليجي، وتحديداً السعودي. إذ يقول بالنص: «في تقييم الموقف الإيراني ذهب معلقو النخبة السعودية أربعة مذاهب. الأول اعتبر إن إيران هي العدو، وهو رأى تردد في الإعلام الخليجي، وتبنته بعض الكتابات المصرية. الثاني ذكر أن إيران عدو جاهل وإسرائيل عدو عاقل (أنور عشقي) ــ الثالث اعتبر أن إسرائيل عدوة بذاتها، أي أنها ولدت عدوة للعرب في حين أن إيران عدوة بأفعالها بمعنى أن الثوة الإسلامية لم تولد معادية للعرب، ولكنها أصبحت كذلك بممارساتها اللاحقة (خالد الدخيل). الرابع قيل بأن إيران عدوة بأفعالها، ولكن العداء ينبغي أن يظل محصوراً في دائرة نظام طهران وليس عموم الشعب الإيراني المسلم والشقيق (داود الشريان في جريدة «الحياة» وجهاد الزين في «النهار» البيروتية)». يستنتج الكاتب من ذلك أن إسرائيل لم تعد العدو الأول للعرب، ولا الوحيد، بل أصبحت إيران تنافسها. ويرى مخاطر ثلاثة لذلك: أنه يسوغ الممارسات الإسرائيلية، والتطبيع، ويؤجج الصراع العربي الإيراني، ويفتح «الأبواب لصراع كارثي بين السنّة والشيعة». وجه الغرابة والتناقض في تناول الكاتب لهذه النقطة أنه ارتكب الخطيئة التي كتب مقالته للتحذير منها. إذ إنه يطالب العرب هنا بتهميش أنفسهم، وألا يكون لهم رأي بما تفعله إيران في حقهم، وعلى أراضيهم، لأن إسرائيل تحتل فلسطين. لم يحدد هويدي معياراً للعداء، يمكن الاحتكام إليه؟ ولم ينتبه إلى أن الطرف المتهم بالعداء هو المنبع الأول لهذه التهمة. معيار العداء هو أولاً الاعتداء، وثانياً الإصرار عليه وتبريره، وأخيراً تحويله إلى سياسة ممنهجة وملزمة. هل اعتدى العرب على إيران؟ هل حاولوا التدخل في شؤونها الداخلية؟ أو محاولة اللعب في تركيبتها الطائفية أو القومية، وهي تركيبة قابلة للتوظيف والتأجيج؟ الإجابة هي النفي. إيران هي التي جاءت إلى العرب، وتدخلت في شؤونهم. وكما ذكرت في المقالة التي أشار إليها هويدي «لم تأت إيران إلى العالم العربي من باب الجيرة، والانتماء الإسلامي، والتنافس، وحق الدور الإقليمي ومشروعيته. بل جاءت من أبواب… تهدم معطيات الجيرة، وتشكك في دلالة الانتماء الإسلامي، وتقدم الدم والهدم على البناء والتنافس… تدخلت إيران بالعنف والاغتيالات والقتل والطائفية والميليشيات. وليس هناك أفعال أكثر عدوانية من هذه، تهدد الدول في استقرارها، والمجتمعات في تماسك نسيجها الاجتماعي والسياسي». هل لأن إسرائيل هي العدو الأول، على العرب ألا يلقوا بالاً لآخرين يعتدون عليهم، خصوصاً إذا كان هؤلاء مسلمون؟ هل يجب أن نسلم أنفسنا، وحقوقنا وأراضينا وتاريخنا لآخرين مثل إيران فقط لتفادي تهمة أننا نساوي بينهم وإسرائيل؟ إلى أي منطق ينتمي مثل هذا التحليل؟ إذا كان هناك تساوٍ أو مماثلة بين إيران وإسرائيل فالمسؤول عن ذلك من عمل على مساواة نفسه بإسرائيل، وليس على من سجل ملاحظة التساوي هذه. إذا كانت إيران تتصرف مع العرب بشكل لا يختلف كثيراً عن إسرائيل، فإيران هي المسؤولة عن ذلك. تركيا لم تتصرف مع العرب مثل إسرائيل. ولا الحبشة كذلك. لم يصف أحد أياً من هاتين الدولتين بأنها عدو للعرب. لكن إيران هي التي كسبت هذه الصفة بنفسها، وسياساتها، واعتداءاتها. كل ذلك، وأنا لم آتِ على ذكر احتلال إيران للجزر الإماراتية منذ أيام الشاه حتى يومنا هذا.

والأغرب في هذا السياق قول الكاتب بأن اعتبار إيران عدو للعرب يفتح أبواب صراع سنّي شيعي. الجمهورية الإسلامية هي من عرفت نفسها بنصوص دستورها بأنها دولةٌ شيعيةٌ اثناعشرية. وهي أول من أيقظ الطائفية في المنطقة وحولها إلى عملية سياسية، وصراع سياسي، وميليشيات طائفية. بعبارة أخرى، تفجير إيران للصراع الطائفي هو سبب اعتبارها عدو بأفعالها، وليس العكس. وكونها عدوة بأفعالها يحصر السلوك العدواني هنا بنظام الجمهورية الإسلامية السياسي. وإلا فإيران كشعب ليست عدوة للعرب.

هل من المنطق أن نسمح باستغلال مأساتنا في فلسطين لتمرير اعتداءات الآخرين علينا؟ التساهل هنا خطر، لأنه يجعل من الإسلام ذريعة للعدوان يتلحف به. وهذا ما تفعله إيران. ملة العدوان واحدة، ونسيجها السياسي والتاريخي، ومبررها والآيديولوجي واحد. تبرر إسرائيل عدوانها بالتاريخ، وبآيديولوجيا التوراة. وتبرر إيران عدوانها أيضاً بالتاريخ، وبآيديولوجيا المرجعية المذهبية. علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني هو من قال إن إيران استعادت دورها، وإمبراطوريتها إذ بغداد هي عاصمة هذه الإمبراطورية التي تحارب التكفير والتطرّف الإسلامي. أما التبرير الآيديولوجي فأتى على لسان محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري عندما قال بأن تدخلات إيران في اليمن وسورية تأتي في إطار توسيع «الهلال الشيعي» في المنطقة.

دعك من اليمن. الغريب أن هويدي لا يرى عدوانية إيران في العراق وسورية. ولا يرى خطورة طائفية إيران، وهي ممأسسة بنصوص دستورية مكتوبة، وتمثل مرجعية لسياساتها الداخلية والخارجية. (أنظر «الحياة» 5 نيسان (أبريل)، 2015). والسؤال في هذه الحالة: هل أن هذا الموقف، وهو موقف اعتذاري، منبعه قناعة بإيران وادعاءاتها؟ أم أنه موقف سياسي من السعودية ودول الخليج؟ أي من هذين الخيارين حق له تماماً. لكن ما كان يليق بمن يدافع عن العروبة والإسلام أن يعبر عن هذا الحق باللغة التي استخدمها في قفلة المقال، وهي تجيب عن السؤالين السابقين. يقول فيها بالنص: «في الفراغ المخيم ما عاد للعالم العربي -الذي دخل مرحلة الأفول الكبير- له وزن أو قول، الأمر الذى أغرى بعض الصغار بأن يتطاولوا في البنيان ويحاولوا صنع المقادير. إلا أننا اقتنعنا في وقت متأخر بأن الصغار لا تصنع رقماً وأن الأقزام مهما بلغ عددهم لا يصنعون عملاقاً، … متى يمكن أن تستعيد مصر عافيتها لكي تسترد موقعها الشاغر وتثبت حضورها ..؟ وهو سؤال محير، لأن هذا الأمل يبدو بعيداً، ومعذباً لأن أفقه يبدو مسدوداً». هذه لغة تضمر عنصرية دفينة، وتنطوي على مفهوم مصري للعروبة ليس جديداً، تشكل في المرحلة الناصرية. لم ينتبه الكاتب إلى دلالة انسداد الأفق أمام عودة مصر، من ناحية، واستمرار تطاول (البدو) في البنيان من ناحية أخرى. أيهما البدوي هنا؟ وما معنى البداوة أصلاً؟ ولماذا يعتذر كاتب عربي لسياسات إيران الطائفية وعدوانيتها تجاه العرب، وفي الوقت نفسه يتخذ موقفاً عنصرياً من شعوب عربية؟ في الإجابة على هذا السؤال شيء مما يبحث عنه هويدي حول سبب تراجع العرب.

استراتيجية الهباء
علي نون/المستقبل/28 حزيران/15

لا تدلّ أخبار المفاوضات الجارية حول الملف النووي الإيراني إلى انتهائها في الموعد الذي حُدّد لها سابقاً، أي في نهاية الشهر الجاري. فالطرفان كانا بالأمس يتحدثان عن «عمل شاق» لا يزال مطلوباً قبل الوصول إلى النتيجة المرجوّة.. وذلك يعني استطراداً، أن الكباش التقني المستمر في غرف التفاوض سيترافق مع تصاعد الكباش الميداني في مسارح الحروب المفتوحة في المنطقة العربية. ذلك أن قيادة إيران الذاهبة قسراً إلى الاستسلام لخسارتها في الملف النووي الأعزّ على قلبها وطموحها وجموحها، لم (ولن!) تجد أمامها سبيلاً للتعويض عن ذلك الانكسار سوى بمواصلة ادعاءاتها الاستحواذية في الميدان العربي الممتد من اليمن إلى سوريا، من خلال تسعير المواجهة الجارية بالفعل وتصعيد الاستنفار في وجه الهجوم العربي المضاد عليها وعلى أدواتها.. وبما يسمح لها في المحصلة بتجنّب الإجابة عن الأسئلة الكبيرة التي تُطرح وستطرح عليها في الداخل أساساً وفي مقدّمها: سر هذه الاستراتيجية «العبقرية» التي أوصلت البلاد إلى الانهزام والإفلاس من دون تحقيق أي «انتصار» على طريق الوصول إلى مصافّ «الدول العظمى»؟!

المعضلة مع هذه الاستراتيجية أنها مبنية على الادعاء أكثر من الحقائق. وعلى الأوهام أكثر من الأرقام. وعلى الغيبيات أكثر من الماديات. وعلى التاريخ أكثر من الحاضر. وعلى الشكل أكثر من المضمون. ومشكلتها أنها بدأت باعتماد الخطأ وافترضت أنه يُوصلها إلى الصحّ: اعتمدت نهجاً يقوم على عمودي المذهب والقومية، وظنّت أن الغفلة العربية تبرّر يقظتها الفارسية. وأن الانهزام الإسلامي الأكثري في مواجهة المشروع الإسرائيلي يبرّر لها الشروع في الفتنة وأخذها كإحدى طرق الوصول إلى الامبراطورية المزعومة.. أخذت من سياسة الشاه الآفل، عدّتها وممارستها وشعاراتها، ولم تنتبه إلى تحوّل الزمن واكتمال حدود القوى والأقوام والدول والمعابر والممرات والخطوط الحمر التي تفرضها حقول الطاقة والضرورات الحاسمة لإبقاء شرايينها سليمة ومفتوحة على الضفة الأخرى من الخليج العربي. والمعضلة، أن قيادة إيران اعتمدت على سلاح ذي حدّين. واحد تتحكم به هي، وآخر موازٍ يتحكّم به كل أخصامها وأعدائها «ومفاوضيها».. وقصر النظر كان ديدنها ولا يزال: لم تنتبه في الملف النووي إلى أنها ستخسر في الحالتين. إذا نجحت وامتلكت «القنبلة» ستعرّض نفسها للهلاك! وإذا فشلت، وهذا ما هو حاصل (تفاوضيًّا) فإن كل «تضحياتها» واستثماراتها وحروبها وإرهابها ستضيع مثل الهباء المنثور! ولم تنتبه فوق ذلك إلى أن إشهار المذهب وتوظيفه في السياسة وصناعة النفوذ، يوصل إلى ردّة فعل موازية وأكثر حدّة.. مثلما لم تنتبه إلى أن اليقظة القومية المبنية على افتراض دوام نوم الآخرين، هي سياسة تشبه تسلل اللصوص إلى بيوت الآخرين لسرقتها، وعند أول إنذار يقع السارق في الفخّ وتُفكَّ رقبته! وغاشٍ وقاصر مَن ينكر اليوم أن من كان نائماً، استفاق أخيراً! وإن اليقظة العربية المضادّة في ذروة حيويّتها، وطريقها صعوداً وليس نزولاً. طاشت استراتيجية القيادة الإيرانية بعيداً وطويلاً، ووصلت في لحظة الحساب (الراهن) إلى حصاد لا تُخطئه عين: لا المشروع النووي نجح، ولا الاستثمار في الفتنة المذهبية أثمر.. وكل «أوراق» الميدان المشتعل من اليمن إلى سوريا مروراً بالعراق صارت مثل الجمر في يد الإيرانيين. تحرق وتستنزف، ولا يُعتدّ كثيراً بادعاءات حاملها ومدى قدرته على تحمّل لظاها! مشكلة الغير مع هذه الاستراتيجية «العبقرية» هي أن أكلافها لا يدفعها الإيرانيون وحدهم!