أمير طاهري: كيف قضى إردوغان الجديد على القديم//بول كروغمان: لأميركي.. لا يشعر بالأمان

258

كيف قضى إردوغان الجديد على القديم؟

أمير طاهري/الشرق الأوسط/12 حزيران/15

توقع معظم المراقبين انتكاسة يمنى بها حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، عندما توجهت الجماهير التركية إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات العامة الأحد الماضي. وما لم يتمكنوا من الاتفاق عليه كان مدى وعمق الانتكاسة المنتظرة.

وفي تلك الحادثة، بلغت نتائج الانتخابات حد النكسة الكبيرة لإردوغان التي تجاوزت توقعات أشد المتشائمين حيالها. خلال الـ13 عامًا الماضية، خاض حزب العدالة والتنمية أربعة انتخابات عامة وخمسة محلية، وفي كل حالة يرتفع نصيبه من أصوات الناخبين الأتراك. وتأتي نسبة 45 في المائة كمجموع الأصوات التي تحصّل عليها الحزب خلال تلك الدورات الانتخابية كافة. لكن هذه المرة، رغم ذلك، هبط نصيب الحزب من الأصوات إلى نسبة 41 في المائة فقط في انتخابات شهدت إقبالاً كبيرًا بلغت نسبته 86 في المائة من مجموع الناخبين. وبعبارة أخرى، فإن التوجه الذي شهد حزب العدالة والتنمية من خلاله زيادة مطردة في نصيب الأصوات في كل انتخابات يخوضها، قد انعكس مرتدًا على الحزب بشكل كبير.

فما الذي نخرج به من نتائج تلك الانتخابات؟

الرسالة الأولى والأكثر أهمية كانت، أن نمط السياسات الذي يمارسها حزب العدالة والتنمية لا يزال يتمتع بقاعدة داعمة كبيرة، غير أنها (السياسات) باتت مرفوضة من جانب ثلثي الناخبين الأتراك في الآونة الأخيرة؛ مما يعني، وبمزيد من اليقين، أن حزب العدالة والتنمية لن يتمكن من وضع أجندة الأعمال في أنقرة كما كان يفعل، فمن السابق لأوانه كثيرًا أن يعترض أو يوقف إنفاذ تلك الأجندة، بوصفه أكبر قوة سياسية منفردة في البلاد. إن غالبية الناخبين الذين تخلوا عن حزب العدالة والتنمية، ما فعلوا ذلك إلا من واقع بغضهم لإردوغان ذاته وبصفة شخصية، وليس بسبب خيبة آمالهم في موقف الحزب من واقع دعمه لقطاع الأعمال أو لكونه حركة إسلامية معتدلة. وبالتالي، فإن خروج عناوين بعض الصحف الغربية مؤخرًا لتقول إن «تركيا ترفض الإسلام»، لهو أمر أبعد ما يكون عن الواقع والحقيقة.

الرسالة الثانية، من الواضح تمامًا أن أصوات الناخبين المناوئة لحزب العدالة والتنمية كانت في مقامها الأول موجهة نحو سقوط إردوغان نفسه في منحدر الغطرسة والصلف الزلق. ولكن ما من شك أن ذلك السلوك الغريب المستمر عبر السنوات القليلة الماضية لا يشير إلا إلى فقدان تدريجي لحالة الإحساس بالواقع المحيط. فإن مناورات إردوغان الأخيرة، التي استخدم فيها عباراته المناهضة للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي بل ولإسرائيل، أظهرته بالرجل الغريق الذي يتعلق بظلال آخر عوامة.

لا يمكن التغاضي عن أحلام إردوغان بالسلطنة العثمانية الجديدة أو حتى الخلافة الإسلامية القادمة، ووصفها بأنها مجرد أوهام شخصية. وحقيقة الانتقادات التي تخرج من جانب كثيرين ممن هم في معسكر إردوغان حيال ميله الشديد للصلف والعجرفة، لتشير إلى أن المخاوف صارت متبادلة وعلى نطاق واسع وأكثر مما يتصور كثيرون. كان إردوغان القديم، ربما، أكثر السياسيين الأتراك شعبية في تاريخ تركيا الحديث.

ولقد تعرض إردوغان القديم للاغتيال على يد إردوغان الجديد في إصدار سياسي آخر من مناوبة الدكتور جيكل والمستر هايد.

كما أن هناك رسالة أخرى تتعلق بظهور تلك الدوائر الانتخابية المرتكزة حول العرق والنوع داخل تركيا. حتى قبل عشر سنوات من الآن كانت احتمالات وجود حزب كردي يقوم على أسس عرقية ويتنافس في الانتخابات العامة، ناهيكم عن الفوز بما يقرب من 14 في المائة من الأصوات، من الأمور غير المتصورة على الإطلاق. وفي الأحد الماضي، رغم ذلك، فاز حزب الشعب الديمقراطي بـ82 مقعدًا من مقاعد الجمعية الوطنية الكبرى البالغة 550 مقعدًا، في حين كان الحزب يؤكد وبمنتهى الفخار على هويته الكردية الأصلية. وليس ذلك سوى تطور كبير ومهم إذا ما استدعينا حقيقة مفادها أنه قبل عقدين فقط من الزمان كان أحدهم ليتعرض للاعتقال الفوري لمجرد الحديث الودي عن الهوية الكردية داخل تركيا.

وعلى نفس القدر من الأهمية، يأتي تحطيم ذلك الجدار الزجاجي الذي حال بين النساء التركيات، وهن يشكلن أكثر من نصف القاعدة الانتخابية، وبين تأمين حصص من التمثيل البرلماني أكثر إنصافًا في الجمعية الوطنية التركية الكبرى. ويمكن لانتخابات الأحد الماضي أن تعد من الحوادث التاريخية في تركيا، نظرًا لعدد المقاعد التي فازت بها النساء في البرلمان الجديد وتبلغ 100 مقعد.

ورسالة أخرى تبعث بها نتائج الانتخابات التركية تقول إن الكتلة الانتخابية التركية تتحرك نحو الوسط. فالأحزاب القومية الراديكالية الرافعة لشعارات «تركيا للأتراك» لم تفلح في كسر قيودها الذاتية والتحرر خارج قوقعة الوضع الراهن. وبالتالي، لم يصدق الناخبون الأتراك بأن معارضة الآيديولوجية الرمزية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية تستلزم منهم التحول إلى أوهام القومية المتطرفة المتركزة على سياسات «الدم والتراب».

رسخت تلك الانتخابات الاعتقاد الذي يحمله كثير منا حيال سياسات الشرق الأوسط؛ من أن نظام الحكم البرلماني هو الأكثر ملاءمة لواقع وحقائق المنطقة عن نظام الحكم الرئاسي على نمط الولايات المتحدة. عبر القرن الماضي، وفي كل حالة تقريبًا داخل الشرق الأوسط، لم تتمخض أنظمة الحكم الرئاسية إلا عن الديكتاتورية. وتأتي محاولة إردوغان لتحويل نظام الحكم البرلماني التركي إلى النظام الرئاسي كأحد أهم أسباب هزيمته في تلك الانتخابات.

وأخيرًا، ليست الانتخابات التركية إلا دليلاً آخر على قوة ومقدرة الديمقراطية التركية على تصحيح المسار من خلال انتخابات حرة ونزيهة. والمزاعم القديمة بأن الجيش وحده يملك المقدرة على وقف انحراف البلاد عن الطريق الصحيح أو سقوطها في هوة التطرف، ليست إلا مزاعم صورية في الحالة التركية. فعندما كان أسلوب الحياة التركية يتعرض للخطر إثر وصفات إردوغان العثمانية الجديدة، لم يكن العلاج انقلابًا عسكريًا عليه، وإنما كان العلاج في الانتخابات العامة.

وفي حين أنه من المبكر للغاية التكهن بعواقب تلك الانتخابات الأخيرة، إلا أنه من الواضح بجلاء أنه أيًا كان الشكل الذي سوف تتخذه الحكومة الجديدة، فهناك مجموعة من التغييرات الحتمية التي لا مفر من تفعيلها في السياسات التركية داخليًا وخارجيًا.

في الداخل، تحتاج تركيا إلى فترة كافية للتعافي من الأضرار التي خلفتها سلوكيات إردوغان الانقسامية، وتعطشه للانتقام خارج حدود القضاء من معارضيه السياسيين. عكست الانتخابات التركية صورة دقيقة للواقع الداخلي في البلاد بوصفه مجتمعًا متنوعًا بطوائف إثنية ودينية متعددة ومختلفة مع مجموعة غنية من التنوع السياسي. رفض الأتراك أسطورة الشرق الأوسط القديمة التي تساوي الوحدة الوطنية بالهيئة الرئاسية. على الحكومة المقبلة كذلك إعادة النظر في المشكلة الكردية المستديمة التي، ربما لأول مرة، يمكن التعاطي معها من خلال سياق التعددية والديمقراطية في تركيا. على صعيد مختلف، يتعين على تركيا مراجعة المشاريع الضخمة التي كان إردوغان قد دشنها، ظاهريًا، لتعزيز مكانة البلاد في المشهد العالمي، ولكنها كما يقول النقاد لا تفيد، في جزء منها، إلا فئة النخبة الضئيلة من رجال حزب العدالة والتنمية الحاكم. ففي الأوقات التي يشهد فيها اقتصاد البلاد حالة من التباطؤ، فإن القيام بتلك المشروعات الضخمة لا معنى له على الإطلاق؛ حيث إنها تلقي بأعباء جديدة على عاتق الديون التركية الخارجية الكبيرة.

ومن زاوية السياسة الخارجية، تحتاج تركيا إلى إصلاح علاقاتها مع حلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومع شركائها التقليديين في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا الدول العربية. وإحدى الخطوات المقترحة في ذلك الاتجاه هي تنسيق السياسات المتعلقة بسوريا والعراق، وتبني موقف أكثر مسؤولية ومبدئية فيما يخص الطموحات النووية الإيرانية، وحالة استعراض العضلات الروسية في «جوارها القريب». أحسن الشعب التركي صنعًا يوم الأحد الماضي بحق. وعليهم المضي قدمًا في ذلك.

 

الأميركي.. لا يشعر بالأمان
بول كروغمان/الشرق الأوسط/12 حزيران/15

تظل أميركا، وعلى رغم ما تسبب فيه الكساد الكبير وما أعقبه من ضرر، بلدا ثريا جدا، ولكن لا يشعر كثير من الأميركيين بالأمان على الصعيد الاقتصادي، في ظل حماية لا تكاد تذكر من مخاطر الحياة. ويعاني الأميركيون باستمرار من صعوبات اقتصادية، فكثير منهم لا يتوقعون أن يكونوا قادرين على بلوغ التقاعد، وإذا حدث وتقاعدوا، يتبقى لديهم القليل للإنفاق على أنفسهم إضافة إلى الضمان الاجتماعي. لن يتفاجأ الكثير من القراء، وهذا ما أتمناه، بما قلته للتو، ولكن لا يبدو على الأميركيين الأثرياء، وهم كُثر، وبشكل خاص، أعضاء نخبتنا السياسية، الشعور إطلاقا بما يعانيه النصف الآخر. ولهذا يجب أن يتم الاطلاع على دراسة جديدة حول الرفاه المالي للأسر الأميركية، أجراها مصرف الاحتياطي الفيدرالي، داخل أوساط الحكومة الفيدرالية. وقبل أن أتحدث عن هذه الدراسة، أود الحديث قليلا عن حالة قاسية من غياب الوعي المتفشي في حياتنا السياسية. أنا لا أتحدث هنا عن احتقار اليمين للفقراء، أو بالأحرى لا أتحدث فحسب عن ذلك، فرغم هيمنة التيار المحافظ عديم الرحمة الواضحة. يعتقد أكثر من 75 في المائة من المحافظين أن الفقراء «يعيشون حياة متيسرة» بفضل المزايا الحكومية، بينما يعتقد واحد فقط من بين كل سبعة محافظين أن الفقراء «يعيشون حياة صعبة». من الأمثلة الواضحة على ذلك، الموقف حيال برامج الضمان الاجتماعي، فلطالما كانت الرغبة المعلنة في الحد من مزايا الضمان الاجتماعي، وبخاصة عن طريق رفع سن التقاعد، موقفا مطلوبا من الساسة والخبراء ممن يريدون الظهور بمظهر الحكماء المسؤولين كدلالة على جديتهم. وفي النهاية، يعيش الناس حياة أطول، فلماذا لا يعملون لفترات أطول كذلك؟ أليس الضمان الاجتماعي نظاما عفى عليه الزمن، وبات منفصلا عن الواقع الاقتصادي المعاصر؟ وفي الوقت نفسه، يعد أمر طول الأعمار في مجتمعنا، الذي تغيب فيه المساواة أكثر من أي وقت مضى، مسألة طبقية إلى حد بعيد جدا، فقد ارتفعت السن المتوقعة البالغة 65 عاما كثيرا بين القادرين، بينما ارتفعت بنسبة لا تكاد تذكر في أوساط الذين يقبعون في أسفل سلم الأجور، أي بعبارة أخرى من هم أكثر احتياجا للأمن والضمان الاجتماعي. وفي الوقت الذي لا يبدو فيه نظام التقاعد الفيدرالي المقترح عصريا بالنسبة إلى المهنيين ميسوري الحال، يعد بمثابة شريان حياة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بالنسبة لكثير من بني وطننا. ويحصل أغلبية الأميركيين ممن تتجاوز أعمارهم 65 عاما، على أكثر من نصف دخلهم من خلال نظام الضمان الاجتماعي، بينما يعتمد أكثر من الربع بشكل كامل تقريبا على هذه الشيكات الشهرية.

قد تكون هذه الحقائق في طريقها أخيرا لاختراق النقاش السياسي، إلى حد ما، إذ يبدو أننا لا نسمع كثيرا هذه الأيام عن الحد من مزايا الضمان الاجتماعي، بل ونلمس بعض الاهتمام بالاقتراحات الخاصة بزيادة المزايا، بالنظر إلى تآكل المعاشات الخاصة. مع ذلك أشعر أن واشنطن ما زالت لا تفهم حقائق الحياة الخاصة بأولئك الذين لم يتقدم بهم العمر بعد. وعند هذه النقطة يمكن الحديث عن دراسة الاحتياطي الفيدرالي آنفة الذكر.

مر عامان على هذه الدراسة، وتستعرض النسخة الحالية فعليا صورة لأمة في طريقها إلى التعافي، ففي 2014، على خلاف 2013، قال عدد كبير ممن شاركوا في الاستطلاع إنهم كانوا أفضل حالا عما كانوا عليه قبل خمس سنوات. ومع هذا، فالمدهش هو مدى ضآلة مجال الخطأ في حياة كثير من الأميركيين. نحن نجد على سبيل المثال، أن ثلاثة من بين كل عشرة أميركيين غير مسنين قالوا إنهم لا يملكون أي مدخرات، أو معاشا للتقاعد، وأن النسبة نفسها أفادت بأنها عاشت من دون أن يتوفر لها شكل ما من أشكال الرعاية الصحية خلال السنة الماضية لأنهم لم يكونوا قادرين على الحصول عليها، بينما أفاد ما يقرب من الربع أنهم أو أقاربهم قد عانوا صعوبات مالية خلال السنة الماضية. وثمة شيء أدهشني على وجه الخصوص هو قول 47 في المائة إنهم لن تكون لديهم الموارد الكافية لتغطية نفقات غير متوقعة بقيمة 400 دولار. 400 دولار!، مشيرين إلى أنهم سيضطرون إلى بيع شيء ما للاقتراض من أجل الوفاء بهذه الحاجة، إذا كانوا قادرين على الوفاء بها بالأساس. ولكن رغم أن الأمور كان يمكن أن تصبح أسوأ، كان يمكن أن تصبح أفضل. لا يوجد ما يسمى ضمانا مثاليا، لكن كان من السهل أن تتمتع الأسر الأميركية بقدر أكبر من الأمان. كل ما هو مطلوب هو أن يتوقف الساسة والخبراء عن حديثهم المشبع باستخفاف عن الحاجة إلى خفض «المستحقات» وأن يبدأوا النظر إلى الطريقة التي يعيش بها إخوانهم المواطنون الأقل حظا.

* خدمة «نيويوك تايمز»