رلى موفّق/المواجهة المفتوحة في العراق مع بطريرك الكنيسة الكلدانية: رسائل في اتجاهات عدة ومسيحيو بلاد الرافدين قلقون

144

«المواجهة المفتوحة» في العراق مع بطريرك الكنيسة الكلدانية: رسائل في اتجاهات عدة ومسيحيو بلاد الرافدين قلقون!
رلى موفّق/القدس العربي/23 تموز/2023

حين يُقدِمُ رئيس الجمهورية العراقية عبد اللطيف رشيد على سحب مرسوم جمهوري يمثل اعترافاً وتكريساً وقبولاً بمرسوم فاتيكاني بتعيين الرئيس الأعلى للكنيسة الكلدانية في العراق والعالم، فهو بذلك يسحب مفاعيل الاعتراف القانوني لجهة حق الولاية والوصاية على أملاك الكنيسة، ما يُضيف عنواناً جديداً إلى عناوين الخلاف التي تشهدها بلاد الرافدين وتضرب استقرارها وتنوّع مجتمعها المتعدد القوميات والأديان والمذاهب.

جاءت خطوة رئيس الجمهورية، المناط به حماية الدستور، لتصبَّ الزيت على نار الشعور بالاستهداف والتهميش للمكونات العراقية التي يُنظر إليها على أنها أقليات. صحيح أن الدستور ينصُّ على أنه يضمن «الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي» وكذلك «كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والأيزيديين، والصابئة المندائيين» لكنه يتعامل في صياغة تلك الفقرة الدستورية على أن هناك مواطنين من الدرجة الأولى ومواطنين من الدرجة الثانية، وتكرِّس الممارسة السياسية والأداء الحكومي والإداري ذلك التمييز.

وبعيداً عن الكلمات المنمّقة، فإن حال المسيحيين ومَن معهم من الأقليات العراقية ليست بخير. مع الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 والاقتتال المذهبي الشيعي – السُّني بين الـ2006 والـ2008 نزح المسيحيون من بغداد والبصرة إلى الموصل وسهل نينوى بفعل انتفاء الشعور بالأمان. كانوا بمئات الآلاف في العاصمة ومحيطها فأضحوا بعشرات الآلاف، وبدأت عمليات مصادرة المنازل وشرائها كأمر واقع في ظل عدم القدرة على التكيّف والعيش في ظل السلاح الميليشياوي المتفلّت وانعدام الأمن. بالطبع، لم يتأخر على الهجرة من وجد سبيلاً لها.

ساءت الأمور أكثر مع بروز تنظيم «القاعدة» في المناطق ذات الغالبية السُّنية والذي انبثق منه تنظيم «داعش». سيطر «التنظيم» عام 2014 على أنحاء واسعة من شمال وغرب العراق أمام انسحاب الجيش والقوات العراقية في زمن حكومة نوري المالكي. بين ليلة وضحاها، وجد مئات الآلاف من المسيحيين في الموصل ونينوى أنفسهم نازحين في إقليم كردستان تاركين خلفهم منازلهم وأرزاقهم وأراضيهم.

ومع إعلان الحرب ضد «داعش» وتشكُّل «الحشد الشعبي» بفتوى «الجهاد الكفائي» من المرجع الشيعي السيد علي السيستاني وبدء العمليات العسكرية العراقية والدولية على «التنظيم» تأسَّس في عداد «الحشد» فصيل مسيحي باسم «بابليون» على يد ريان الكلداني. لم يحظَ هذا الفصيل الميليشياوي بغطاء الكنيسة، لا بل إن البطريركية الكلدانية برئاسة البطريرك لويس روفائيل ساكو، ذهبت في العام 2017 إلى الهجوم على قائد «بابليون» وإبلاغ الجميع بأن ريان «لا صلة له بأخلاق المسيح رسول السلام والمحبة والغفران، ولا يمثل المسيحيين بأي شكل من الأشكال، ولا هو مرجعية للمسيحيين، ولا نقبل أن يتكلم باسم المسيحيين» داعية إياه إلى «احترام أخلاق الحرب واحترام حياة الأبرياء» وذلك رداً على إعلانه حرباً ضد السُّنة في الموصل، وقوله «إنه سيأخذ الثأر من أحفاد يزيد».

زاد تأثير «الحشد الشعبي» الموالي لإيران على المشهد العراقي من سطوة ريان الكلداني على المناطق المحررة من «داعش» العائدة للمسيحيين. وترفع مترتبات السطوة ونتائجها ومردوداتها ليس من شأن «بابليون» فقط بل من تجاوزاتها وأعمال الخوّات والإتاوات وعمليات الترهيب والترغيب في بيع المنازل والأراضي لأبناء جلدتها، ليس فقط لمنافع ومصالح مادية بل أيضاً خدمة لمشاريع سياسية وطائفية تتبناها جماعات إيران في العراق.

النواب المسيحيون
من فصيل «بابليون» التي يخضع زعيمها ريان الكلداني لعقوبات أمريكية، وُلدت حركة «بابليون» المدعومة من فصائل «الحشد» والتي وفق نظام الكوتا المسيحية والتصويت على مبدأ الدائرة الواحدة، استحوذت على المقاعد المسيحية الخمسة في برلمان 2021 وذلك بالصوت الشيعي الذي صبَّ أصواتاً من النجف وكربلاء لصالح الكلداني، على حساب الصوت المسيحي الذي جاء مشتتاً ببن عدة لوائح.

في النتيجة، يعتبر المسيحيون بكنائسهم الـ14 وأكبرها الكنيسة الكلدانية، أن النواب المسيحيين في البرلمان لا يعكسون التمثيل الصحيح للمسيحيين. هي معضلة سبق أن عاشها مسيحيو لبنان الذين قاطعوا الانتخابات، فوصل إلى الندوة البرلمانية «نواب الصدفة» وأسماء تكتسب ثقلها بمقدار التصاقها بدمشق وبالنظام الأمني السوري – اللبناني الذي كان حاكماً في حينه.

تلك المعادلة يعرفها جيداً القاطنون تحت الوصايات والاحتلالات والنفوذ الأجنبي مهما تبدّلت الجهة أو المكان. ويعرف السياسيون والعارفون والمراقبون أن ما يجري في أي بقعة واقعة تحت الاحتلال والوصاية والنفوذ لا يمكن أن يحصل دون بركتها أو أن يكون مفصولاً عن إرادتها، فكيف إذا جاء الفعل عظيماً كبيراً ومن خارج المألوف، كفعل رئيس الجمهورية الذي يأتي في إطار توجيه رسائل قاسية للبطريرك ومن خلفه الكنيسة الغربية الآتي من رحابها.

يحمل الفعل الواحد رسائل عدة وفي اتجاهات مختلفة، ويمكن تالياً قراءته من زوايا عدة. هذا هو حال خطاب البطريرك ساكو وحركته: يرفض وجود ميليشيات مسيحية ضمن «الحشد» ويدعو الدولة إلى تحمّل مسؤولية حماية المسيحيين أسوة بباقي المواطنين العراقيين، ويطالب بالمواطنة والمساواة والعدالة أمام القانون وبالعيش المشترك ونبذ الكراهية ويدعو للسلام وللحرية ولشهادة الحق والحياة. هذا خطاب لا يستقيم مع كل العملية السياسية في العراق منذ الغزو وإلى يومنا هذا، ولا يستقيم مع ما يراه من تحولات ديموغرافية ومصادرة أراضٍ وشراء ذمم وتخويف وتهجير وطمس لمنشأ الحضارات القديمة ودفع للهجرة، حيث إن عدد المسيحيين انخفض من مليون ونصف المليون إلى 250 ألفاً اليوم. وهؤلاء مهددون خائفون تضيق بهم سبل الحياة، تتمُّ وراثتهم وهم أحياء من قبل القوى السياسية النافذة وبخلفيات عقائدية بعيدة عن مفهوم المسيحية وطريقة حياتهم. وسيزداد قلقهم وخوفهم حين يرون أن رأس كنيسته يُستهدف ويتمُّ جرّه إلى التحقيق وتجريده من ولايته من دون رادع أو وازع.

سحب الوصاية الكنسية
بالتأكيد، لا يمكن لرئيس الجمهورية دستورياً أن يُعيِّن أو يُقيل زعيماً دينياً تمَّ اختياره من قبل أتباع الديانة، لكن ماذا عن وصايته على أملاك كنيسته والمؤسسات الدينية؟ فسحب المرسوم هو سحب لتلك الوصاية الكنسية. وماذا عن رئيس أوقاف الديانات المسيحية المعني بالشق الإداري الرسمي، والذي يُعيَّن عادة بترشيح وموافقة من الكنائس المعنية؟ هل ستُستكمل «اللعبة القذرة» وفق توصيف ساكو؟

ففي كتابه الى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بعد سحب المرسوم وتبليغه بالحضور إلى محكمة الكرخ في بغداد للتحقيق في دعوى قدح وذم مقدمة ضده من ريان الكلداني تحت طائلة توقيفه، أعلن البطريرك ساكو انسحابه من المقر البطريركي في بغداد إلى أحد الأديرة في إقليم كردستان، مضيفاً أن «هذا القرار اتخذته ليُحقِّق حامي الدستور وحافظ النسيج العراقي الجميل (أي رئيس الجمهورية)، رغبة «بابليون» بإصدار مرسوم تعيين ريان سالم دودا (بابليون) متولياً على أوقاف الكنيسة، وشقيقه أسوان نائباً له، وشقيقه سرمد مسؤولاً للمال، وشقيقه أسامة مسؤول الحماية إذا (وافق) بسبب تضخم أمواله من إتاوات بلدات سهل نينوى وبيوت المسيحيين في تلكيف، والوزيرة المسيحية التي تحمل الصليب فوق ثوبها أميناً عاماً للبطريركية وصهره نوفل بهاء رئيس ديوان الوقف المسيحي والديانات الأخرى».

في الحسابات الداخلية، يثور «بابليون» على التعديل في الانتخابات النيابية الذي حوّل الكوتا المسيحية من دائرة واحدة على مساحة العراق إلى دائرتين: الأولى في إقليم كردستان ولها مقعدان، والثانية في باقي أنحاء العراق ولها 3 مقاعد. فبعدما كانت صفقته مع «الحشد» تؤمِّن له المقاعد الخمسة، انخفضت فرصه إلى ثلاثة، إذ إن لا تأثير له في إقليم كردستان. في الواقع لم يلبّ هذا التعديل طموحات المكوِّن المسيحي الذي كان طالب بحصر مقاعد الكوتا بناخبي المكوِّن من خلال سجل خاص بهم، لكنه شكل حلاً وسطاً يحدُّ من هيمنة «الحشد» على المقاعد المسيحية وإن كان البعض يعتبر أن المقعدَين اللذين خرجا من سيطرة «الحشد» قد ذهبا إلى سيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني.

ويمكن فهم الحملة على البطريرك نتيجة دعوته إلى وحدة الصف المسيحي، إذ إنه يعتبر بأن المستقبل مرهون بوحدة المسيحيين فيما بينهم. ففي محاضرة له اعتبر أن «العشم» يبقى في توحيد الأحزاب في جبهة واحدة وينزلون في قائمة واحدة تمثلهم ويتصدون لمن يسعى لاختطاف الكوتا. وإلا فإن الإبقاء على تشتتهم هو استجابة لمخطط تهميشهم وعدم فاعليتهم وتهجيرهم.

في مرامي الرسائل الموجّهة لساكو، هناك ما هو أبعد من الاستحواذ على ممتلكات الكنيسة. استهدافه شخصياً هو معاقبة له ومحاولة للَيّ ذراعه وتطويعه. هو رد متأخر على «فعل جلل» بالنسبة للحشد وراعيه الولي الفقيه علي خامنئي.

لعب الكاردينال ساكو دوراً رئيسياً في إقناع بابا الفاتيكان بأن يأتي لزيارة العراق. جاءت الزيارة في آذار/مارس 2021 في إطار دعم المسيحيين العراقيين والأقليات فيه وتحفيزهم على البقاء في أرضهم، لكنها جاءت أيضا لتشكّل امتداداً لـ«وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» التي وقَّعها مع شيخ الأزهر أحمد الطيّب، في أبوظبي، في شباط/فبراير عام 2019.

فبعد لقائه شيخ الأزهر كمرجع أعلى للسُّنة، أتى إلى النجف للقاء السيّد علي السيستاني بوصفه مرجعية شيعية عليا. أعطت تلك الزيارة زخماً للمرجعية الشيعية العربية وهو أمر لا تستسيغه إيران، حيث يجهد الخامنئي لأن يكون المرجعية العليا لكل شيعة العالم. يومها ثمّة من رأى من ناشطين عراقيين كلدان أن الأمر لن يمرَّ مرور الكرام على البطريرك.

في خضم تمدّد إيران في المنطقة عبر أذرعها العسكرية بخلفية عقائدية ومشروع نفوذ وسيطرة، جرى التسويق سياسياً في كل من العراق وسوريا ولبنان لـ«حلف أقليات» يقوم على الشيعة والمسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات في مواجهة الغالبية السُّنية في المنطقة التي دُمرت حواضرها عن سابق تصوُّر وتصميم تحت عنوان «مكافحة الإرهاب ومحاربة المتشددين» بحيث تحوَّل سنّة العراق وسوريا إلى لاجئين في ديارهم وفي بقاع الأرض في مخطط خبيث لا يزال مستمراً. لكن في ظل الاستهداف الممنهج للكنيسة الكلدانية ولبطريركها والذي سيصل عاجلاً أم آجلاً إلى الكنائس والمكوّنات الأخرى، تصبح سردية «حلف الأقليات» في مهبّ الريح، فهي ليست سوى مظلة تُخفي الهدف الفعليّ لتمدّد الهيمنة الإيرانية في المنطقة، والتي يُشكِّل العراق بوابتها فضلاً عن كونه حديقتها الخلفية.

تغيب مرتكزات دولة القانون التي من شأنها أن تحمي الحريات الفردية والشخصية وحرية المعتقد على أعين من الدول الكبرى والدول الغربية. صحيح أن الولايات المتحدة نددت في بيان لخارجيتها بالمضايقات التي يتعرّض لها البطريرك ساكو، غير أن اللافت كان صمت الدبلوماسية الفرنسية التي كانت في ذلك الوقت توقّع عقداً نفطياً مع العراق وتتفاوض لبيعه منتجات حربية، وكان وزير دفاعها بضيافة بلاد الرافدين دون أن يُحرِّك ساكناً. يقول الناشط العراقي في باريس إيليش ياقو: «في الصورة الكبرى ما نراه ليس سوى نموذج عن كيفية مقايضة حماية مسيحيي الشرق بمصالح اقتصادية وسياسية. أما في الصورة الصغرى، فما يجري هو وضع اليد على عقارات الكنيسة في العراق البالغة نحو ألف عقار وإسكات صوت البطريرك ساكو الذي يدعو إلى المساواة والمواطنة ومحاربة الفساد لكن البطريرك مستمر في معركته مهما كانت الكلفة والثمن».