محمد بركات/ياسر عودة: “طَوقُ” العَمامة

102

ياسر عودة: “طَوقُ” العَمامة*
محمد بركات/أساس ميديا/السبت 19 آب 2023

هذا المقال من نسج خيال شرّير. قد يكون خيال الكاتب. وقد يكون خيال الحاكم.
كان المطار بلا كهرباء. مطار البلاد المنتصرة. وكانت العاصمة الأبيّة بلا مرفأ. فجّره الأعداء. كيف؟ تفاصيلٌ للتاريخ. وكان أهل البلاد تعتصرهم الرطوبة وأكثر أشهر الكواكب حرارةً منذ 120 ألف سنة. والجوع يعمّ، وكذلك اليأس.
في هذا الوقت كان هناك مواطن خمسينيّ، غزا الشيب رأسه وذقنه، من بلدة عين قانا بجنوب لبنان في قضاء النبطية، يطلق صرخة اعتراض، ومعه عشرات الرجال والنساء والأطفال، ويعلنون “انتفاضة عين قانا”. رفعوا لافتة كُتِبَت بخطّ اليد تقول: “عين قانا تتبرّأ من محمد رعد وهاني قبيسي”. بخطّ اليد لأنّ الأهالي لم يجدوا خطّاطاً يقبل بكتابتها. كتبوها في المنزل، على قماش أسود، بدهان أبيض، ورفعوها. كلّ مطلبهم التيار الكهربائي، لحاملي الأمراض المزمنة ممّن يحتاجون إلى الأوكسيجين وإلى برّادات للأدوية المكلفة والعزيزة.
والنائبان عن المنطقة، قبيسي (حركة أمل) ورعد (الحزب)، وجّه لهما الأهالي تهمة التقصير. في هذه، لا يمكن توجيه الاتّهام للقوات اللبنانية أو الملحدين أو المعارضين الشيعة أو سوليدير ورفيق الحريري…
ياسر عودة له احترام في أوساط الشيعة وغير الشيعة. في أوساط العلمانيين والمتديّنين. لم تلوّثه أموال جمعيات أو سفارات أو دول. ولا يعمل في “السياسة” بمعناها التنظيمي أو التحشيدي. فقيه ومجتهد
لكن ما علاقة ياسر عودة؟
لُطفاً، فلنكمل الحكاية:
هنا تحرّكت أكثر من سيّارة سوداء لا تسرّ الناظرين. بلا لوحات، محمّلة بشبّان أشدّاء، معهم أمر واضح: توجّهوا إلى الرجل الذي نقلت الكاميرات صرخته. من أرسلوهم أرادوا أن يجعلوا الرجل عبرةً لمن يعتبر. وصلوا بشكل استعراضي، نزلوا من السيّارات الرباعية الدفع. توجّهوا إلى الرجل حين صار وحده في المنزل وانفضّ المنتفضون من حوله. دخلوا وألقوا السلام بلياقة. وجلسوا وأبلغوه أنّ كلامه “سيف جارح”، وأنّ ما قاله لا بدّ له من اعتذار. وكانت المسدّسات تطلّ برأسها من خصورهم الضخمة.
تذكّروا أنّ ما أجبروا عليه آخرين قبل أشهر ما عاد ممكناً. لم يطلبوا منه أن يعتذر “من صبّاط” أحد. فقط اعتذار “لايت”. لكنّهم أصرّوا أن يهين نفسه بطريقة أو بأخرى. فالدافع لصرخته ليس انقطاع التيار الكهربائي والحرّ والحرمان، بل هو “الغضب الشيطاني الذي حذّر منه الرسول”. فخرج إلى تحت شجرة أمام منزله، في مشهد “مافياوي” يذكّر بالرجال الذين يُجبَرون على حفر قبورهم بأيديهم، قبل أن تستقرّ الرصاصة في رؤوسهم.
فتح أحدهم الهاتف وطلب منه ألّا ينسى: “هؤلاء تاج رأسك.. تفضّل يا حاجّ”. وهكذا كان: “أعتذر.. الغضب الشيطانيّ.. أعتذر.. وهؤلاء القيادات تاج على رأسي”. وتوسّل إليهم أن يقبلوا الاعتذار. وهنا كان المسلّح لطيفاً وطمأنه: “لا بقى تعيدها يا حاج. المرحلة حسّاسة”.
وانتشر الفيديو. والحاضر يعلم الغائب.
بدل أن يعتذر هاني قبيسي ومحمد رعد من ناخبيهما الجائعين العطاشى، كانت الرسالة “الأمنيّة”. وأُجبر ممثّل الجائعين المعترضين على الاعتذار. في النهاية، هو المخطىء. ونواب المنطقة “لا يخطئون”، هم أجلّاء، على قاعدة “جلّ من لا يخطىء”.
لكن ما علاقة ياسر عودة؟
في هذه الأثناء، تحرّكت سيّارة أخرى، فيها شيخ أو أكثر، ورجال هادئون. وصلوا إلى زعيم “طالبان الشيعة”، الشيخ عبد الحليم شرارة. وهو شيخ “سلفيّ شيعي”، بحسب العارفين بشؤون المجلس الشيعي. يقود مجموعة شيوخ متطرّفين، من “المُغالين” والذين يرون في شيوخ مثل ياسر عودة “منحرفين” لأنّهم يرذلون الخرافات والمبالغات في السيرة الحسينية شكلاً ومضموناً.
وصلت السيارة، وبعد السلام والكلام، أعطوه الضوء الأخضر للانقضاض على الشيخ ياسر عودة. وهنا وقع التقاطع، بين الرجال الأشدّاء ومسدّساتهم، وبين المتطرّفين وغيرتهم الشديدة من نجومية شيخ يعرّي منطقهم ويزداد منطقه انتشاراً على حساب رواياتهم.
ياسر عودة أحد تلامذة العلّامة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، الذي ما يزال يؤرّقهم من ضريحه، بأفكاره وتلامذته. شيخٌ متنوّر، يعادي قادة الطائفة وقادة الطوائف كلّهم. صوته عالٍ. اشتهرت فيديواته بعد ثورة 17 تشرين لأنّه كان من رجال الدين القلائل الذين ساندوا الثورة، في حين ارتدّ أمثاله، من المذاهب كلّها، إلى طوائفهم، خوفاً من التغيير، ونزولاً عند رغبة البيك أو الزعيم أو الجنرال…
ياسر عودة له احترام في أوساط الشيعة وغير الشيعة. في أوساط العلمانيين والمتديّنين. لم تلوّثه أموال جمعيات أو سفارات أو دول. ولا يعمل في “السياسة” بمعناها التنظيمي أو التحشيدي. فقيه ومجتهد. يقول رأيه بشجاعة نادرة. ولم “يخرج أشراً ولا بطراً”، وإنّما “لنصرة الإصلاح”. يعيش في منزل متواضع. سيّارته قديمة. لكنّ عقله واضح ولا يهادن.
على مرّ التاريخ، قليلون يرفعون الصوت بأنّ الحاكم على خطأ. أكثرهم شهرةً الإمام الحسين قبل 1400 عام. قليلون يجاهرون أنّ البلاد تتقهقر. أحياناً يقرّر الحاكم إسكاتهم. قد يقتل أحدهم ويرميه على قارعة الطريق. قد يجبر آخر على الاعتذار المهين والعلنيّ
وصدر بيانٌ اعتبر أنّ 15 شيخاً “غير مؤهّلين للقيام بالإرشاد والتوجيه الديني والتصدّي لسائر الشؤون الدينية والأحوال الشخصية المتعلّقة بأبناء الطائفة الإسلامية الشيعية، إمّا للانحراف العقائدي أو للانحراف السلوكي أو للجهل بالمعارف الدينية وادّعاء الانتماء للحوزة العلمية”.
وضعوا اسمه بين أسماء شيوخ محترمين، مثل عبد السلام دندش وسامر غنوي، وبين أسماء شيوخ من ذوي الأحكام والسيَر المشينة، مثل محمد الحاج حسن. وكان المقصود إغراقه بين آخرين، لتشويه سمعته. لكن “تجري الرياحُ”…
التحيّة الواجبة للرئيس برّي
بدأت حملة كبيرة على مواقع التواصل وفي الصالونات ضدّ القرار. كلّ الذين يعرفون ياسر عودة يعرفون أنّه يحمل أكثر من دبلوم وإجازة في الفقه والعلوم الإسلامية. وهو من الشيوخ الكبار في ميدانهم. محاولة إذلاله ارتدّت عليهم. خرج ليقول لهم: “خذوا العمامة، لن تأخذوا ما تحتها، عقلي ولساني، وهي قطعة قماش… لن يسكتني إلّا الموت”.
حملة التضامن الواسعة استتبعها بيانٌ من نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب ينفي علمه بالبيان ويتنصّل منه. كانت تلك إشارة إلى رغبة الرئيس نبيه برّي بالانسحاب من هذا الخلاف ووضع المجلس الشيعي على الحياد. وهي ليست المرّة الأولى التي يكون فيها موقف برّي مشرّفاً في اللحظات العصيبة بتاريخ الطائفة الشيعية في لبنان.
بعدها صدر بيان عن اتصال العلّامة السيّد علي محمد حسين فضل الله بالشيخ الخطيب منوّهاً بـ”حكمته في منع الفتنة داخل المؤسسة الدينية”، ومشيداً بـ”الموقف الشرعي المسؤول والحكيم الذي اتّخذه إزاء القرار الأخير”.
بدا واضحاً أنّ السيّارة السوداء خسرت المعركة. فبدأ التسويق أن لا علاقة لأحد ببيان هيئة التبليغ. ثمّ عمّم قريبون من الحزب أن لا علاقة له بالبيان، من دون أن يُصدر الحزب نفياً رسمياً. كذلك سرّب قريبون من الحزب أن لا نقاش في أنّ “ياسر عودة صاحب علم ودين، ومثلنا يسلك منهج عموم الفقهاء والمجتهدين الذين يغلّبون العقل ويحاربون الخرافة ويتبرّأون من البدع…”.
ياسر عودة أحد تلامذة العلّامة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، الذي ما يزال يؤرّقهم من ضريحه، بأفكاره وتلامذته. شيخٌ متنوّر، يعادي قادة الطائفة وقادة الطوائف كلّهم. صوته عالٍ. اشتهرت فيديواته بعد ثورة 17 تشرين
ليلة القبض على الشيعة
على مرّ التاريخ، قليلون يرفعون الصوت بأنّ الحاكم على خطأ. أكثرهم شهرةً الإمام الحسين قبل 1400 عام. قليلون يجاهرون أنّ البلاد تتقهقر. أحياناً يقرّر الحاكم إسكاتهم. قد يقتل أحدهم ويرميه على قارعة الطريق. قد يجبر آخر على الاعتذار المهين والعلنيّ.
أحياناً يشوّهون سمعة ناشط أو وجيه أو شيخ. يريدون “نزع العمامة” عن رأس ياسر عودة. رجل الأمن يظنّ أنّ الأفكار تذهب إذا ذهبت العمامة. أنّ الجوع يذهب إذا اعتذر الجائع. أنّ الناس تخاف إذا قتلت بعضهم. لكنّهم يربّون الحقد والغضب المكتوم.
يريدون محاورة الآخرين وهم لا يتحمّلون رأياً واحداً بينهم.
حين يجمعون الفقر مع القهر. حين يراكمون الإذلال فوق العطش. حين يرفعون حجارة الإهانة لبناء سقف الخوف وجدران الصمت على أرضيّة الرعب وخيال الدم. وحين لا يتركون من سيرة الأوّلين سوى البكاء ووعود الرؤوس المقطوعة … أيّ ثقافة يبنون؟ وأيّ بيئة يهيّئون؟
هناك قصيدة شهيرة للشاعر محمد علي شمس الدين، عن اصطياد عصفور، يقول فيها:
“صيَّادُون أشدّاء
ائتمروا كي يصطادوا عصفوراً.
فتواروا خلف الشجرة.
كمنوا خلف بنادقهم.
وهي معبّأة بالنار السوداء.
جاء العصفور خفيفاً.
يتبختر فوق هواءٍ ساكن.
وخفيفاً حطّ على الغصن الآمن.
لم يدرِ المسكين بأنّ الحرب اندلعت ضدّه.
حين انطلقت في الصمت بنادقهم.
هلع العصفور.
وأُسقط في يده.
فتلاشى كالخيط.
وألقى فوق تراب الساحة خدَّه.
وتكَّفن بالريش ومات.
قاموا.
فاقتسموا جثّته عظماً عظماً.
واقتسموا لحم قوائمه.
والبطن المبقور.
لكن.
لم يقدر أحد.
أن يأخذ صوت العصفور”.
*بالإذن من الأستاذ وضّاح شرارة، ناشر كتاب “طوق العمامة: الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف