الفصل الثاني من كتاب د. رندا ماروني/لبنان في علاقته بسوريا… نموذج الدولة السورية

273

الفصل الثاني من كتاب د. رندا ماروني/لبنان في علاقته بسوريا… نموذج الدولة السورية

اضغط هنا لقراءة الفصل الأول من كتاب د. رندا ماروني: “لبنان في علاقته بسوريا”

اضغط هنا لقراءة الفصل الثاني من كتاب د. رندا ماروني: “لبنان في علاقته بسوريا”

اضغط هنا لقراءة الفصل الثالث من كتاب د. رندا ماروني: “لبنان في علاقته بسوريا”

اضغط هنا لقراءة الفصل الرابع والأخير من كتاب د. رندا ماروني: “لبنان في علاقته بسوريا”

نموذج الدولة السورية

ان النماذج السياسية الثلاث التي سادت في القرن العشرين تتوزع عبر العالم وهذه النماذج رغم التناقض بين بعضها البعض الذي نراه للوهلة الاولى ولكنها جميعا تقف على فلسفة واحدة الا وهي الحداثة.

واذا كانت تقف على فلسفة الحداثة فاين نحن في العالم العربي الذي لم يعرف الحداثة من هذه النماذج الثلاث ؟ واين هي الدولة السورية وتحت اي نموذج نستطيع ادراجها ؟

نظرا لطبيعة النظام السوري القائم على الحزب الواحد الحاكم لا  نستطيع ان ندرج الدولة السورية في سياق النموذج الليبرالي، كما نظراً لطبيعة النظام القائم على حكم اقلية برجوازية صغيرة وعسكر يجعل من النموذج الماركسي عاجزا عن شرح الواقع فبالرغم من دخول بعض الافكار الماركسيه  الى عقيدة حزب البعث بعد ان نجح انقلاب 1963 واستطاعت اللجنة العسكرية ان تستولي على السلطة وتعيد بناء حزب البعث عقائديا بالاستعانة ببعض المفكرين الماركسيين كحمود الشوفي الدرزي الذي إنتخب امينا قطريا في ايلول 1963 وبعد ان تم اسبعاد عفلق والبيطار مؤسسا حزب البعث (ويزعم بعض الكتّاب ان هذا الاستيلاء على الحزب قد تم بشكل كامل لدرجة ان الحزب لم يعد له اي صلة بالحزب الذي انشأه عفلق، ولهذا  يجدر به ان يسمى البعث الجديد)[1] ، الا انه لا نستطيع ان نقرأ نموذج الدول من خلال النصوص القانونية في الدول العربية وانما انطلاقا من سوسيولوجيا المجتمع. فالأحزاب الاشتراكية والشيوعية لم يكن مسموحا لها بالنشاط السياسي، بعد ان تسلم البعث زمام السلطة فعندما تم تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية في 7 اذار 1972 بعد عدة شهور من المساومة حول بنود ميثاقها والسلطة المتاحة لاعضائها. وبالاضافة الى البعث، الذي سيطر بالضرورة على الجبهة كانت الجبهة تضم في عضويتها كلاًّ من الحزب الشيوعي والاتحاد الاشتراكي العربي (وهو بقايا التنظيم الناصري من ايام الوحدة) والحركة الاشتراكية العربية (بقايا حزب اكرم الحوراني) وحركة الوحدويين الاشتراكيين (ناصريين بعثيين سابقين) ورغم ان هذه  الحركات صارت جزءا من الجبهة الا انه لم يكن مسموحاً لها بالنشاط السياسي في صفوف الجيش او الطلبة  فقد احتفظ حزب البعث بالعمل في هذين المجالين وحده.[2]

اذاً فإذا استبعدنا النموذجين الليرالي والماركسي في نموذج الدولة السورية فهل نستطيع ادراجها ضمن النموذج التوتاليتاري وما هو هذا النموذج ؟

القسم الاول: النموذج التوتاليتاري.

 أولاً: التوتاليتارية والديكتاتوريّة.

علينا ان نميز مفهوم التوتاليتارية عن عدة مفاهيم قريبة منه ولكن لا علاقة لها به كمفهوم الديكتاتورية وانواع الاستبداد والفاشية وغيرها فهو مفهوم حديث جدا وخاص بمرحلة الحكم النازي في المانيا والستاليني في روسيا فتجربة الامبراطورية العثمانية مثلا لا نستطيع ادراجها في سياق النموذج التوتاليتاري كما ان موسوليتي نفسه، الذي طالما راقت له عبارة الدولة التوتاليتيارية لم يحاول اقامة نظام توتاليتاري تام[3] واكتفى منه بان أرسى ديكتاتورية الحزب الواحد. بعد الحرب العالمية الاولى جازت القارة الاوروبية موجة من الحركات شبه التوتاليتارية والتوتاليتارية ، تظهر العداء الشديد للديمقراطية وتؤيد الديكتاتورية كما عمّت الحركات الفاشية كل بلدان اوروبا الوسطى والشرقية تقريبا كما انبثقت ديكتاتوريات مماثلة غير توتاليتارية، قبل الحرب في رومانيا وبولونيا وفي الدول البلطيق وفي المجر والبرتغال وفي اسبانيا فرانكو، بيد أن النازيين، الذين ما لبثوا يملكون حدساً اكيدا في تقصي الفروق ما بين الديكتاتوريات الانفة راحوا يسترسلون في تأويلاتهم حول جوانب التقصير لدى حلفائهم الفاشيين، بينماجعل اعجابهم الحقيقي بالنظام البولشفي في روسيا (وبالحزب الشيوعي في المانيا) دون زيادة او نقصان – احتقارهم الاعراق التي تتكون منها شعوب اوروبا الشرقية.[4]وان رجلا واحدا نال احترام هتلر دون غيره وهو “ستالين العبقري”[5]وبالمقابل ومن خلال خطاب خروتشيف امام مؤتمر الحزب الشيوعي العشرين، ان ستالين ما كان ليثق الا برجل واحد، وان هذا الرجل الفرد كان هتلر. [6]

والمهم في الامر ان الديكتاتوريات غير التوتاليتارية في كل من هذه البلدان الاوروبية الصغيرة كانت سبقتها حركات توتاليتارية : اذن لما بدا ان التوتاليتارية كانت هدفا  طموحا للغاية، حتى اذا انتهت من تنظيم صفوف الجماهير واعدتها بالفعل  لاستلام زمام السلطة فتولتها، اجبر حجم البلاد الاقصى الطامع الى التوتاليتارية على التناغم مع تراسيم اكثر إلفة، كأن تقتصر سلطته على ديكتاتورية الطبقة او الحزب. اما الحقيقة البسيطة فهي ان هذه البلدان ما كانت لتملك العدد الكافي من الجهاز البشري الذي يخولها الاستبداد التام وما يستتبع ذلك من خسائر بشرية فادحة. ولما كان الطغاة في هذه البلدان الصغيرة، فاقدي الامل من افتتاح اراضي ذات اعداد سكانية اكبر وجدوا انفسهم مجبرين على اتباع نهج معتدل نسبياً خشية ان يفقدوا افراد رعيتهم المعدودين. [7]

وذلك هو نفس السبب الذي الزم النازية باقل قدر من التماسك وبأدنى درجة من البطش من صنوها النظام الروسي، وذلك منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية وحتى انتشار النازية في انحاء اوروبا بكاملها، بل ان الشعب الالماني نفسه لم يكن كثير العدد حتى يسمح بتنمية شكل هذا النظام الجديد كليا تنمية كاملة. والواقع ان المانيا ما كان يمكن لها ان تشهد استبداداً توتاليتارياً تاماً الا في حال انتصارها في الحرب، ولو تم ذلك لكان اوجب تضحيات يعجز عن تقديرها المرء ليس في حق “الاعراق الدنيا” فحسب بل في حق الالمان انفسهم وفق مخططات هتلر. [8] ايا يكن الامر، فان المانيا لم تقارب على اقامة نظام توتاليتاري حقيقي، الا بعد ان وفرت لها الحملات الشرقية جماهير بشرية عظيمة، باتت معها معسكرات الاعتقال والابادة ممكنة (على العكس من ذلك فقد تبدى ان مخاطر النظام التوتاليتاري ماثلة بصورة مخيفة في البلدان التي ألفت الاستبداد الشرقي التقليدي، كالهند والصين، ها هنا المادة الاولية التي لا تنضب في سبيل  تغذية الاستبداد الكلي، وآلياته، التي لا تلبث تراكم : السلطة وتدمر البشر، وهذا الشعور الغالب لدى ” انسان الجمهور” بانه غير ذي نفع ولئن كان ظاهرة جديدة كليا في اوروبا، اذ لبث ينبع من بطالة الجموع ومن النمو الديمغرافي الذي لحق بها في اثناء المئة وخمسين عاما الاخيرة، فإنه ظل يسود هنالك منذ غابر العصور في حالة عميمة من احتقار قيمة الحياة البشرية) لا يمكن للمرء ان ينسُب اعتدال الحكم او إتّباعه اساليب في التسيُّد اقل دموية، الى محض الخشية من انتفاضة شعبية، انما هو النقص الفادح في السكان الذي يشكل تهديدا جديا للاستبداد التام والحق ان النظام التوتاليتاري يكون ممكنا في حال توفر له فائض في السكان[9] او يمكن ان تكون مستخدمة دون ان تؤول الى اقلال في السكان مفجع، على اعتبار ان النظام الانف متميز عن الحركة التوتاليتارية.  [10]

ثانياً: أسس ومبادىْ النظام التوتاليتاري
لقد حاولت العديد من المدارس الفكرية ان تعمل على قراءة التوتاليتارية كضرورة لفهم الظاهرة النازية وهي ظاهرة حديثة لا وجود لها في العصور الوسطى ومن اهم هذه المدارس مدرسة فرانكفورت الالمانية التي كانت معادية للنازية حيث هرب معظم مفكريها سنة 1936 من المانيا عندما تسلمت النازية زمام السلطة وكان من ابرز رموز هذه المدرسة Adormo Herbert Makyouse – Habermas الذين حاولوا فهم التوتاليتارية. ريمون آرون تحدث عن التوتاليتارية وهو ليبرالي اما من اهم من كتب حول التجربة  النازية والتوتاليتارية فهي المفكرة الالمانية Hannah Arendt  التي وضعت اسس ومبادئ النظام التوتاليتاري وحاولت معالجة وتفسير هذا النظام من خلال مقارنته بالنظام الهتلري (النازي) والستاليني خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. فما هي هذه الأسس ؟

  • الفردنة : (مجتمع حديث = علاقة المواطن مباشرة مع الدولة دون وساطة)

  • تفكك العصبيات القديمة : يصبح كل فرد في عالم قائم بذاته وهذا مواكب للمجتمعات المتقدمة صناعيا وتقنيا، ان الليبرالية التي شرطها في الاساس الفردنة تحولت الى وحدات صغيرة اسمها افراد وغير مسيّسيين لانه تم الطلاق بين الذين تم انتخابهم وبين القاعدة وتحولت كتلة من هذه الافراد الى اكثرية صامته لم تذهب الى صناديق الاقتراع للتصويت بل استنكفت عن التصويت وساهمت في الاقلال من نسبة المشاركة . شعب غير مسيس من السهل تحويله الى :

  • قطيع من المؤيدين يمكن له ان ينتخب هتلر او غيره ومن هنا اهمية

  • الايديولوجية وهو عنصر هام في التجربة التوتاليتارية على عكس الديكتاتورية التي لا تحتاج الى الايديولوجية.

ولقد كان هذا الواقع الحتمي من الغرابة وعدم التوقّع بحيث راح النقاد يعزونه الى السمة المرضيّة والعدميّة في نتاج اهل الفكر المعاصرين والى مازوشية تكون نموذجية لدى خاصة المثقفين، او شيء من التعاكسية ما بين الروح والانطلاقة الحيوية ” والعداء ما بين الروح والحياة”.

وتقول Hannah Arendt هذا التحليل غير صحيح، هناك شروط، والالمان ليسوا مرضى (فقد كان هؤلاء المفكرون، المثال المحض الصارخ والناطقين الاوضح والاصرح باسم ظاهرة أعم بكثير). فما هي هذه الشروط :

  • خلق عدو وهمي او حقيقي ، الخطر كان اليهود واصبح كل مواطن الماني معني بهذا الخطر – وهذا يؤدي الى خلق =

  • المخابرات السياسية، حيث على كل مواطن ان يبرهن عن ولاءه للوطن من خلال علاقة مع ضابط مخابرات، يطلِعُه على كل جديد مما يؤدي الى =

  • تفريغ للدولة من السلطة، ان الحركة السياسية التي جعلت من الوطن في خطر واستولت على السلطة حيث اصبح الوزير والنائب وغيره لا معنى له الاهم منه المخابرات السياسية.

اذاً هذه هي العناصر باختصار التي تؤلف التوتاليتارية لتفسير التجربة الستالينية بعد موت لينين ولتفسير التجربة الهتلرية في المانيا، فهل هذه العناصر تستطيع تفسير نموذج الدولة في سوريا، فاذا استثنينا العنصر الاول والثاني نجد ان كل العناصر الاخرى موجودة وهذا ما سوف نثبته من خلال مقاربة الوقائع العملية المأخوذة من (السوسيولوجيا الاجتماعية السورية) لنرى مدى تطابق نموذج الدولة السورية مع الاسس التوتاليتارية التي طرحتها Hannah Arendt كما ان العنصر المفقود: “الفردنة ” هو شأن كل الدول العربية التي تدعي بانها تنتمي الى احد النماذج الحديثة : النموذج الليرالي او الماركسي او التوتاليتاري وهي بالحقيقة تنتمي الى نموذج ليبرالي أو الى نموذج ماركسي او الى نموذج توتاليتاري ولكن مع التحفظ

فنموذج يدّعي مثلا انه مستوحى من النموذج الليبرالي كلبنان ولكن تركيبة المجتمع الاهلي لاتزال ترتكز على العيل والعشائر والطوائف، من هنا علينا ان لا نكتفي بالمستوى الحقوقي في عملية تحليل هذه النماذج.

فحذف عنصر الفردنة الذي هو اساس  الحداثة تجعل من عملية نقل هذه النماذج الى مجتمعات غير مفردنة وغير حديثة، عملية منتقصة يشوبها  الفشل .

حاولت Hannah Arendt تحديد الظروف التي ادت او ممكن ان تؤدي الى نشوء النظام التوتاليتاري في اي دولة او مجتمع.

1- مجتمع بلا طبقات :

تسعى الحركات التوتاليتارية الى تنظيم  الجماهير، وغالبا ما تفلح في ذلك، بخلاف الاحزاب القديمة القائمة على المصالح والتي تهتم بالطبقات والناشئة في غالبيتها في امم اوروبية، وبخلاف ما تذهب اليه الاحزاب في البلدان الانكلوساكسونيه من حيث اهتمامها بالمواطنين ذوي المصالح، وبتأثير الاراء العامة في مسار الشؤون المحلية، واذا كانت كل الجماعات السياسية تنسب الى مراكز قوى نسبية في المجتمع فان الحركات التوتاليتارية تتبع قوة الاعداد وحدها. [11]

ما من سمة ادل على الحركات التوتاليتارية بعامة، واكثر تمييزاً لقادتها الممجّدين، سوى العجلة والسهولة المدهشتين اللتين يطوى معهما ذكر الحركات الانفة وقادتها، وتستبدل بأخرى وآخرين. فما انجزه ستالين بجد، وخلال سنوات كثيرة وعبر صراعات داخلية متصلبة وامتيازات هائلة اقلّه باسم سلفه (وذلك من اجل ارساء شرعيته باعتباره وريث لينين السياسي)، حاول حلفاء ستالين القيام به دون اي امتياز، باسم سلفهم  العتيد مع ذلك فقد تسنّى لستالين ان يتصرف بحقبة من الزمن طالت ثلاثين عاما، وكان في متناوله جهاز دعاية ضخم، كان لا يزال مجهولا في زمن لينين، لطالما اعانه في تخليد اسمه الامر ذاته ينطبق على هتلر الذي جعل من نفسه، إبان حياته، موضع افتتان مزعوم لا يُقاوم،[12] حتى اذا هُزِم ومات. اغفل ذكرَه الناس اغفالا تاما، فبات لا يؤدي اي دور، حتى في صفوف الفرق الفاشية الجديدة والجماعات النازية الجديدة في المانيا. ولا شك  ان لهذا الطابع الزائل صلة بتقلب الجماهير المأثور وبالمجد الذي يُوكل اظهاره اليها، بل ان ذلك ليجد تفسيره في الهاجس التوتاليتاري بالحركة الدائمة : فالتشكيلات لا تلبث في السلطة الا بمقدار ما تظل في حركة، وبمقدار ما تدفع كل ما يحيط بها الى الحركة. [13]

ثم انه من الخطأ الافدح ان ينسى المرء بحجة هذا التزعزع، ان الانظمة التوتاليتارية ايا كان احد سلطانها، والقادة التوتاليتاريين، طالما بقوا على قيد الحياة، إنَّ هؤلاء ” يبسطون سلطتهم مستندين الى الجماهير” حتى النهاية[14]، على ذلك فان هتلر بلغ السلطة بصورة شرعية ووفق قاعدة الاغلبية الحاكمة،[15]وما كان له ولستالين ان يستمسكا بزمام سلطتهما على شعوب عريضة بأسرها، وان يصمدا في وجه أزمات داخلية وخارجية عديدة، لو لم يكونا حائزين على رضا الجماهير وثقتها وما كانت دعاوى موسكو، ولا حملة التصفية في ” روهم” ممكنة الوقوع لو لم تكن الجماهير أيدت ستالين وهتلر. [16]

لقد حددت Hannah Arendt مفهوم الجماهير على الشكل التالي :

-تنطبق عبارة جماهير على الذين عجزوا، إما لعددهم الكبير او للامبالاتهم من الانخراط بالشأن السياسي او في اي تنظيم قائم.

-الجماهير توجد في كل البلدان وتشكل اكثرية شرائح الناس الحياديين واللامباليين سياسيا الذين

نادرا ما ينتخبون او ينتمون الى احزاب.

-يجب ان يكون لدى الجماهير الرغبة في الانتظام السياسي، أي الاحساس بالفراغ السياسي والرغبة بالعودة والانتماء الى تنظيم أو حزب يعيد الفرد الى المشاركة بالشأن العام.

 ان ما ميّز انطلاقة الحركة النازية في المانيا والحركات الشيوعية في اوروبا بعد العام 1930،[17]هو انها اجتذبت اليها أنصاراً من هذه الجمهرة من الناس اللامبالين في الظاهر، والذين كانوا موضع رفض من الاحزاب الاخرى جميعها، لاعتبارهم غاية في البلادة او الحماقة، مما يصرف النظر عنهم. وكانت النتيجة ان غالبية المنتسبين اليها كانت مشكَّلة من اناس لم يتسنى لهم الظهور على الساحة السياسية من قبل. وهذا مما سمح بادخال مناهج للدعاية السياسية جديدة كلياً، وما سوّغ اللامبالاة ازاء حجج المعراضين، ونشأ عن ذلك ان هذه الحركات لم تجد نفسها خارج نسق الاحزاب ورافضة اياها بالجملة فحسب، بل انها اهتدت الى زبائن كثيرين ايضا لم يكونوا قد مُسُّوا من قبل نظام الاحزاب ولا افسدتهم الاخيرة على الاطلاق. لذا لم تحتج الحركات التوتاليتارية هذه الى دحض الحجج التي كان المعارضون يوجهونها اليها. بل آثرت التهديدات بالموت المنتظمة بديلة من الاقناع، والارهاب على القناعة ومضت تزعم ان الخلافات انما تنشأ من مصادر عميقة، وطبيعية، وتستمد من جذور اجتماعية او نفسية، تكون عصية على رقابة الفرد، وعلى المنطق بالتالي. على ان هذا كان يمكن ان يتحول ضعفاً لو انها رضيت بالمنافسة الصادقة مع غيرها من الاحزاب، كما ان الامر عينه كان يمكن ان يصير قوة لو انها كانت واثقة في تعاملها مع اناس كان لهم من الاسباب ما يجعلهم معادين لكل الاحزاب. [18]

2_ فشل الديمقراطيّة.

حددت Hannah Arendt الظروف التي افسحت المجال أمام نشوء الحركات التوتاليتارية:

-فشل الديمقراطية ادى الى بروز ثغرة في النظام الديقمراطي، فمن اسس الديقمراطية ان يشارك الشعب بغالبيته في الحكم وانتماء افراده بمعظمهم الى هذا الحزب او ذاك، اما الواقع فهو عزوف عدد كبير من الشعب عن المشاركة بالشأن السياسي واحتكار العمل السياسي من قبل فئة اصبحت النخبة السياسية علماً انها اقليّة، فأصبحت الأقلية هي التي تحكم بأسم الاكثرية فيما الاكثرية الصامتة مغيّبة. هذه الجماهير بالنسبة للنظام الديمقراطي هي عديمة الاهمية، محايدة وصماء في الحياة السياسية، استندت الحركات التوتاليتارية على هذه الثغرة لمهاجمة النظام البرلماني كونه نظام زائف لا يؤمن بقاعدة الاكثرية وضرورة تمثيلها في الحكم بقدر ما يؤمن بمؤسساته الخاصة.

لقد كان من شأن نجاح الحركات التوتاليتارية في جذب الجماهير اليها ان دق ناقوس الحزن بالنسبة لوهمين تولَّيا الديمقراطيات بعامة، والامم الاوروبية ونظام احزابها بصورة خاصة. اما الوهم الاول فكان يقضي بان يشارك الشعب في غالبيته، مشاركة فعّالة في الحكم، وان يتعاطف افراده جميعهم مع هذا الحزب او ذاك. على عكس من ذلك، فقد بينت هذه الحركات التوتاليتارية ان الجماهير المحايدة سياسيا واللامبالية يسعها بيسر ان تكون الغالبية في بلد ديمقراطي. وبالتالي، فان الديقمراطية يمكن ان تعمل وفق القواعد التي لا تعترف بها عملياً الا اقليَّة في حين ان الوهم الثاني الذي لبثت الحركات  التوتاليتارية تهاجمه بعنف يرى أن هذه الجماهير عديمة الاهمية، باعتبارها محايدة حقا ولا تشكل سوى لوحة  الاساس الصماء في حياة الامة السياسية. ثم، جعلت الحركات التوتاليتارية تبيّن ما كان يعجز اي عضو، مما يشكل الرأي العام، عن اظهاره : ذلك ان النظام الديمقراطي يستند الى الاستحسان والتسامح الصامتين اللذين تبديهما الشرائح الصماء واللامبالية من السكان، بمقدار استناده الى المؤسسات والمنظمات البيّنة والمرئية في البلاد. ثم ان الحركات التوتاليتارية يوم اجتاحت البرلمانات بدا احتقارها للنظام البرلماني ظاهرة تشوش محضة : فالواقع انها نجحت في اقناع الغالبية العظمى من السكان ان الاغلبيات البرلمانية طالما كانت مزيفة ولا تتلاءم بالضرورة مع الحقائق الوطنية، مقوِّضة بذلك الكرامة البشرية وثقة الانظمة التي ما ونيت تعتقد بقاعدة الاغلبية بمثل ايمانها بمؤسساتها المخصوصة.[19]

إن الحريات الديمقراطية القائمة على اساس المساواة لا تكتسب معناها الا عندما ينتمي المواطنون الى جماعات تمثلهم وتشكل في ذاتها هرمية اجتماعية وانهيار نظام الطبقات ادى الى انهيار نظام الاحزاب اذ كانت قائمة على مصالح الطبقات فسقوط وانهيار الاحزاب ادى الى فقدان دعم المحايدين اذ لم تهتم بمصالحهم كما وعجزت عن ضم المحايدين من الجيل الجديد، نتيجة عدم تحقيق الاحزاب للآمال المتوقعة وزوال وطئ ودور الحزبيين، تشكل جمهور من الخائبين وازدادت النقمة الامر الذي أدَّى الى ولادة جمهور لا مبالي. لقد كان من شأن انهيار الطبقات ان افضى بصورة آلية الى انيهار نظام الاحزاب نفسه، ولما كانت هذه الاحزاب قائمة على المصالح لم يسعها ان تمثل مصالح طبقة من الطبقات. على ان بقاء هذه الاحزاب كان يستدعي اهتمام أعضاء  الطبقات القديمة التي جعلت تأمل، أيَّا كان الامل ضعيفا، بأن تستعيد موقعها الاجتماعي السالف والتي ظلت مجتمعة، ليس بسبب أنه كان لها مصالح مشتركة، بل لانها ظلَّت تأمل باستردادها كاملة، وعليه، فقد صارت الاحزاب اكثر احتفالا بعلم النفس والايديولوجيا في اساليبها الدعائية وباتت اكثر تبريرية فاكثر واقرب ميلا الى الحنين في مقاربتها السياسية. الى ذلك، كانت هذه الاحزاب فقدت دون علم، دعم هؤلاء المحايدين، الذين لم يكونوا اهتموا بالسياسة لانه كان لديهم الانطباع بانه لا يوجد اي حزب يهتم بمصالحهم ، ثم ان اولى علامات انهيار منظومة الاحزاب على صعيد القارة الاوروبية، لم تكن انشقاقات اعضاء الحزب القدامى عن حزبهم، انما كانت العجز عن ضم المحازيين اليه من الجيل الجديد، وفقدان رضى الجماهير غير المنظمة عنه ودعمها الصامتين : والدليل على ذلك ان الجماهير هذه راحت تنفض عنها بلادتها ومضت انى كان حيث تسنى لها فرصة للتعبير، تعلن عن معارضتها العنيفة الجديدة. [20]

وهكذا تحولت الاغلبيات التي كانت لا تزال تغفو في ظل كل الاحزاب الى جمهور كبير وحيد عديم الشكل، ممثل من افراد موتورين. لم يكن لهذه الاغلبيات اي قاسم مشترك فيما  بينها، أقلّه الوعي الغامض بان آمال المنتسبين الى الاحزاب كانت عبثا،  حينئذ، لا يعود المرء يبالي بالكيفية التي تمت فيها ولادة هذا التضامن السلبي المرعب، وبأي شكل كان الواقع المفروض والقوى القائمة مكروهة : بالنسبة للعاطل عن العمل كان الحزب الديمقراطي – الاجتماعي، وبالنسبة لصغار المالكين الذين حرموا ملكيتهم، كان حزب من الوسط او من اليمين، وبالنسبة للطبقات الوسطى والعليا القديمة، فكان اليمين المتطرف التقليدي. وسرعان ما تضخم جمهور هؤلاء الناس الخائبين واليائسين عامة، في كل من المانيا والنمسا، بعد الحرب العالمية الاولى، حين فاقم التضخم والبطالة تصدّع المجتمع الذي اعقب الهزيمة العسكرية. أن كل الدول التي كانت أُقيمت، قبيل الحرب، كانت نسبة ضخمة من مواطنيها على هذه الحال وراحوا يؤيدون الحركات  المتطرفة، في فرنسا وايطاليا على سبيل المثال، منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية. [21]

3_ مبدأ الفردنة.

 لقد حددت Hannah Arendt العوامل التي ادت الى ظهور عصر الجماهير: بمبدأ الفردنة Atomisation واللامبالاة والعدمية.

رغم ان الفردية ميَّزت مسلك البورجوازية في المجتمعات الاوروبية، لم يحاول احد التوتاليتاريين تدمير الهوية الفردية للجماهير فالانعزال والنقص في العلاقات الاجتماعية والتشقق بين الطبقات لا يلحمه الا الشعور بالانتماء، لذا فمن العوامل الاساسية لنمو التوتاليتارية ان تكون المجتمعات حديثة والافراد مبعثرين وبهذا تتشكل الحركات التوتاليتارية من تنظيمات جماهيرية تضم اليها افراد مبعثرين ومعزولين ويفترض بهم الولاء اللا محدود لحركتهم وتعمل الحركات التوتاليتارية على خلق الظروف المؤاتية لتجريد  الفرد من الروابط الاجتماعية بحيث لا يشعر بالنفع الا من خلال انتمائه الى حركة او حزب.

لطالما اشار المحللون  الى ان الحركات التوتاليتارية تفيد من الحريات الديمقراطية، وتفرط فيها، في سبيل ان تحسن القضاء عليها غير ان الامر ابعد من ان يكون محض مهارة شيطانية من جانب القادة، او حماقة صبيانية من قبل الجماهير. ولئن صحّ ان الحريات الديمقراطية قامت على اساس من المساواة بين جميع المواطنين امام القانون، الا انها لا تكتسب معناها ووظيفتها العضوية الا حالما ينتمي المواطنون الى جماعات تمثلهم، اوتشكّل في ذاتها هرميّة اجتماعية وسياسية. والحال ان انهيار منظومة الطبقات، وهي التفريع الاجتماعي السياسي الوحيد السائد في الامم الاوروبية، كان احد الاحداث الاكثر مأساوية في تاريخ المانيا.[22] وكما كان هذا الانهيار مؤاتيا لانطلاقة النازية، بمثل ما كان  غياب التفريع الاجتماعي في صلب الاعداد الهائلة من سكان الارياف في روسيا (هذا الجسد الكير والرخو، العديم التربية السياسية والذي يكاد يكون ممتنعا على الافكار الجديدة بتشريف الفعل. [23] صار لدى انقلاب البولشيفيين على نظام كيرنسكي الديمقراطي. على ان الظروف التي مرَّت بها المانيا في المرحلة السابقة لهتلر هي أدلُّ على المخاطر التي يتعرض لها الغرب بصورة ضمنية، (الانهيار المأساوي في منظومة الطبقات) بينما عيّنت الاحداث في روسيا  بوضوح الوجهة التي يمكن ان تسلكها الانقلابات الثورية المحتومة في بلدان آسيا. ومن المنظار العملي، فانه لاطائل من ان تعتمد الحركات التوتاليتارية ترسيمة النازية او البولشيفية وان تنظم الجماهير باسم العرق او باسم الدين، او ان تتظاهر باتباع قوانين الحياة او الطبيعة ام الجدلية او الاقتصاد. [24]

لطالما كانت الحركات التوتاليتارية احوج الى ظروف خاصة تكون فيها  الجماهير مفتتة ومشظاة، منها الى غياب بنية في مجتمع يتشكل من الجماهير. ذلك ما يتضح تماما للمرء إذ يقارن بين النازية والبولشيفية اللتين نشأتا، كل في بلدها على التوالي، في ظروف غاية في الاختلاف. وفي حين كان ستالين مجبرا على خلق المجتمع المتشظي هذا خلقا اصطناعيا، (وهذا اقرب الى النموذج السوري)، في سبيل ان يحوِّل الديكتاتورية الثورية التي ارساها لينين الى نظام توتاليتاري كلياً، كانت الظروف التاريخية في المانيا هي التي مهدت السبيل امام النازيين لصنع ديكتاتوريتهم الخاصة.

لقد حالت الطبقات والقوميات الجديدة دون مباشرة ستالين السعي الى تهيئة البلاد للنظام التوتاليتاري، فقد كان ستالين مجبرا على تصفية ما تبقّى من سلطة السوفياتات، باعتبارها عضوا رئيسيا في الهيئة التمثيلية الوطنية، وتؤدي دورا فاعلا في المجتمع وتحول دون جعل سلطة الحزب مطلقة، كل ذلك بهدف ان ينشئ جمهوراً مشتتا وعديم الهوية.

كما انه شرع في تقويض السوفياتات الوطنية اذ شكّل خلايا بولشيفية الى حيث انضم كبار الموظفين في اللجان المركزية. [25] وما كاد العام 1930 يحل حتى كانت آخر آثار المؤسسات القديمة قد تلاشت وافسحت في المجال امام بيروقراطية الحزب : تلك كانت ذات نزعة شديدة في حين لم تكن نوازعها الى الروسنة مختلفة  في شيء عن نوازع النظام القيصري، مما جعل البيروقراطيين الجدد لا يخشون من القليل من الإعداد.

اذاً انتقل النظام البولشيفي الى تصفية الطبقات، وشرع لأسباب ايديولوجية ودعائية في الانقضاض على الطبقات المالكة بادى الامر : الطبقة الوسطى الجديدة ربيبة المدن، والمزارعون. ومن ثم اجريت تصفية طبقة العمال وفي سبيل تتويج كل هذه الاجراءات جاءت تصفية البيروقراطية التي كانت قد ساهمت اي اسهام في تنفيذ كل التصفيات السالفة. وقد استغرق ستالين سنتين، من العام 1936 حتى العام 1938، للتخلص من الارستقراطية الادارية والعسكرية في المجتمع السوفياتي، ما جعل كل مجالات المجتمع تؤول الى ايد جديدة، المكاتب والمصانع والهيئات الاقتصادية والثقافية والحزب والمكاتب العسكرية في المجتمع السوفياتي، وحالما فرغ من ازاحة نصف عديد الادارة، المنتمين الى الحزب او غير المنتمين اليه، أجهز على تصفية خمسين بالمئة من اعضاء الحزب وثمانية ملايين شخص على الاقل. [26]

لم يسبق الاستبداد التوتاليتاري حركة توتاليتارية في روسيا كما حصل في المانيا. فلقد  استوجب تنظيم الحركة التوتاليتارية وخلق الظروف الايلة الى تناميه خلقاً مصطنعاً، بغية جعل الولاء، ولاء الفرد والجماعة – تاماً وذلك هو الاساس النفساني في الاستبداد التام. في حين ا ن ولاء كهذا لا يمكن توقعه الا من كائن بشري معزول بالكامل، كائن مجرد من روابطه الاجتماعية، التي تصله بعائلته واصدقائه ورفاقه او محض معارفه فرد لا يستشعر نفعه الا من خلال انتمائه الى حركة او حزب.

ان انتزاع  السلطة، في اي بلد من بلدان  العالم، ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة محضة لغاية، الى ذلك فان انتزاع السلطةن في اي بلد من بلدان العالم، ليس الا مرحلة انتقالية ولم تكن نهاية الحركة على الاطلاق، على ان هدف الحركة العملي هو ادماج اكبر عدد ممكن من الناس في تنظيمها ووضعهم في حال دائمة من الحركة، اما في ما خص الهدف السياسي الذي يمكن ان يكون خاتمة الحركة، فلا وجود له.

4_ تحالف ( النخبة_الشعب) وصياغة الأيديولوجية.
 لقد حددت Hannah Arendt العوامل التي ادت الى ظهور عصر الجماهير بمبدأ الفردنة واللامبالاة والعدمية فاذا استطاعت الفردنة ان ترسي الولاء غير المشروط الذي يبديه المناضلون وان توسِّع حلقة الجماهير التي تخاطبها الانظمة التوتاليتارية فكيف استطاعت ان تستقطب النخبة ؟

تلك اللائحة البارزة من الرجالات البارزين الذين طالما اعتبرتهم التوتاليتارية من عداد المتعاطفين معها ورفاق دربها واعضاءها  المنضوين فيها بانتظام اولئك الذين كانوا غادروا المجتمع من تلقاء انفسهم، قبل انهيار الطبقات فيه فكانوا مستعدين لاستقبال الجماهير والرعاع الذين كانوا بدورهم نتاجا ادنى سالفا من حكم البرجوازية، ففي العشرينات كانت الايديولوجيات، الفاشية والبولشيفية والنازية قد صيغت والحركات التي قادها جيل ما يدعى “بالجبهة” من قبل اناس كانوا نشأوا قبل الحرب، ولبثوا يتذكرون تلك المرحلة بصورة مميزة  دون ان يغفلوا عن الحقد الذي طالما اوحى به اليهم، كما لم يخفوا واقع حماستهم يوم اندلعت الحرب العالمية الاولى. لم يكن هتلر والفاشلون وحدهم من ركعوا شاكرين الله لما انعمه على اوروبا اذ عمتّها التعبئة العامة منذ 1914.[27] حتى ان هؤلاء لم يكونوا ليحركوا ساكناً ولم يلوموا انفسهم لكونهم لقمة سائغة للحملات الدعائية الوطنية المتعصبة وللشروح الكاذبة حول طابع  الحرب الدفاعي المحض. إذاً قضى النخبة الى الحرب والامل المدغدغ يحدوها في ان كل ما تعرفه عن الثقافة، وعن نساجة الحياة، ربما يضيع في ” زوابع الفولاذ” (إرنست يونغر). وفي المعجم الذي انتقاه “توماس مان” بعناية، باتت الحرب بمثابة توبة وتطهُّر ” كانت الحرب اكثر ما يُلهم الشاعر، لا النصر في ذاته”. وبحسب عبارات طالب ينتمي الى تلك الفترة، “فان ما يهم، هو ان يكون المرء مستعداً دوما للتضحية”، او بحسب تعابير عامل شاب ” فانه سيان ان يعيش المرء سنوات اكثر او اقل، انما الاهم ان يكون لديه ما يبرر به حياته”. [28]

وبالطبع وقبل ان يعلن مثقف نازي موقفه قائلا ” كلما سمعت كلمة ثقافة سحبت مسدسي”، كان الشعراء قد اعلنوا اشمئزازهم من” قذارة هذه الثقافة” وجعلوا يطلقون دعوتهم، على المنوال الشعري نفسه، الى “البرابرة والزنوج والهنود، ويا انتم جميعا، لكي تدوسوها بأرجلكم”. [29]

هذا الاستياء الحاد حيال فترة ما قبل الحرب ومحاولات الاصلاح السالفة بالاغراق في العدمية” والاستياء الآنف كان قد عبَّر عنه نيتشه ، وسريل، وباريتو، ورامبو، وت اي لورانس، ويونغر، وبريخت ومالرو، وباكونين ونيتشاييف، والكسندر بلوك. وجل ما  دعا اليه هؤلاء هو نسيان كم إنَّ الاشمئزاز يسعه أَن يكون مسوغا في مجتمع اتخمته الايديولوجيا والاخلاقية البورجوازيتان.

ولكن جيل الجبهة، وبعكس توجيهات مرشديه الروحيين، كان منصرفا بكليته الى الرغبة في ان يعاين فناء كل عالم الامان المزيف والثقافة المزيفة والحياة المزيفة وكانت هذه الرغبة من الشدة بحيث انها تجاوزت، في وضوحها وصداها، كل المحاولات السابقة التي طالما رمت الى تحويل القيم (المحاولة النيتشوية) والى اعادة تنظيم الحياة السياسية (كتابات سوريل)، وانبعاث الاصالة البشرية (باكونين)، او الى الهيام بالحياة حتى الهوس، وذلك بالمضي في نقاء المغامرات التغريبية (رامبو) وعلى هذا  بات التدمير العديم الشفقة، والفوضى والخراب العميم، فيما حازت على صدراتها الاسمى في المجتمع.[30] (الطبقة البرجوازية).

ومما يؤكد على صدق هذه المشاعر، هو ان قلة قليلة من ممثلي هذا الجيل أوتي لها الشفاء من حماستها حيال الحرب إثر اختبارها فظائعها اختباراً واقعيا ذلك ان الناجين من حرب الخنادق لم يصيروا دعاة سلام. انما آثروا نوعا من الاختبار من شأنه ان يفصلهم، على حد اعتقادهم فصلا نهائيا عن محيط الاحترامية الكريه. كما لبث هذا الجيل يتذكر الحرب متمثلا اياها باعتبارها استهلالا اكبر لانهيار الطبقات وتحولها الى جماهير وصارت الحرب بعسفها الثابت والمجرم، رمز الموت، “المساوي الاكبر”.[31]

أصبحت الحرب الدليل الاكبر على انهيار الطبقات التي تحولت الى جماهير كما ادت الحرب الى المساواة الكبرى من خلال الموت، فمحت الخلافات العميقة الفردية مع خروج النظام العالمي الجديد برزت الحاجة الى المساواة والعدالة والرغبة في تجاوز حدود الطبقات. فإنسان ما بعد الحرب وجد نفسه منغمسا في تفاهة الوظائف الاجتماعية ومجرد من امكانية التغيير الجذري لذا اتى انتسابه الى الحركات التوتاليتارية كحلّ للخروج من العدمية والفراغ. فالانتساب الى النشاط التوتاليتاري يجيب على السؤال التالي : من اكون ؟ ففي حين ان المجتمع يجيب انت ما تبدو عليه تجيب الحركات التوتاليتارية : انت ما تفعل.

هذه الحركات جذبت اليها النخبة المثقفة وعامة الشعب على السواء اذا اعتمدت على الارهاب الذي صار نوعا من الفلسفة التي تعكس حالة الحرمان والحقد والبغض، لذا اتى تحالف النخبة والعامة لتدمير المجتمع الراقي فالتعصب الثوري الذي قاد هذا التحالف استدعى تدمير كل المعتقدات تدميراً جذريا والقضاء على القيم والمؤسسات الموجودة والسبب الذي دفع الى هذا التحالف  هو ان النخبة وعامة الشعب مثّلا الطبقات التي أزيلت من اطار الدولة، وزوال اي معنى او هدف لحياته وانجرافه في العدمية، دفعه للبحث عن هدف لم يجده الا من خلال الحركات التوتاليتارية التي اظهرت سيئات النظام البرلماني ومدى ما ينمِّي في الفرد اللامبالاة، فيما عملت من ناحية اخرى على توعية الجمهور وانتشاله من العدميّة الغارق بها.

وكان هتلر في السنوات الاولى من توليّه مهامه لم يتوان عن ايقاظ مشاعر جيل الجبهة هذا حين ادرك ان ترميم الوضع الاوروبي بات يهدد طموحات الرعاع[32] تهديداً جديا للغاية.

اما الجماهير التي تاقت نخبة ما بعد الحرب الى الانغماس فيها، فلم تكن حريصة على التمايزات الوطنية البتّة. ومن المفارقات ، ان الحرب العالمية الاولى كانت أبطلت المشاعر الوطنية الصادقة، ففي الفترة الزمنية ما بين الحربين، كان من الاهمية بما لا يقاس ان ينتمي المرء الى جيل الخنادق، وسيان الجهة حيث كان، وسواء كان المانيا ام فرنسيا.[33] حتى ان النازيين ارسوا كل دعائيتهم على اساس من هذه الرفاهية غير المحددة، على اساس “جماعة المصبر” هذه، وأفلحوا في كسب عدد كبير من منظمات قدامى المقاتلين، وذلك في بلدان اوروبا قاطبة، واثبتوا في ذلك كم باتت الشعارات الوطنية عبثية، حتى في صفوف اليمين، الذي جعل يستخدمها لما تنطوي عليه من عنف اكثر من كونها ذات محتوى وطني.

ان عناصر الثقافة بعد  الحرب لم تكن جديدة فتم تواصلها مع الماضي، اذ كان باكونين قد اعترف في ما مضى قائلا : ” لا اريد ان اكون انا، اريد ان اكون نحن”. [34]

في حين ان نيتشاييف مضى يبشر بإنجيل “الانسان الملعون” الذي ليس له مصالح شخصية، ولا شؤون خاصة، ولا مشاعر، او ارتباطات او ملكية وليس له حتى اسم يخصُّه بالضبط.”[35]

وتلك كانت الغرائز المعادية للانسانية، والمعادية لليبراليين، والمعادية للفردانيين والمعادية للمثقفين، الغرائز التي اثارها جبل الجبهة الذي ما ونيّ يمدح العنف مدحا طناناً وروحيا ويعلي من شأن القوة والقساوة والحال ان النخبة الامبريالية كانت اثبتت، في ما مضى، بصورة خرقاء  ولكن “علمية”، ان صراع الكل ضد الكل انما هو مبدأ الكون، وان التوسع الاستعماري هو ضرورة نفسانية قبل ان يكون وسيلة سياسية، وان الانسان ينبغي له ان ينقاد وفق قوانين كونية مماثلة.[36]

هذا التحالف بين النخبة والرعاع كان يهدف لتدمير المجتمع الراقي، لكن بعد ان استولت الحركات التوتاليتارية على السلطة، اخذت تعمل على إزاحة كل فريق المتعاطفين هؤلاء، أنّى تسنى لها ذلك، وذلك قبل ان تمضي الانظمة الى اقتراف جرائمها الافظع. اذ ان المبادرة الفكرية والروحية والفنية توازي بخطورتها مبادرة الرعاع الى الجريمة، كما ان كلا منهما أخطر بكثير من المعارضة السياسية المحضة. إن الاضطهاد المتواصل والمنظَّم الذي ما لبث يمارسه قادة الجماهير الجدد ازاء كل اشكال النشاط الفكري العليا، يستمد تسويغه من علل اعمق من مجرد إحساسهم الطبيعي ازاء كل ما يعجزون عن فهمه. ذلك ان الاستبداد الكلي لا يتسامح ازاء المبادرة الحرَّة في اي من مجالات الوجود، ومن الطبيعي بالتالي، الا يتسامح إزاء اي نشاط لا يسعه التنبؤ به. حتى اذا بلغت التوتاليتارية السلطة، أبدلت كل المواهب  الحقَّة، اية كانت درجة تعاطفها معها، بهؤلاء  الحمقى الذين يُشكل افتقادهم الى الذكاء والروح الخلاّقة، خير ضمان لولائهم. [37]

ان تنبؤات ماركس المتفائلة، والتي تختفي بمقتضاها الدولة مفسحة في المجال امام مجتمع دون طبقات، لم تكن اكثر تطرفا ولا اكثر رسالية مما شرعت في الدعوة اليه الحركات التوتاليتارية.

واذا كان بردياييف محقاً اذ يقول ” بأن الثوريين الروس كانوا توتاليتاريين على الدوام”، فلأن الجاذب الذي مضت روسيا السوفياتية تمارسه على رفاق الدرب المفكرين من النازية والشيوعية على السواء، كان مردّه الى ان “الثورة في روسيا كان ديناً وفلسفة ولم تكن محض صراع يتعلق بالجانب الاجتماعي والسياسي من الحياة”. [38] والواقع ان تحول الطبقات الى جماهير وانهيار هيبة المؤسسات السياسية وسلطتها، كانا قد انشأ في بلاد اوروبا الغربية ظروفا مشابهة للتي كانت سائدة في روسيا. ثم انه ليس من قبيل المصادفة ان شرع الثوريون الغربيون بدورهم في اعتماد هذا التعصب الثوري، على النموذج الروسي الخالص، الذي يستدعي لا التبديل في الظروف الاجتماعية او السياسية، بل تدمير كل المعتقدات تدميرا جذريا، والقضاء على القيم والمؤسسات الموجودة. اما الرعاع فكانوا اكثر افادة من هذه الحالة الجديدة محققين تحالفا مؤقتا بين الثوريين والمجرمين، وهو تحالف كان قائما منذ زمن بعيد وسط ملل ثورية عديدة في روسيا القيصرية، غير انه كان مجهولا من قبل حلقة الشعوب الاوروبية وفي الحالتين كانت القوة والتهديد مرادفة للثورات .

ان الافراد المتذرين ساهموا في وصول الحزب النازي. كما ان تحالف الحزب البولشيفي والحزب الاشتراكي الثوري انجح ثورة 1917، فكيف تم ذلك؟

لقد نشأ الحزب البولشيفي في روسيا القيصرية في اواخر القرن الماضي في اوساط الانتلجنسيا المثقفة الثورية (التي خرج منها معظم الزعماء التاريخيين لثورة 1917، ثم نجح في كسب الطبقة العاملة الصناعية منذ ثورة عام 1905 . ولكن لم يكن لهذا الحزب جذور في الريف الذي كان لا يزال يضم الغالبية الكبرى من السكان. فكان الحزب الاشتراكي الثوري هو القوة الثورية المسيطرة على الريف. وانعكست هذه الاوضاع في صفوف سوفيات 1917. اغلبية بولشيفية في المدن، واغلبية اشتراكية ثورية في الريف.

الا ان التاريخ “الرسمي” الذي كتب فيما بعد في عهد الستالينية وهو المصدر المتداول في اليسار العربي – يخفي هذا الواقع. بيد ان الحزبين تلاقيا في معاداة النظام خلال الحرب العالمية الاولى، (كما عادت النخبة والشعوب الالمانية انظمتها في نفس الفترة)، ثم تحالفا اثناء الثورة على اساس تبني برنامج اصلاح زراعي جذري يتلخص في توزيع الارض الزراعية على جميع الفلاحين العاملين تقريبا على قدم المساواة. وجدير بالذكر ان هذا البرنامج لم يكن اصلا برنامج الحزب البلشفي، بل برنامج الحزب  الاشتراكي الثوري. فالحزب البولشيفي نما بعيدا عن مشاكل الريف. فاكتفي في هذا الشأن حتى ثورة 1917 باعلان الموقف النظري للاممية الثانية، وهو الغاء الملكية الفردية للارض واحلال ملكية الدولة محلها.

وكان هذا الموقف ناتجا عن ظروف تطور الرأسمالية في الغرب المتقدم، حيث ازدهرت الرأسمالية المركزية على اساس ثورة بورجوازية (او اصلاح وتطور أديا في نهاية الامر الى الاوضاع نفسها) فقضت على الهيمنة الاقطاعية السابقة. وقد ادى ذلك الى هجرة واسعة للمدن صحبت حركة التصنيع الباكر، لدرجة ان سكان الريف اصبحوا اقلية قليلة. وترتب على هذا التطور من الجانب السياسي تخلي الفلاحين عن مواقفهم الثورية السابقة فأصبحوا ” رديف اليمين” ضد الثورة الاشتراكية المقبلة وتختلف هذه الامور عما كانت عليه في روسيا وعما لا تزال عليه في العالم الثالث المعاصر حيث لم تحدث ثورة برجوازية او تطور رأسمالي مركزي.

ان عبقرية لينين الثورية سمحت له بادراك هذا الفرق، فتبين فورا برنامج الاشتراكية الثورية واتخذ ” مرسوم الارض” المعروف وبنى تحالفا “فلاحيا متيناً ثم استمر هذا التحالف خلال عقد العشرينات على ان الحزب البولشيفي لم يتحرر تماماً من ايديولوجيا “المعاداة للفلاحين” السائدة في الاممية الثانية، الامر الذي يفسر في نهاية الامر قراره التعسفي اللاحق، اي خيار ستالين في اوائل الثلاثينات احلال الجمعيات التعاونية المتقدمة ” الكولخوز” محل نمط الانتاج العائلي. ومن المعروف ان هذا التحول اقتضى قمع معارضة الغالبية العظمى من الفلاحين وليس معارضة اقلية ” الكولاك” كما يدعي التاريخ السوفياتي الرسمي. فكان الهدف الحقيقي لعملية انشاء الجمعيات تمويل التصنيع، من خلال اخضاع الفلاحين لنظام ” تسليم الانتاج الاجباري” وهو في حقيقة امره استغلال وهذا ما ادى الى ازمة زراعية عنيفة عانى منها الاتحاد السوفياتي كما ان كسر التحالف الشعبي هذا ادى الى القضاء على الديقمراطية الشعبية الثورية التي كانت تسود في الاتحاد السوفياتي قبل الثلاثينات وأرسى التوتاليتارية حيث عمل ستالين على بلورتها.

فاذا كان  تحالف – النخبة الشعب اسقط الدولة الديمقراطية في المانيا واذا كان تحالف الاحز اب (العمالية – الفلاحية) انجح ثورة 1917 في روسيا فان ثورة تشرين 1963 السورية

كانت انقلابية عسكرية فتم التحالف ضد الدولة بشكل سلبي، تحالف، كل طرف فيه لديه اهداف منفصلة عن الاخر.

القسم الثاني: النظام السوري والتوتاليتاريّة.

أولاً: الانقلابات والاستيلاء على السلطة.
لقد  خطط حافظ الاسد هو ورفاقه في اللجنة العسكرية للاستيلاء على السلطة في سوريا، عن طريق انقلاب عسكري تقليدي، بمعنى ان يتم تجميع زمرة من الضباط تتمكن في اليوم المحدد من توجيه ضربة على درجة من القوة بحيث تطيح بالحكومة. ولكن نظرا لعدم توفر حركة جماهيرية ثورية تحت امرتهم فقد كان عليهم ان يحصروا خطتهم في نطاق الحدود الضيقة لنادي الضباط والثكنات المتمردة التي كانت هي مجال العمل السياسي للقوات السورية المسلحة منذ 1949

وكان ثمة اساليب مألوفة للانقلابات السورية : فالمتآمرون كانوا يعلمون ان عليهم ان يسيطروا على الكسوة وقطنا فهما المعسكران اللذان يحميان المشارف الجنوبية للعاصمة دمشق وان اللواء المدرع السبعين هو اداة جوهرية، وان حمص التي هي مقر الكلية العسكرية ينبغي تحييدها، وانه يجب الاستيلاء على اذاعة دمشق لإعلام الشعب بان عهدا جديدا قد بدأ، فكل ثورة تحترم نفسها لا بد لها من بيان رقم “1” مصاغ بلغة مثيرة.

ورغم ان اعضاء اللجنة انفسهم كانوا خارج الجيش بسبب التشكيلات بعد الانفصال عن مصر، وغير ذوي تجربة، وفي سن غضّة (كان عمر حافظ الاسد يومها واحدا وثلاثين عاما)، الا ان هدفهم لم يكن بعيد المنال. كان النظام الانفصالي الذي استهدفوا اسقاطه يرتكز على طبقات ومصالح اضعفتها التقلبات العنيفة منذ الاستقلال : كحرب فلسطين، والانقلابات العسكرية التي تلتها، وصعود الاحزاب الراديكالية، والهزة التي احدثها اتحاد مصر وسوريا. فالرئيس القدسي ورؤساء الوزارات الثلاث الذين خدموا في ظله خلال الثمانية عشر شهراً التي عمّرها نظام الانفصال – (وهم الدكتور معروف الدواليبي، والدكتور بشير العظمة، وأخيرا خالد العظم الذي كان قد اصبح عجوزا ومريضا) قد فقدوا ارادة ممارسة الحكم الى حد كبير. وقال الاسد فيما بعد : ” كانت حكومة بلا شعب، وبلا جيش، كان حكمهم حكم طبقة انتهت ايامها”. [39]

وكانت هذه هي آخر مرة يظهر فيها في الحكم وجهاء المدن الذين ظلوا طيلة عهد الاتراك والفرنسيين وسنوات  الاستقلال الأول، هم أسياد سوريا الحقيقيون ولكن منذ 1962 لم يعد باستطاعتهم السيطرة على اجهزة الدولة، ناهيك عن هيئة الضباط، كما لم تكن لديهم القوة لقمع اعدائهم القدامى مثل البعث الذي راح ينتظم من جديد.

وكان على القدسي ايضا ان يتحمل وطأة غضب عبد الناصر. فقد راحت اجهزة دعاية القاهرة تشن على الحكومة السورية هجمات يومية صاخبة، بينما انصبت في سوريا عبر الحدود اللبنانية النفّاذة، الاموال والمتفجرات وشيكات العملاء المصرية واصبح التدخل المصري سافرا الى درجة ان سوريا اشتكت عبد الناصر، الى جامعة الدول العربية. ولكن تهديد عبد الناصر  الغاضب بالانسحاب من الجامعة اذا أيّدت الشكوى المقدمة ضدّه، قد سحق الموضوع وترك نظام القدسي الكسيح يواجه عجزه بنفسه.

وهكذا تبيَّن ان الاطاحة بمثل هذا النظام المترنح لن تكون صعبة الى حد الاستحالة. الا انه كان يتعين على اللجنة العسكرية ان تجد حلفاء مناسبين،

وكان الضباط حينذاك منقسمين الى خمس فئات رئيسية : فهناك فئة ما يسمون بـ ” الضباط الدمشقيين” الذين حطموا الوحدة والذين كانت معنوياتهم قد بدأت تنهار تماماً كمعنويات الحكومة التي جاوؤا بها، ثم فئة اكرم الحوراني التي حشرت بعض مواقعها منذ قضية توقيع الحوراني على البيان الانفصالي، ثم فئة الناصريين وهي كثيرة العدد وكانت تمسك بمناصب قيادية هامة ولكن كان لها وضع شاذ باعتبار ان الحكومة التي تخدمها كانت على اسوأ علاقة ممكنة مع الزعيم المصري، ثم هناك فئة المستقلين الذين لا يرفعون رآية احد، واخيرا فئة البعثيين التي تنتمي اليها اللجنة العسكرية السرية.

ثم تساءلت هذه اللجنة مع اي فئة يمكنها ان تتحالف ؟

“فالضباط الدمشقيون” هم العدو والحورانيون لا يمكن الاقتراب منهم ايضا لا لانهم انحازوا الى الانفصاليين وانما لان اللجنة العسكرية كانت ترمي فيهم المنافسين لها، وهكذا لم يبق امامها سوى الناصريين والمستقلين وكانت نتيجة المفاوضات السرية ان تجمعت عصبة  مؤلفة من ستة رجال في اواخر 1962 وهم : الاسد وعمران وجديد والحريري وقطيني والصوفي ولكن كانت لديهم اهداف مختلفة. فالحريري يريد انقاذ مستقبله لانه على خلاف مع السلطة. والناصريون يريدون اعادة عبد الناصر، بينما كانت اهداف اللجنة العسكرية اكثر تعقيدا وطموحاً ، فهي وحدها بين الفئات الاخرى كانت تملك كيانا متماسكا، وقيادة موحدة وبرنامجاً. فهي تهدف اولا الى اعادة البعث الى السلطة وثانيا الى ان يضع اعضاؤها انفسهم على طريق الصعود من جديد، وبعد ذلك فقط ينظر في امر قضية الوحدة العربية الى الامام ولكن ما لبث ان تحقق نصر الانقلاب في ليلة 7-8 آذار 1963 حتى قام البعثيون بانقلاب آخر ضد الناصريين في 2 ايار من نفس السنة وبعد ان انهت اللجنة العسكرية الناصريين كان هدفها التالي والاكثر سهولة هو مجموعة الضباط المستقلين الملتفين حول اللواء زياد الحريري الذي كان قد صار وزيرا للدفاع ورئيساً للاركان كذلك. وعندما غادر الحريري  القطر في 23 حزيران 1963 على راس وفد الى الجزائر استغلت  اللجنة العسكرية غيابه لتقوم بتطهير ونقل خمسة وعشرين من اهم مؤيديه، وعرضت على الحريري نفسه كمكافأة ترضية، وظيفة ملحق عسكري في واشنطن، ولكنه اختار التخلي عن السياسة والتقاعد في المنفى وبهذا اصبحت اللجنة العسكرية السريّة هي التي تدير شؤون البلد فعليا مع الابقاء على نفسها خارج دائرة الضوء ووضعت واجهة حكم للنظام بصورة مدنية تديرها كما تشاء .

وبدأ العمل على اعداد الجماهير وادخال العقيد الى الجيش لخلق ” الجيش  العقائدي” وانشاء الشرطة السرية واحتقار الديمقراطية البرلمانية.

ولم يمضي وقت طويل حتى تم الامساك بقيادة حزب البعث والقضاء على الطبقات، بتحطيم قوة ونفذ النخبة من أبناء المدن، وتأميم الشركات، فالنظام التوتاليتاري يحوّل الطبقات الى جماهير على الدوام ويضع بديلا من نسق الاحزاب، حركة جماهيرية تنقل مركز السلطة من الجيش الى الشرطة السرية .

فكانت الخطوة الاولى وضع المنطلقات النظرية، ووضعت الوثيقة ذات الصفحات الستين التي تبنّاها المؤتمر واعدها الحلفاء الماركسيون للضباط ولاسيما ياسين الحافظ وكان عنوانها فخماً وطناناً: “بعض المنطلقات النظرية”.[40] وقد اشغل ضباط اللجنة انفسهم بالمقاطع الخاصة بالعلاقات بين الحزب والجيش فقد كانوا حساسين من تهمة اختطاف حزب عفلق التي وجهت اليهم وأُعلِنت المنطلقات واعتبرت ان تشبُّع الجيش بالعقيدة السياسية لا يقل اهمية عن التدريب العسكري نفسه.

ورفّعت تلك المنطلقات النظرية الحزب رسميا الى مكانة الحزب القائد في المجتمع السوري الذي تلتف حوله المجموعات والقوى السياسية ذات التفكير المماثل والمكانة التي تلي وتتبع البعث، من العمال، والفلاحين والطلبة والنساء والشبيبة وما شاكل باعتبارها ادوات بناء ” الديمقراطية الشعبية” التي استهدف البعث انشاءها. وبالمقارنة مع ذلك هوجمت الديمقراطية البرلمانية على الطراز الغربي باعتبارها مجرد واجهة ” للاقطاع” والبرجوازية الكبيرة ورفضت باعتبارها  عاجزة عن فتح الطريق للتحول الاشتراكي. وهكذا زُرعت بذور مؤسسات ستقوم في دولة  البعث في وقت لاحق كما وضِعت الاسس النظرية لحرب قاسية على وشك ان يشنها القادمون الجدد على طبقات الملاك في المدن.

نستطيع ان نلاحظ ان الطريقة التي تم فيها القضاء على الطبقات هي اقرب مشابهة للنموذج الروسي منها للنموذج الالماني حيث كانت الظروف التاريخية هي التي مهدت السبيل امام النازيين لصنع ديكتاتوريتهم  الخاصة على ان الظروف التي مرت بها المانيا في المرحلة السابقة لهتلر هي ادل على المخاطر التي يتعرض لها الغرب بصورة ضمنية ( الانهيار المأساوي في منظومة الطبقات). بينما جعلت الاحداث في روسيا تعيِّن بوضوح الوجهة التي يمكن ان تسلكها الانقلابات الثورية المحتومة في بلدان آسيا. وفي حين ان الجماهير كانت اساس في نجاح الحركة التوتاليتارية في المانيا كما كانت وسيط لوصول البولشيفيين الى الحكم ( قبل ان تنحرف الديمقراطية الشعبية الثورية  التي كانت مبنية على تحالف الحزب البولشيفي والحزب الاشتراكي وتتحول الى توتاليتارية بطريقة مصطنعة ومركّبة).

الا انه في النموذج السوري لم تتوفر حركة جماهيرية مماثلة مشاركة في انجاح ثورة 1963 ، فلقد كان مجرد انقلاب عسكري تقليدي .

كما ان مبداء الفردنة المرادف للمجتمعات الحديثة قد تطور الى قمة التذرر Atomization في المانيا والشعور بالعدمية الامر الذي عمل على خلقه ستالين خلقا اصطناعيا في سبيل ان يحوِّل الديكتاتوريه الثورية التي ارساها لينين الى نظام توتاليتاري كليا الامر الذي عمل على تحقيقه ايضا النموذج السوري ولكن لطالما كانت الحركات التوتاليتارية احوج الى ظروف خاصة تكون فيها الجماهير مفتتة ومشظاة منها الى غياب بنية بطريقة مصطنعة في مجتمع يتشكل من الجماهير حيث التفريع الاجتماعي في الاساس، غائب، في مجتمعات لم تنتقل الى التوتاليتارية من رحم البورجوازية

ثانياً: السير على طريق التوتاليتاريّة.

1- الدعاية التوتاليتاريّة: ( العدو الوهمي)
من اجل إبطال العقائد القديمة وإزالة المفاهيم الليبرالية، تستخدم الحركات التوتاليتارية الدعاية السياسية للقيام بالتلقين العقائدي ” ففي سوريا الاسد تحقق التشابه النمطي في الصحافة وفي اجهزة الاعلام وفي منظمات الحزب الشعبية كما اخذت منظمة طلائع البعث (الاجبارية بين سني السادسة والحادية عشرة) واتحاد  شبيبة الثورة (لطلبة المدارس بين سني الثانية عشرة والثامنة عشر، وليست اجبارية ولكنها تعطي منتسبيها امتيازات كبيرة) واتحاد الطلبة تسعى كلها لتشكيل الاذهان الشابة حسب القالب البعثي”.[41]

واعادة تسييس الناس من خلال طرح شعار الوطن في خطر [42] .

“وبما ان الاسد كان يهدف لان يكون قائدا عربيا كان يقول : قبل 1970 كانت هناك قطعية شبه تامة بيننا وبين العرب الاخرين ورغم اننا كنا نقول ان القضية هي قضية العرب فاننا لم نكن نعطي العرب فرصة المشاركة فيها. وكان بعض زملائي يشجبون دولا اخرى بطريقة غاية في التعصب، بينما كنت اؤمن بقوة بانه يتحتم علينا تشجيع العرب الاخرين ليلعبوا دورهم لا ان نكون معرقلين للجهد العربي المشترك. فمهما تكن الخلافات بين الانظمة، فالعرب انما يواجهون خطرا مشتركا”.[43]

لذا على الشعب ان يكون دائم التأهب وبالتالي يجب ألا ان يبقى احد بمعزل عن التعاطي بالشأن العام.[44]

“ولم يكتف الاسد بالمناداة بفتح الحزب امام اعضاء جدد وباستقطاب حلفاء سياسيين، بل كان يريد ايضا ايجاد الوسائل الكفيلة بضم افراد الشعب الى الجهاز السياسي” .

اذا شعار الوطن في خطر يفترض اقامة عدو وهمي ” فالتوهم الاكثر فعالية في الحملة الدعائية النازية كان ابتداعها وجود مؤامرة يهودية عالمية”. [45]

وان اعادة تسييس الجماهير اذا لا تتم الا من خلال تسليط الضوء على عدو وهمي يهدد كيان الوطن بأسره، لذا اعتبر الناس انه من الامان ان ينتسبوا الى تنظيم شبه عسكري. إنَّ نهج التوتاليتارية الهادف الى إبادة عدو الوطن لا يعمل تماما الا حين تستلم الحركات السلطة وتسيطر على الحكم داخل البلاد فالدعاية النازية مثلا وبالنسبة لقادة الحزب كانت اولى الامم التي إتضحت لها لعبة اليهودي وهاجمته لتحتل مكانته في سيادة العالم. اذاً الايهام بوجود مؤامرة يهودية شكل القاعدة التي قام على اساسها مشروع السيطرة الالمانية على العالم. [46]

ان من اهم دعاوات الحركات التوتاليتارية هو العالم الوهمي التي تؤسسه على وجود عدو يهدد الامه وانصهار الجماهير وانخراطهم بالشأن العام اذ يصبح على عاتق كل منهم واجب انقاذ الوطن وفي اللحظة التي تسقط فيها الحركة التوتاليتارية يسقط فيها العالم الوهمي الذي جمع الجماهير ليعودوا افراداً معزولين بانتظار وهم جديد.[47]

2– الارهاب وقيادة الحزب:

ممارسة الارهاب واعمال العنف تمنح الامان والحماية لاعضاء الحزب فيبدو لهم العنف المنظم وسيلة بوجه العالم الخارجي. فالجرائم التي ارتكبها النازيين كانت تتم على العلن فمفهوم الدولة حسب هتلر لم تكن سوى وسيلة لانقاذ العرق.[48] لذا كانت ارادة الفرهرر بمثابة القانون الذي ينظم الدولة[49] وتكمن مهمته الاساسية في الدفاع ورد العدوان عن القائد من قبل العالم الخارجي وبنفس الوقت يشكِّل الجسر الذي يربط العالم الخارجي بالحزب. الوسيلة الاهم التي يستخدمها القائد هي العنف المبرر من خلال الدعاية السياسية، اذ يجب ان يتمتع بالقدرة على خداع الراي العام0 ” في ربيع عام 1980 انفجرت القاعدة الوطنية في سوريا في وجه الرئيس الاسد على اثر الحوادث الارهابية فألقى بنفسه في المعمعة وبدا وكأنه يخلِّص نفسه من العزوف عن الاتصال بالجمهور فقد ظهر الاسد كخطيب مسرحي في غضبه وتحديه، قادر على إلهاب حماسة مستمعيه ليلة بعد اخرى. ففي 8 اذار عام 1980 في الذكرى السابعة عشرة للثورة اعلن الاسد إيمانه بالاسلام إعلاناً طناناً كان واضحاً انه يأمل منه ان يرتدي عباءة خصومه : فقال : “نعم ! انني اؤمن بالله وبرسالة الاسلام، لقد كنت ولا ازال وسأبقى مسلما، تماما مثلما ستبقى سوريا قلعة شمّاء ترفع رآية الاسلام عالياً ! ولكن اعداء الاسلام المتاجرين بالدين سوف يكنسون بعيداً.” [50] وعلى غير عادته في السابق وجه للأمة خطباً رنّانة أخرى في 11 و 17 و 22 و 23 و 24 اذار مارس، وغيرها كذلك في نيسان امام تجمعات ملتهبة في المنظمات الشعبية المختلفة من عمال وفلاحين وحرفيين وشبيبة ونساء ومعلمين وكتّاب وطلبة ورياضيين ودعا الى استخدام ” العنف الثوري المسلح” ضد العنف الرجعي المسلح فصفّقت له ألوف من الشبيبة والنساء وهتفوا لتحيته وقوفاً”. [51]

3-التوتاليتارية في السلطة

إن الصراع من اجل السيطرة التامة على كل شعوب الارض وازالة كل واقع غير توتاليتاري يلازمان وجود المنظمات التوتاليتارية فهذه الحركات تضع حكم الكون غاية نهائية لها، لئلا تفقد السلطة التي جهدت لامتلاكها، كما ان الفرد المعزول عن العمل السياسي لا يمكن السيطرة عليه الا من خلال نظام شامل يحتويه ويمد سيطرته على الكون ككل. [52]

سعي الحركات التوتاليتارية الى السلطة يفترض أمران:

  • نقل مركز السلطة الفعلي الى الحزب المسيطر او تفريغ الدولة من مركز القرار الفعلي Déplacement du pouvoir .

  • الشرطة السرية (المخابرات) La police politique

إن المنهج الاساسي الذي من خلاله تعمل الحركات التوتاليتارية هو انتزاع مركز القرار من السلطة القائمة لتصبح بيد الحزب الحاكم حيث يتم إقامة قيادة عامة.  (فالصراع البعثي – القومي السوري تحوّل الى عنف عندما اغتيل العقيد البعثي البارز عدنان المالكي في نيسان / أبريل 1955 خلال مباراة لكرة القدم على يد رقيب علوي في الشرطة العسكرية هو يوسف عبد الرحيم الذي اغتيل هو نفسه على الفور على يد علوي آخر وسرعان ما تبين ان قاتل المالكي هو عضو في الحزب القومي السوري وقد أتاح ارتباط القاتل بالحزب للبعثيين والشيوعيين شنّ حملة ضد الحزب القومي السوري وتحطيمه في موجة من الاعتقالات والمحاكمات بتهمة الخيانة وكانت المطاردات شاملة وعنيفة الى درجة ان كثيراً من العلويين البارزين ومعظمهم ممن لم تكن لهم علاقة بالحزب القومي السوري،  وجدوا ان من الحكمة الهرب الى لبنان للتخلص من القمع وكان من بينهم الشاعر – السياسي بدوي الجبل،  أول علوي يحتل منصباً في وزارة سوريا، وأدت حملة التطهير هذه الى ترجيح الميزان لصالح ضباط البعث بشكل حاسم، وقد احيطت ظروف مقتل المالكي فيما بعد بشكوك كثيرة، فقد سرت اشاعات تقول ان المخابرات المصرية، التي كانت تعمل من خلال آمر الشرطة العسكرية آنذاك أكرم الديري، هي التي رتّبت عملية الاغتيال في سبيل إيجاد مبرر لتحطيم الحزب القومي السوري، وكان لاغتيال المالكي نتائج حاسمة في تاريخ سوريا الحديث،  فبعد إزاحة خصمه الرئيسي وجد حزب البعث نفسه اكبر قوة في القوات المسلحة.[53]  ثم ما لبث هذا التحالف بين البعثيين والناصريين والشيوعيين ان تحول الى صراع بعد ان انفصلت سوريا عن مصر سنة 1961 واحتدم هذا الصراع عام 1963 إثر الاطاحة بنظام القدسي وكان انتصار البعث في هذا العام في كل من دمشق وبغداد يهدد بأن يحشر عبد الناصر بين المطرقة والسندان كما قال الاسد، ويتابع الرئيس : فإذا اتحدت دمشق وبغداد فإن نفوذ عبد الناصر سينحسر عن آسيا العربية وهو امر سيء بالنسبة لزعيم فرض سلطانه على امتداد العالم العربي واعترف بذلك أعداؤه قبل أصدقائه ، وبالنسبة للبعث كان الرهان عاليا،ً فبعد عشرين عاماً من النضال السياسي اتيحت له فرصة الحكم، ولذلك فقد قدر لعبد الناصر والبعث ان يكونا خصمين، وكانت الوحشية الكامنة تحت علاقاتهما – بادئ بدء – مقنَّعة ومغلَّفة بالتظاهر. فعلى السطح كانا مشتركين في فلسفة قومية كما كانا منتمين الى الوطن العربي المتحرر على عكس الملوك والامراء الذين كانا يعتبرانهم مقيدين بالاستعمار تقيداً لا أمل منه، واشتركا معاً بقواهما للإطاحة بالانفصاليين في دمشق والاقليميين في بغداد.[54]

ويتابع الرئيس الاسد ليقول: كان عبد الناصر يكنُّ لقادة البعث نفوراً شخصياً قوياً وهي مشاعر كانت متبادلة بوفرة.  كان يسخطه إدعاؤهم بأنهم كانوا رواد الافكار القومية العربية التي احتضنها وسمّاها هو فيما بعد وكان يكره تذكيره بأن البعث قد لعب في منتصف الخمسينات دوراً كبيراً في اقناع مصر بأن تتبنى العروبة سياسة رسمية لها لقد كان معتاداً على الاستخفاف بعفلق والبيطار باعتبارهما منظرين سياسيين لا تأثير لهما ولكن نجاح الحزب في العراق وسوريا أرغمه على ان ينظر اليهم بجدية اكثر باعتبارهم المقاومة الرئيسية المنظمة لهيمنة الشخصية ولذلك ارتأى ضرورة تحطيمهم.[55]

كانت القوة الناصرية تقوم على بضع عشرات من الضباط وثلاثة تجمعات سياسية مدنية كان اهمها حركة القوميين العرب.[56]وهي حزب قومي عربي يعتقد بأنه لا غنى عن زعامة عبد الناصر وقد كبر الحزب بسرعة فائقة خلال الاشهر الثمانية عشر السابقة لدرجة انه تمكن في عام 1963 من جلب أعداد كبيرة من مناضليه الشباب الى الشوارع وكانت هذه الحركة اخطر منافسي البعث في سوريا والعراق وفي معظم الاقطار العربية ،  إذ أنها كانت تنظم في صفوفها بصورة رئيسية السنيّين من يمين الوسط ذوي المنحى القومي وجد الاسد ورفاقه في أعمال الاهتياج التي عمد اليها مؤيدو عبد الناصر نذير خطر فقاموا بعمل ما يمكن ان يوصف بأنه انقلاب آخر ما بين 28 نيسان و 2 أيار 1963 قاموا بتسريح اكثر من خمسين من الضباط الموالين لمصر، مما حدا بالناصريين البارزين وزير الدفاع محمد الصوفي ونائب رئيس الاركان راشد القطيني على الاستقالة من مجلس قيادة الثورة احتجاجاً على ذلك ولحق بهما خمسة وزراء ناصريين ومن ثم نظم الناصريون اضطرابات واسعة النطاق في دمشق وحلب يومي 8 و 9 ايار

وهنا طلبت اللجنة العسكرية من وزير الداخلية امين الحافظ ان يقمع الاضطرابات ويعيد النظام فكان ان قتل خمسون شخصاً بالرصاص واغلقت مكاتب حركة القوميين العرب واغلقت جريدتهم فهرب بعض أعضائها وألقي القبض على الاخرين وحكموا بالسجن لمدة طويلة وتم تطهير القطاعات العامة من الموالين لعبد الناصر وحل محلهم بعثيون .

وكانت الأحاديث التي دارت في دمشق هي ان أمين الحافظ قد تعلم اساليب القمع البوليسي خلال فترة وجوده في الارجنتين.  وعندما تحرك البعث العراقي ايضاً ضد الناصريين لم يبق لدى أي أحد شك في أن برنامج الحزب في سوريا والعراق هو الامساك بالسلطة دونما شريك وأصبح أي تفاهم مع عبد الناصر غير وارد ابداً وأضحت المسألة بالنسبة للبعثيين هي ان يكونوا إما قاتلين او مقتولين.

وفي 18 تموز 1963 قام الناصريون بقيادة جاسم علوان وبدعم من حركة القوميين العرب والمخابرات المصرية بهجوم في وضح النهار على محطة إذاعة دمشق ومبنى الاركان العامة. فخرج أمين الحافظ ليقود عملية الدفاع مما أدى الى قتل وجرح المئات وكثير منهم أبرياء وقعوا بين نيران المشتبكين وذلك قبل وصول دبابات البعثيين وعناصر الحرس القومي وسيطرتها على الموقف وتمكن علوان من الافلات وخلال ساعات مَثُل سبعة وعشرون ضابطاً امام محاكم عسكرية وأعدموا على الفور في نفس الزمان والمكان وكان ذلك خروجاً عن عرف يقضي بنفي الخاسرين الى سفارات في الخارج وفي 22 تموز هاجم عبد الناصر البعثيين السوريين ووصفهم بأنهم فاسقون وقتلة وأعلن رسمياً انسحابه من اتفاقية 17 نيسان القاضية بإقامة الوحدة الثلاثية وكان  الافتراق النهائي.

هل كانت اللجنة العسكرية التي قامت بانقلاب 63 تتنبأ بأن الامور ستصل الى هذا الذي وصلت اليه؟  ان نهاية العلاقة مع عبد الناصر جاءت معمدة ببحر من الدماء،  إذ يبدو ان السلطة لا يمكن الحفاظ عليها الا لقاء مذبحة لم تعرف سوريا لها مثيلاً منذ الكفاح ضد الفرنسيين.  وخلال إقامتهم في مصر كان أعضاء اللجنة الخمسة يصفون انفسهم بأنهم وحدويون متحمسون وكان الهدف المعلن للجنتهم بل مبرر وجودها هو الدفاع عن الوحدة ومع ذلك فإنهم عندما جوبهوا بالخيار بين احياء الوحدة وبين احتفاظهم بالسلطة لم يترددوا في الاخذ بالخيار الثاني.[57]

والمهم ان حزب البعث قد أًصبح الحزب الحاكم من دون منازع في سوريا ، إذاً ان انتزاع مركز القرار من السلطة القائمة لتصبح بيد الحزب الحاكم هو المنهج الذي تعمل من خلاله الحركات التوتاليتارية ويتم إقامة قيادة عامة. فتصبح العلاقة بين مصدري السلطة “الدولة والحزب ذات وجهين علاقة ظاهرة وعلاقة واقعية إذ لا يعود الجهاز الحكومي سوى واجهة تتوارى خلفها السلطة الواقعية التي يمارسها الحزب.[58]

ففي سوريا بعد انقلاب 63 وسيطرة اللجنة العسكرية أصيب العقيد أمين الحافظ بذهول حينما وجد نفسه يُرقّى الى رتبة فريق ويعهد اليه بمنصب وزير الداخلية بالرغم من انه لم تكن له اية علاقة بالحزب ولا باللجنة العسكرية .  كانت اللجنة تريده ان يكون الواجهة لها وتبقى هي التي تحرك الخيوط من ورائه.[59]

وبعد ان انهت اللجنة العسكرية الناصريين كان هدفها التالي والاكثر سهولة هو مجموعة الضباط المستقلين الملتفين حول اللواء زياد الحريري الذي كان قد صار وزيراً للدفاع ورئيساً للاركان كذلك وعندما غادر الحريري القطر في 23 حزيران / يونيو 1963 على رأس وفد الى الجزائر استغلت اللجنة العسكرية غيابه لتقوم بتطهير ونقل خمسة وعشرين من أهم مؤيديه وعرضت على الحريري نفسه كمكافأة ترضية وظيفة ملحق عسكري في واشنطن ولكنه اختار التخلي عن السياسة والتقاعد في المنفى بباريس.[60]

وجلب خروج الحريري مزيداً من المناصب والمسؤوليات لأمين الحافظ،  فأصبح وزيراً للدفاع الى جانب منصبه كوزير للداخلية وكذلك نائباً للحاكم العسكري ورئيساً للاركان بالوكالة وفي الوقت نفسه ولإيجاد حماية ضد أية اضطرابات في الشوارع،  انشأ البعث السوري الحرس القومي وهو تنظيم شبه عسكري في 30 حزيران على غرار الحرس القومي الذي كان ميليشيا للحزب في العراق، وأوكلت قيادته الى حمد عبيد، عضو اللجنة العسكرية.[61]

إلا ان هذه المناورات الوحشية كانت بالتأكيد اكثر مما يطيقة آخر الباقين المستقلين في مركز السلطة اللواء المهذب لؤى الاتاسي رئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة.  ولما كانت اللجنة العسكرية حريصة على إبقاء نفسها خارج دائرة الضوء وتتجنّب ان تظهر للسوريين من هم حكامهم الحقيقيون، فقد الحّت عليه أن يبقى إلا انه أصرّ على الاستقالة وهنا اختارت اللجنة العسكرية ان ترفّع من جديد امين الحافظ – المغرق بالمناصب – كي يشغل المناصب الجديدة التي شغرت وان تضمه الى اللجنة التي كانت هي مركز القيادة الحقيقي للسياسة السورية ويستذكر الاسد قائلاً:  “لقد قمنا بتنظيمه في ذلك الوقت على ان ينضم الى لجنتنا ليس لانه كان مهماً، ولكن لان قائد الجيش يجب ان يكون حاضراً عندما نناقش الامور العسكرية.”[62]

إذاً هناك فروق هامة تتعلق بطبيعة الحزب والحكومة فبالنسبة للجنة العسكرية التي مسكت الحزب كان الرئيس امين الحافظ رجلاً من قش بدون قاعدة سياسية او خلفية حزبية فقد كانوا يمسكون بلجامه من خلف الكواليس حتى ان الاسد ذكر بأن أمين الحافظ “لم يكن يستطيع نقل جندي واحد بدون موافقتنا”[63].

ففي الدولة التوتاليتارية حسب حنا آرنت الجهاز الحكومي ليس سوى واجهة تتوارى خلفها السلطة الحقيقية وكل موظف إداري رئيسي كان يرافقه او يراقبه عضو من الحزب وبهذا ضمن النازيون سيطرتهم على الدولة.  والادارة لا تكف عن تنقيل مركز السلطة الفعلي من تنظيم الى آخر.

إن مبدأ السلطة يتعارض مع مبدأ التسلط التوتاليتاري لذا فإن ما يميّز النظام التوتاليتاري هو غياب كل سلطة او تراتبية من شأنها ان ترسم شكل الحكم وهذا يظهر واضحاً من خلال غياب المستويات الوسيطة بين النفوذ الاعلى الفوهرر والمحكومين[64] وهذا ما يفسر تعدد الاجهزة والغموض الذي يكتنف مصدر السلطة الناتج عن كون كل مواطن بات يشعر بنفسه في مواجهة مع القائد الذي يكلفه بتنفيذ الاوامر لذا فإن التبعية المباشرة امر واقع في النظام التوتاليتاري.  مبدأ الفردنة او التذري Atomisation هو من مميزات النظام التوتاليتاري فلا يجب ان تنتمي قيادة الحركة الى فئة او زمرة معينة.  فدكتاتورية هتلر وكذلك ستالين رأت أن عزل الافراد المتذرين لا يشكل قاعدة للحكم التوتاليتاري على مستوى الجماهير فقط بل ايضاً يمتد حتى قمة الحكم.[65] ستالين أعدم من كان يتبجج بانتمائه الى الحكم هتلر كان يلجأ للتطهير بغياب التضامن بين من هم في السلطة كان واضحاً فالمهم ألا يكون هناك علاقات متبادلة بين الحكام انفسهم[66].

من الواضح إذاً ان الانظمة التوتاليتارية لا تؤمن احتكار مطلق للسلطة فحسب بل تفرض خضوعاً أعمى في تنفيذ الاوامر.

ففي سوريا رأى الاسد نفسه وصياً على مؤسسات سوريا وحكماً بين المصالح المتنافسة وكان يقول “أنا رئيس البلد وليس الحكومة”  وكان يقول إن سوريا تحكمها قيادة جماعية وإن كبار ضباطه وزملائه الحزبيين ووزرائه يرجعون اليه فقط كما يمكن ان يستشيروا أخاهم الاكبر ، وهنا نسجل موقف شبيه لـ هتلر الذي كان مدركاً للصلة المتبادلة القائمة بين الجماهير والقائد والقائمة على إلغاء المسافة بين الحاكمين والمحكومين كوسيلة للسيطرة على الكائنات البشرية وإرهابها من الداخل حيث أعلن في خطاب له موجه الى رجال الشرطة الالمانية قائلاً:  “كل ما انتم عليه،  تكونونه عبري، وكل ما أنا عليه،  أكونه من خلالكم فحسب”[67] ولكن هذه الفكرة كانت تطرح مسبقاً، وعلى الدوام،  انه وجود شخص في مركز القيادة، أعطي فكراً وإرادة، فيفرضهما على فريق يكون محروماً متهماً، وذلك بالاقناع، والسلطة او العنف.  مع ذلك فقد اعتبر هتلر ان “الفكر نفسه (لا يوجد)  إلا بموجب اوامر نعطيها أو نتلقاها”[68].  إذاً آثر هتلر ان يزيل التمييز،  حتى في المستوى النظري، بين الفكر والعمل،  كما بين الحاكمين والمحكومين.

أما الرئيس الاسد سلطته كانت من الاتساع وسيطرته على التفاصيل كانت من الاحكام بحيث إنه كان بلا شك صانع القرار النهائي في كل الامور صغيرها وكبيرها[69]، وكان من المعروف عنه انه لا ينسى ولا يغفر الغدر او العصيان[70] ولسبب وجيه صار الناس في الغالب خائفين من الخطأ ولم يعودوا يجرؤون على أخذ زمام المبادرة وكان من نتيجة ذلك ان طاولة الاسد راحت تئن من وطأة ثقل القضايا التافهة التي تراكمت عليها وهو يتذمر أحياناً: “ليس هذا عمل الرئيس”  ومع ذلك ففي مثل هذا النظام الشخصي، قد تكون هناك حاجة الى الحكم منه لحسم قضايا صغيرة تماماً فمثلاً: كتب طالبان في كلية الطب كتاباً،  وأمنا كلمة تقديم له بقلم طبيب بارز ثم دفعاه الى المطبعة – ولكن دون ان يحصلا اولاً على موافقة الهيئة التدريسية في كلية الطب بالجامعة كما تقضي بذلك التعليمات.  فأراد عميد الكلية ان يفصلهما، وأراد وزير التعليم العالي ان يؤجل امتحانهما النهائي سنة، وتطلب الامر تدخل الرئيس لحل هذا الاشكال[71]، وكانت أداته المفضلة في الحكم هي الهاتف.  في السبعينات كان يحكم عن طريق ترؤس الاجتماعات، ومصالحة الآراء المتعارضة، وبالتواجد جسدياً في مركز الاشياء أما في الثمانينات فقد أصبح بالنسبة لمعظم الناس صوتاً على الهاتف بلا جسد، واصبح حضوره الاجتماعات نادراً جداً ولكن موظفيه يعُون دائماً انه يراقب وسيلتقط سماعة الهاتف إذا كان اداؤهم قاصراً وبدا انه يقضي أفضل جزء من يومه على الهاتف، غير ان الاتصالات الهاتفية تبدأ منه دائماً وليس هناك سوى حفنة من الاشخاص،  ربما لا يزيدون  على ثلاثة او أربعة من مسؤولي الامن لهم الحق في طلبه بالهاتف.  أما الآخرون بما فيهم حملة أعلى المناصب في البلد – فعليهم ان يقنعوا بإيصال الرسائل او تلقي التعليمات من خلال سكرتيره الخاص.  فرئيس الوزراء وأعلى القادة العسكريين والحزبيين ورؤساء مؤسسات الدولة يعيشون يقظين مستنفرين توقعاً لمكالمة هاتفية من المعلم.  فالرئيس يخبرهم بصراحة عندما يكون غير راضٍ عن عملهم وكانت طريقته الجازمة المقتضبة في هذه المكالمات تتناقض مع الاستطراد المتمهل في محادثاته مع الزوار الاجانب[72]، ولكن في الحقيقة أصبح الوصول الى الرئيس مقياساً لمدى النفوذ.  وصار هذا الوصول من أندر السلع التي يقيسها بعناية دقيقة وقد حافظ على التوتر بين مرؤوسيه من خلال جعل الوصول اليه والتحدث معه أقل أو أكثر صعوبة والظهور وكأنه يستمع الى احدهم باهتمام أكثر من استماعه لزملائه،  ومنح عطفه ورعايته لواحد منهم اولاً ثم لأخر ولم يعد وزراء الحكومة يرونه سوى مرتين خلال مدة خدمتهم:  مرة عندما يقسمون اليمين ومرة عند مغادرة المنصب وظهرت هوة كبيرة جداً فصلت الاسد على قمة النظام عن الرجل التالي له والذي راح يغيره من حين لآخر،  وهوة اخرى ولكنها أصغر تفصل بين الشخص المقرب منه في وقت ما وبين بقية المجموعة الحاكمة[73]

من الواضح تماماً انه كان نظاماً شخصانياً يفتقد الى التسلسل الهرمي في أجهزة الحكم ذو احتكار مطلق للسلطة وخضوع أعمى في تنفيذ الاوامر ولاستمرار الاحتكار مورست سياسة عزل الافراد والمسؤولين.

4– الشرطة السرية والحزب
تقولHannah Arendt  ان التوتاليتارية وريثة تعدد الاحزاب تعمل على إزالة جميع الاحزاب القائمة والابقاء على حزب واحد الذي يمارس السلطة الفعلية في الحكم.  كما ان هدف الانظمة ذات الحزب الواحد لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب بل يتعداه الى استكمال التمثّل او التشابه التام ما بين الدولة والحزب، فبعد استلام السلطة يصبح الحزب نوع من هيئة تهتم بإطلاق الدعاية للحكم.

(وفي سوريا لإعداد الدعاية للحكم استخدم الرئيس الاسد احمد اسكندر احمد وعينه وزيراً لاعلام الاسد من اول ايلول / سبتمبر عام 1974 حتى وفاته في غير اوانه بسرطان المخ في 29 كانون الاول عام 1983 وكان معروفاً باختراعه لطقوس عبادة الشخصية وكان واحداً من أطول الوزراء بقاءً في منصبه خلال رئاسة الاسد وأقربهم اليه وكان صحفياً علوياً موهوباً من حمص وقد لفت نظر الاسد خلال حرب تشرين عندما كان يصدر مرتين كل يوم صحيفة اخبار يكتب فيها افتتاحيات ترفع المعنويات.  وعندما ارتقى الى منصب وزير الاعلام قام بتنظيم وتنشيط اجهزة إعلام سوريا بتجميع الرجال السبعة المسؤولين عن الاعلام في فريق مترابط (وهم : مدراء الاذاعة والتلفزيون والصحف اليومية الثلاث: البعث، والثورة وتشرين ووكالة أنباء الدولة: سانا ومؤسسة الاعلان والتوزيع الصحفي) لزيادة تمجيد الاسد وكان مفتاح نجاحه هو قدرته على التقاط وتفهم اتجاه تفكير الاسد وتهيئة الرأي العام لتغيرات السياسة.  وفي فورة اتقاد الحماس السياسي العربي يكون وزراء الاعلام شديدي الاهمية، وكان احمد اسكندر بالنسبة للاسد يشبه الى حد كبير ما كان محمد حسنين هيكل بالنسبة لعبد الناصر.  أي وكيل النشر والاعلان وبوق الدعاية وصانع الصورة وكان الدليل على عبادة الشخصية هو تكرار الجميع لاسمه باستمرار،  وصوره الضخمة المعلقة في المباني البارزة ، وتماثيله العديدة التي أقيمت من أقصى البلد الى أقصاه كالتمثال البرونزي الثقيل الغارق في التفكير الجالس على مدخل مكتبة الاسد الجديدة التي افتتحت في دمشق عام 1985)[74].

إذاً فبعد استلام السلطة يصبح الحزب نوع من هيئة تهتم بإطلاق الدعاية للحكم وهو نسق كلي او شمولي بالمعنى السلبي للكلمة إذ لا يتسامح مع وجود حزب آخر أو معارضة وأية حرية للرأي العام[75].  وبهذا تصبح كل المراكز الحكومية بيد أعضاء الحزب.  لذا خلف واجهة الحكم الظاهري نجد نواة السلطة في الدولة بيد الشرطة السرية.

(ففي سوريا رأى الاسد ان يجعل الجيش وقفاً على البعث وحده،  فهذا هو الشرط الاساسي لإقامة حكم مستقر في بلد غير مستقر بالوراثة وحسبما رأى الاسد فإن الهدف كان خلق الجيش العقائدي على نقيض الجيش المتدخل في السياسة الذي عرفته سوريا في الماضي ولتحقيق ذلك انكبَّ على خلق جهاز حزبي من الخلايا والفرق والفروع داخل القوات المسلحة على غرار الحزب المدني[76](الشرطة السرية) وقد استدعت هذه المهمة ان يقوم بزيارات لجميع الوحدات في أرجاء البلاد).  وتضيف Arent بعد خلق الشرطة السرية يتم التركيز على الشرطة باعتبارها جهاز السلطة الاوحد وتجاهل دور الجيش وهذا ما يميّز الانظمة التوتاليتارية إذ تبرز النـزعة التوتاليتارية الى حكم العالم،  حتى لدى التعامل مع المتمردين وضحايا العدوان فإن الشرطة السرية هي التي تحكم الاراضي المحتلة وليس الجيش[77] (ويبرز في سوريا الحد من سلطة الجيش بعد استيلاء الاسد على السلطة وكان طبيعياً ان يعطي الاسد القوات المسلحة اهتماماً خاصاً فهي الاسس الداعمة لدولته .  فالبلد الذي كان يطمح لادارته لا يمكن ان يعيش تحت تهديد الانقلابات التي أصيبت بها سوريا زمناً طويلاً.  كان الاسد قد عمل – حتى قبل استلامه للسلطة – على تقوية قبضة الحزب من اجل بناء ما اسماه “الجيش العقائدي”، المثقف سياسياً والمتحرر من الطائفية.  أما  الآن (1971) فقد بدأ يطوِّر هذا الاتجاه اكثر، فتعزز احتكار البعث للعمل السياسي في القوات المسلحة ووضعت تحت سيطرة الجيش بأحكام كل القوات شبه النظامية كقوات الصاعقة الفلسطينية،  وتوسع الجيش نفسه الى درجة انه لم يعد بإمكان وحدة منه بمفردها ان تقوم بانقلاب. وأعطيت لضباطه امتيازات مالية وغير مالية، كما ان الاسد باعتباره قائداً عاماً احدث توازناً بين قادة الجيش المتنافسين،  ومدّ هذا التوازن ليشمل قيادات قوى الامن والمخابرات،  وظلّ وحده يمسك بكل الخيوط.)[78]

المهمة السياسية للشرطة السرية تكمن في الابقاء على الاعداء الموضوعيين لأحكام قبضة الحزب على الحكم من خلال الايديولوجيا التي يأخذ بها النظام التوتاليتاري. (وهذا ما رأيناه في سوريا مع خلق الجيش العقائدي وقد لجأ الاسد للقيام بهذه المهمة ومن اجل الاسترشاد العقائدي الى خصم عفلق القديم الفيلسوف زكي الارسوزي الذي ألهم الاسد خطاه السياسية الاولى عن طريق الدكتور وهيب الغانم.  وكان الارسوزي حينذاك متقاعداً منذ فترة طويلة،  إلا ان الاسد اخرجه من عزلته وراح يصحبه معه في جولاته على معسكرات الجيش وجعله يحاضر في الجنود ويلتقي بالضباط كما انه اعطى الاسد نفسه لمحات عقائدية كان لها اهميتها في تطوره في ذلك الوقت)[79].

إذاً لقد أُحكمت القبضة على الجيش من خلال الايديولوجيا، فالشرطة السرية تبدو دون فائدة بالنسبة للمراقبين الاجانب ان لم تدفعهم لتخيل وجود مقاومة سرية، مع الاخذ بعين الاعتبار ان التوتاليتارية كانت قد حددت أعداءها الايديولوجيين (اليهود) قبل الاستيلاء على السلطة.

على الشرطة السرية كمرحلة اولى اخراج الاعداء السريين (هذا ما يستدعي الغاء باقي الاحزاب والقضاء على حرية التعبير والمعارضة… ) ثم يقوم الحزب بمواكبة السكان جميعهم الذين سينتمون بدورهم الى اجهزة التجسّس الطواعية (الجار عدو اخطر من عملاء الدولة) وبهذا تتم ملاحقة العملاء وتصفية كل مقاومة، وبعد الانتهاء من الاعداء الواقعيين تشرع الى مطاردة الاعداء الموضوعيين والذين تم تحديدهم ايديولوجياً.[80]

إدخال مفهوم العدو الموضوعي هو امر حاسم بالنسبة للنظام التوتاليتاري[81] فمهاجمة اليهود والجرائم التي ارتكبت بحقهم لا تعني انهاء الخطر وعودة الحياة الى طبيعتها، على العكس فإن أعداء موضوعيين جدد يكشف عنهم وفق التبدلات (مخطط النازيين لم يقتصر على إبادة اليهود بل تضمّن ايضاً ترتيبات لتصفية الشعب البولوني، بالاضافة الى بعض الفئات الالمانية كمرضى القلب) ففكرة العدو الموضوعي تتراوح هويته بحسب الظروف ما ان تصفى فئة حتى تشن الدولة هجوم على فئة اخرى لذا فمفهوم العدو الموضوعي من الركائز الاساسية التي يعتمد عليها المنهج التوتاليتاري. وتضع أرندت العديد من الامثلة التي تظهر طرق تعامل الشرطة السرية في المجتمع سواء مع الاعداء او مع أبناء الدولة التي تعتبرهم عار على المجتمع وفي نفس الاطار تميز “أرندت” بين التوسع التوتاليتاري عن التوسع الامبريالي كون الاول لا يميز بين الوطن والبلد الاجنبي بل يعامل المواطن بنفس الطريقة كالاجنبي (نفس الرقابة…) .

كما تؤكد “ارندت” على ان تآمر التوتاليتارية ضد العالم غير التوتاليتاري يبقى مرسخاً في أذهان المتعاملين معهم بحجة ان العالم كله متآمر ضدّ بلادهم[82]

5- السيطرة الكلية
تفيد الانظمة التوتاليتارية من معسكرات الاعتقال والابادة باعتبارها مختبرات يُثبت فيها معتقد التوتاليتارية – في أن كل شيء هو ممكن. إن السيطرة الكلية، التي تجهد في تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم اللانهائيين، وكأنما البشرية كلها مؤلفة من كائن واحد وهذا لن يتحقق إلا في حال تقلص جميع الناس الى هوية ثابتة من ردود الفعل.  هكذا يتسنى لكل مجموع من مجاميع ردود الفعل هذه ان يُستبدل بأي مجموع آخر.  أما المسألة فتكمن في ان يصطنع شيء ليس موجوداً،  مما يعني ان يصنع نوع بشري يشبه الانواع الحيوانية الاخرى والتي تقضي حريته الوحيدة في الحفاظ على نوعه. ومن الثابت ان السيطرة التوتاليتارية تسعى الى بلوغ هذا الهدف عبر طريقتين في آن معاً:

الطريقة الاولى اعداد النخبة اعداداً ايديولوجياً، والطريقة الثانية هي ممارسة الارهاب في المعسكرات لتدمير الانسان والقضاء على عفويته وحريته بهدف الوصول الى مجموعة من الكائنات لا تختلف عن بعضها بل تكون نموذج لكائن بشري واحد. وتصبح الجرائم التطبيق العملي للتلقين الايديولوجي للنخبة فتكون معسكرات الاعتقالات الاثبات النظري للايديولوجيا المعتمدة[83].

(ففي سوريا ، مثلاً على أثر الازمة الداخلية مع الاخوان المسلمين وجهت ضربات عقابية دامية بشكل خاص على اعمال إرهابية اخرى في حلب في آب عام 1980 وضد حماه في شهر نيسان الذي تلاه عندما تم جمع عشرات من الذكور الذين تجاوزوا الرابعة عشرة من اعمارهم بشكل  عشوائي، ثم اطلقت النار عليهم في مكانهم على الفور[84]. وانتشرت حملة إسكات المعارضين خارج الحدود.  فأغارت قوات كوماندوس سورية على معسكر تدريب للاخوان المسلمين في الاردن في أواخر تموز سنة 1980، وتم قتل الصحفيين اللبنانيين المعادين فقتل سليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث في آذار وقتل رياض طه نقيب الصحفيين في بيروت في تموز وفي آذار/مارس من العام التالي (1981) وصل المغتالون في الميدان بعيداً… الى آخن، بحثاً عن مرشد الاخوان المسلمين: عصام العطار، فقتلوا زوجته،  بيان الطنطاوي، عندما فتحت الباب الامامي ولكن الاغتيال الذي سبّب أعظم القلق والبلبلة كان اغتيال الزعيم البعثي القديم صلاح الدين البيطار في باريس في 21 تموز 1980 ولم يثبت انه كانت هناك اصابع سورية وراء عمليات القتل هذه… ولكن الشك فيها كان واسع الانتشار بين الناس[85]. لقد كان البيطار شريكاً لميشيل عفلق في تأسيس الحزب وكان من رعيل البعثيين المدنيين الذين أطاح بهم انقلاب اللجنة العسكرية في عام 1966 وقد حكم عليه بالموت غيابياً عام 1969 وقد عفا عنه الاسد في عام 1970 وعاد الى سوريا لفترة قصيرة في محاولة لاجراء مصالحة. ولا شك في أن الاسد كان يأمل ان يستقر البيطار في دمشق كثقل مضاد لعفلق في بغداد غير ان خمس ساعات من المحادثات في كانون الثاني سنة 1978 فشلت في رأب الصدع بينهما.  فعاد البيطار الى منفاه في باريس حيث راح يطبع مجلة دورية بمساعدة بعض المال من الخليج واطلق عليها اسم “الاحياء العربي” وكان ذلك صدى للاسم الذي اطلقه مع عفلق على الحلقة الصغيرة من اتباعهما ومريديهما في الاربعينات ، وشنََّ في اعمدتها حملات للمطالبة بالحريات الديمقراطية والحقوق الانسانية في سوريا. فقد نشر في شهر شباط 1980 مثلاً مطالبة نقابة المحامين السوريين بإعادة حكم القانون. وألحّ بشكل جارح على قاعدة النظام الطائفية – أي العلوية – وكان ذلك جريمة في نظر دمشق.  وقد اشيع انه كان يضغط على السعوديين ليقطعوا المعونة عن سوريا.  والاسوأ من ذلك ما قيل من ان البيطار قد اتصل بأعداء الاسد في بغداد، وبأكرم الحوراني، وبالفريق أمين الحافظ العسكري الذي عمل كواجهة للجنة العسكرية حتى عام 1966 وبحمود الشوفي، السفير السوري السابق في الامم المتحدة والذي انفصل عن النظام في عام 1979، وبغيرهم من اصحاب الاسماء ذات الماضي والتي كان بريقها يخبو وبذلك اصبح نقطة جذب لانواع مختلفة من المعارضة السورية، وقد بدا في إحدى اللحظات ان البيطار يمكن ان يشكل خطراً حقيقياً، وان شيئاً من مثل هذه المخاوف قد أسهم في اتخاذ قرار بوضع نهاية له. وبعد موته نقلت زوجته، ملَك، جثمانه ليدفن في بغداد حيث بحثت عن ملجأ وسط أعداء الاسد الالدّاء.[86]

وربما لم يكن الرجال من أمثال البيطار ليشكلوا خطراً على الاسد ولكن انتقاداتهم كانت تمسُّ عصباً حساساً إذ كانت تنصب على منطقة بدا فيها الاسد وكأنه ابتعد عن النهج القومي العربي الصحيح.  فالبيطار وامثاله كانوا يتهمون الاسد بالازدواجية إزاء خطط السلام الاميركية، ألم يتفاوض حول فك الاشتباك في الجولان مع كيسنجر؟ ألم يكن ذلك في آخر الامر هو الانفتاح الذي سمح السادات بموجبه لنفسه بان يقيم سلامه المنفرد؟ وكيف يمكن للاسد ان يدعي مناصرة القضية الفلسطينية بينما هو يسحق منظمة التحرير الفلسطينية؟ ألم يكن “جيشه المحتل” في لبنان ينفذ اتفاقية صامتة مع اسرائيل لاقتسام لبنان بينهما ؟ الا يتحمل الاسد بعض المسؤولية في التنافر مع مصر وانهيار الانفراج مع العراق ؟ وكانت هذه بالضبط هي الاتهامات التي يوجهها في العادة جميع اولئك الذين لم يفهموا سياسات الاسد.[87]

ومن التطبيق العملي للتلقين الايديولوجي للنخبة تنتقل آرنت لاظهار فظاعة ما تم تحقيقه من خلال معسكرات الاعتقال الاثبات النظري للإيديولوجيا المعتمدة.

لم تكن معسكرات الاعتقال قد وقفت على إبادة الناس واذلال الكائنات البشرية فحسب، بل انها افادت ايضا في الاختبار الرهيب الذي يقضي بإلغاء العفويّة نفسها، في ظروف مراقبة علمياً، باعتبارها التعبير عن المسلك البشري وتحويل الشخصية البشرية الى محض شيء ، فالمعسكرات هذه ليست المجتمع التوتاليتاري الاكثر تحققا فحسب بل انها المثال الاجتماعي النموذجي عن السيطرة الكلية بعامة.[88]

ومثلما يتوقف استقرار النظام التوتاليتاري على الانعزال الذي يلقاه عالم الحركة المتوهم ازاء العالم الخارجي، هكذا فإن اختبار السيطرة الكلية الذي يُجرى في معسكرات الاعتقال يتوقف على إخراج هذه الاخيرة من عالم الآخرين ما عداها، ومن عالم الأحياء بعامة وحتى من العالم الخارجي المتشكّل في بلد تسوده التوتاليتارية نفسها.

والحال ان ما يشكّل اعظم العقبات في فهم السيطرة التوتاليتارية فهما ًحقّاً والتي تتوقف ديمومتها او سقوطها على وجود معسكرات الاعتقال والابادة، وأياً بدا الاستخلاص عصيا على التصديق، فان المعسكرات هي المؤسسة المركزية الحقة التي انشأتها السلطة التوتاليتارية بغاية التنظيم.[89]

إن الجماهير البشرية المحتجزة فيها تعامل وكأنها لم تكن موجودة، وكأن ما يحدث لها لا يهم احداً وكأن موتها قد خُتِم عليه للتو وكأن روحاً شريرة أخذ بها الجنون راحت تلهو بها متقاذفة إياها ما بين الحياة والموت قبل ان تستودعها السلام الابدي.[90] فلا شيء يمكن مقارنته بالحياة في معسكرات الاعتقال. اما فظاعتها فلا يسعنا مطلقا ان نعيها وعياً كاملا بمخيلتنا بسبب انها تقوم خارج الحياة والموت.[91] وما يصدم ليس المبدأ العدمي القائل ان كل شيء مسموح الذي كان سائدا منذ القرن التاسع عشر وانما ما لا يقبله العقل هو المبدأ الذي حاولت التوتاليتارية فرضه وهو “ان كل شيء ممكن”.[92]

وتحدد “آرنت” الخطوات للوصول الى السيطرة التوتاليتارية بثلاث:

– قتل الشخص القانوني للانسان

– قتل الشخص الاخلاقي للانسان

– تدمير الفردانية

إن اول خطوة جوهرية للوصول الى السيطرة التوتاليتارية تقضي بقتل الشخص القانوني للانسان، لذا شرعت السلطات بطرح بعض الفئات خارج حماية القانون وفرضت على العالم غير التوتاليتاري على الاقرار بهم خارجين على القانون من خلال تجريدهم من جنسياتهم[93]. إن القضاء على حقوق الانسان وخنق الشخص القانوني فيه، هما شرطان ضروريان لاستكمال السيطرة الكلية وكذلك فإن مفهوم نفع الامة وعدم الخروج عن المخطط الحزبي كانا ضمانة استمرار المعسكرات واستمرار الغاء حقوق الانسان.[94]

أما الخطوة الثانية تكمن في اغتيال الشخص الاخلاقي في الانسان وذلك من خلال النسيان فلا يعود ثمة شهود على الجرائم إذ ان الشهادة مستحيلة فالحزن والتذكر ممنوعان حتى من قبل أفراد العائلة والاصدقاء على ان هذا الهجوم ضد الشخص الاخلاقي كان يمكن ان يصطدم بعد بمعارضة الانسان الذي ما زال ضميره يؤثِرُ له ان يموت ضحية من ان يحيا بيروقراطياً للاغتيال والموت وقد بلغ الارهاب التوتاليتاري انتصاره الاسمى والرهيب إذ نجح في حرمان الشخص الاخلاقي من المخرج الفرداني وفي جعل قرارات الضمير غاية في الاشكالية والالتباس وحين يكون أمروء في مواجهة المبادرة الى خيانة اصدقائه وقتلهم فأي قرار يتّخذ؟  ذلك ان المبادرة الآنفة لا تقع بين الخير والشر إنما تكمن فيما بين الاغتيال والاغتيال[95]. فإما ان يبعث هؤلاء بأصدقائهم الى الموت، أو يشاركون في اغتيال رجال آخرين يكونون لهم غرباء وفي كل الحالات كانوا يجبرون على سلوك سبيل الاغتيال[96] كما جعلت معسكرات الاعتقال الموت نفسه مجهول الهوية (بأن تصرفت على النحو الذي يستحيل معه معرفة ما إذا كان السجين ميتاً ام حياً)  فإنها جردته من دلالته، أي من كونه ختام حياة مكتملة وبمعنى آخر فقد شرعت هذه المعسكرات في تجريد الفرد من موته الخاص،  مثبِّتة بذلك انه لا يملك شيئاً وانه لا ينتمي الى أحد. حينذاك لا يقوى موته سوى على إثبات انه لم يكن قد وجد على الاطلاق.[97]

وتبقى الخطوة الاهم وهي تدمير الفردانية فبعد ان يُقتل الشخص الاخلاقي حتى لا يعود قائماً سوى عقبة وحيدة في سبيل تحوّل الناس الى جثث حية:  الاختلافات بين الافراد،  هوية كل امرئ الفريدة. وإلغاء هذه الاختلافات يتم من خلال معسكرات التعذيب والاعتقالات لذا يبرز التعذيب كالسمة الاساسية التي تميز جهاز الشرطة والقضاء التوتاليتاريين إذ يُلجأ اليه كل يوم لجعل الناس تتكلم[98].

كما ان اغتيال الفردانية وهذا الطابع الفريد الذي اتسمت به الارادة والطبيعة والمصير لدى كافة البشر على السواء والذي بات مسلمة بالغة الحتمية في كل العلاقات البشرية، من شأنه ان يولّد رعباً عظيماً ينكسف دونه التعرض للشخص القانوني والسياسي واليأس من الشخصية الاخلاقية. إنه ذلك الرعب ما ينبري مصدراً للتعميمات العدمية ومنشأ لمعقولية إثباتاتها في ان الناس جميعهم حيوانات بصورة جوهرية ومتشابـهون وفي الواقع فقد دلّت تجربة معسكرات الاعتقال أنّ كائنات بشرية يمكن ان تتحول الى نماذج من حيوان بشري وان طبيعة الانسان لا تكون بشرية الا بمقدار ما تتيح للانسان إمكانية التحوّل اي ان يصير شيئاً.[99]

وبعد ان يتم تدمير الشخصية الاخلاقية ويُقضى على الشخصية القانونية في الانسان،  يغدو تدمير الفردانية مكللاً بالنجاح.  إذ ان تحطيم الفردانية، يعني لزوماً تحطيم العفوية وهي القدرة التي أوتيت الانسان في ان يباشر امراً جديداً انطلاقاً من قدراته الخاصة وعلى هذا فلا يبقى من البشر شيء سوى دمى مريعة ذات اوجه بشرية إذ تنساق الضحية دون اعتراض او رفض فهي تكف عن إثبات ذاتها[100].إن مجتمع الموت الذي أنشئ في المعسكرات هو شكل المجتمع حيث سيغدو من الممكن السيطرة التامة على الانسان، فمن طمحوا الى السيطرة التامة وجب عليهم ان يصفوا كل عفوية.  ومن البداهة انه دون معسكرات الاعتقال ودون الخوف المحدد بصورة سلبية الذي تثيره في نفوس الناس يستحيل على دولة توتاليتارية ان توحي بالتعصب للفِرق التي تشكل نواتها ولا ان تحفظ شعباً  بأسره في حالة من البلادة الكلية[101] فالهدف الاساسي الذي يسعى اليه النظام التوتاليتاري، جعل الناس دون جدوى إذ لا تنحو التوتاليتارية الى حكم الناس حكماً استبدادياً إنما تميل الى نظام يكون فيه البشر لزوم ما لا يلزم ولا يتم للسلطة الكلية مرادها ولا هي تدوم ويصان وجودها الا في عالم من ردود الفعل المشروطة ولما كان الانسان يملك في نفسه الكثير من الموارد، فقد بات من المستحيل ان يخضع بالكامل إلا شرط ان يتحول الى نموذجاً من نوع حيوان بشري ولكن طالما لم تقدر الانظمة على جعل كل الناس عديمي الجدوى بصورة متساوية الا في معسكرات الاعتقال، فقد فشلت في تحقيق السيطرة التوتاليتارية التامة.[102]

لا يكمن مصير الايديولوجيات التوتاليتارية إذاً في تحويل العالم الخارجي ولا في احداث تحول ثوري في المجتمع إنما يقضي بتغيير الطبيعة البشرية نفسها ولم تنجح معسكرات الاعتقال في تغيير الانسان وإنما قامت بتدميره من خلال خلقها لمجتمع تحققت فيه تفاهة العدمية بأن “الانسان هو ذئب الانسان” وقد بدا، الى اليوم ان المعتقد التوتاليتاري في ان كل شيء هو ممكن لم يكن بمقدوره ان يثبت سوى امراً واحداً هو ان كل شيء ممكن تدميره. إذ دأبت الانظمة التوتاليتارية على إثبات ان كل شيء هو ممكن، اكتشفت دون ان تدري انه حالما يصير المستحيل ممكناً يغدو المستحيل هو الشرّ المطلق الذي لا يمكن عقابه ولا مسامحته[103].

أما بالنسبة للنموذج السوري فلا يسعنا سوى إبراز الانتقادات الاكثر خطراً من الفساد، انتقاد سجّل النظام في ميدان حقوق الانسان. فالصلاحيات المطلقة لاجهزة الامن والظروف القاسية في المعتقلات ، بما في ذلك اللجوء الى التعذيب قد لاحظتها منظمة العفو الدولية. ويطل سجن قلعة المزّة القديم تَذْكرة للجميع بمنظره الكالح المتجهم من على قمته فوق دمشق بين الشيراتون والقصر الجمهوري. ولا يزال محتجزاً هناك الرجال الذي أطاح بهم الاسد في عام 1970.  ففي دولة الاسد لم تعط فكرة حرية الفرد اي محتوى مادي برغم الاجهزة والمؤسسات. فليس هناك قضاء مستقل استقلالاً حقيقياً،  ولا حرية معلومات واتصال وتعبير، ولا جامعة مستقلة بذاتها. وفي غياب قواعد واضحة تحكم العلاقات بين الفرد والدولة يشعر المواطن العادي بأنه غير آمن. وحتى السوريون الاغنياء من سكان الاحياء الراقية في دمشق الغربية يخشون ان يغضب منهم زبون او وكيل فيجدون انفسهم قيد الاستجواب على يد واحد او آخر من أجهزة الامن ، فالناس يتوقون لقوانين يحترمها الجميع لأنه في غياب مثل هذه القوانين يبدو ان الحماية الوحيدة تكمن في التقليد العربي القديم: الوساطة، أي وجود علاقات في أماكن عليا تسمح بالشفاعة والتدخل نيابة عن المرء . ومع مرور الزمن على النظام لم يعد هناك مجال كبير للتنويع وصار هناك تأكيد اكثر على التشابه النمطي في الصحافة،  وفي أجهزة الاعلام وفي منظمات الحزب الشعبية. كما أخذت منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة واتحاد الطلبة تسعى كلها لتشكيل الاذهان الشابّة حسب القالب البعثي، ولعل تزايد اعداد الطلبة في المدارس والجامعات بشكل هائل يفسِّر هذه المحاولة لتنظيم الجميع على شكل كتائب في زي نمطي موحَّد، ولكن ذلك قد أسهم ايضاً في انحدار المستويات العقلية الفكرية،  فكل التعيينات في الهيئة التدريسية تخضع لتدقيق وموافقة قوى الامن والحزب،  الذي يدافع بقوة عن احتكاره للسيطرة على الجامعات.

نستخلص مما استعرضنا، أن العناصر التوتاليتارية، استطاعت تفسير نموذج الدولة السورية، فاذا استثنينا عنصر “الفردنة”، بغيابه عن النموذج السوري، كما عن النموذج اللبناني، وعن نماذج كل الدول العربية بشكل عام، لقلنا ان النموذج السوري هو نموذج توتاليتاري من حيث قوته في الداخل التي تعني السيطرة الكلية وبلا منازع، حيث لا يوجد من يتحدّى هذا النظام على الاطلاق، وحيث تصبح أي كمية من الديمقراطية مصدر ارباك، وحيث ان القوة الحقيقية التحتية لا تقتصر على الجانب العسكري، انما “المخابراتي”، لمنع الطريق أمام أي تحدٍ، وحيث الطاعة العمياء والتشابه النمطي الموحد واستخدام الايديولوجيا، صفة هذا النموذج اللازمة.

1  ابن تسور ” حزب البعث الجديد في سوريا في مجلة التاريخ المعاصر الجزء الثالث 1968، وابتامار رابينوفيتش، سوريا تحت حكم البعث، 1963-1969 ، القدس 1972 .

[2] Patrick, Seale, Asad, The struggle for the Middle East, Berkeley,  university of California press, 1988, p. 283

3   مما يثبت ان الديكتاتورية الفاشية ليست توتاليتارية، هو ان المحاكمات السياسية كانت فيها قليلة جدا وبغير ذات اهمية نسبيا. وفي السنوات الفعالة بصورة خاصة، والتي تمتد من العام 1926 حتى 1932، اعلنت المحاكم الخاصة سبعة احكام بالاعدام، و 257 حكما بالسجن عشرة اعوام او اكثر و 1300 حكما بالسجن لاقل من عشر سنوات، وكتيرا من احكام بالنفي، 12000 شخصا اعتقلوا واعلنوا بريئين، وهذا اجراء ما كان ليرتئي في ظل الارهاب النازي او البوشفي. انظر إ. كوهن – برامستد، ” الديكتاتورية والشرطة السياسية تقنية الرقابة من خلال الخشية، لندن، 1945 ص 51

4   لطالما اشار المنظرون النازيون بتفخيم الى ان “الدولة الاخلاقية” التي انشأها موسوليني “والدولة الايديولوجية”  التي اقامها هتلر لا يمكن ان يمر على ذكرهما مرور الكرام

Got freid Neese, dans Zeitschrift fur die Gesamte staatswissenschafts, 1938, Band 98 “Die verfassungsrechtliche.Gestaltung derin-parte” يقول غوبلز بهذا الصدد : ” ليس للفاشية اية صلة بالحزب الوطني الاشتراكي ففي حين يمضي هذا الاخير الى الجذور، فان الفاشية لا تعدو كونها سطحية” (يوميات غوبلز، 1942-1934، الصادرة عن لويس لوخنر، نيويورك، 1948، ص 71)  “ليس الدوتشي ثوريا شأن الفوهرر او ستالين، فهو شديد التعلق بشعبه الايطالي وهذا مما يحول دون اكتسابه صفات الثوري ذي المدى العالمي” نفس المرجع ص 468 وكان هملر قد عبر عن نفس الراي في خطاب القي عام 1943  امام مؤتمر من الضباط الكبار : ” ان الفاشية والاشتراكية – الوطنية مختلفتان بصورة اساسية… وليس من مجال للمقارنة بينهما باعتبارهما حركتين روحيتين وايديولوجيتين” انظر كوهن برامستد، المذكور سابقا ملحق أ

منذ بدء العشرينات، اعترف هتلر بوجود قرابة ما بين الحركتين الشيوعية والنازية : ” في حركتنا يتلاقى الطرفان النقيضان، الشيوعيون الاتون من اليسار والضباط والطلاب الاتون من اليمين، هؤلاء طالما كانوا العناصر الاكثر نشاطا… اما الشيوعيون فكانوا مثاليي الحركة الاشتراكية… انظر هايدن، المذكور سابقا، ص 147 وكان  “روهم” ، قائد فصائل الهجوم لا يني يردد رأيا شائعا اذ كتب في نهاية العشرينات، ” ثمة الكثير من الامور ما بين الشيوعيين وبيننا، ولكننا نحترم صدق قناعتهم وارادتهم في التضحية في سبيل قضيتهم وهذا ما يوحدنا بهم” (Ernest Rohum, Die Gechichte eines Hochverartes, 1933, Volkasaus gabe p. 273)

كادت الحرب الاخيرة ان تجعل النازيين يعترفون بالروس مساوين لهم. واذ كان هتلر يتحدث ، في ايار من العام 1943، امام مؤتمر ضباط الرابخ وقادة الفرق المنقولة، ” بدا القول انه في الحرب الحالية، تتواجه البرجوازية والثورية. وقد كان يسيراً لنا ان تخرج الدو ل البرجوازية  من المعركة، اذ كانت ادنى منا بكثير. ان الدول التي تملك ايديولوجية تكون اكثر حدة  وفعالية من الدول البرجوازية… ( في الشرق) واجهنا عدوا يرعى، هو  الاخر، ايديولوجيا، وان كانت سيئة…” (يوميات غويلز، ص 355) وكان هذا يقوم على اعتبارات ايديولوجية لا عسكرية. وكان غوتفريد نيسه ” حزب ودولة”، 1936، قد اعطى صيغة رسمية لصراع الحركة من اجل بلوغ السلطة : ” بالنسبة لنا، تمتد جبهة النظام الموحدة من الحزب الوطني للشعب الالماني ( اي من اقصى اليمين) الى الاجتماعيين الديقمراطيين. اما الحزب الشيوعي فكان عدوا خارجيا للنظام. وبالتالي فانه ينبغي لنا، بعد ان تنقضي الاشهر الاولى من العام 1933، ويتقرر اثناءها مصير النظام، ان نجرد معركة حاسمة ضد الحزب الشيوعي” ص 76

5 ” اقوال هتلر لدى المائدة” ص 113 ونجد فيه العديد من الامثلة التي تظهر هتلر، عكس بعض الخرافات، الصادرة بعد الحرب، غير عازم اطلاقا على حماية ” الغرب من البولشيفية، انما ظل امدا طويلا مستعدا للتحالف مع “الحمر” من اجل تدمير الغرب، حتى ابان صراعه المديد ضد روسيا السوفياتية. انظر بالاخص ص 95، 108، 113، 158، 385

 6 بتنا نعرف اليوم ان ستالين كان اخطر مرات متتالية من هجوم هتلر الوشيك على الاتحاد السوفياتي وكان لا يزال ستالين يرفض ان يصدق انتهاك هتلر للمعاهدة حتى حين ابلغه الملحق العسكري السوفياتي في برلين بتاريخ بدء الهجوم النازي ( انظر خطاب خروتشيف عن ستالين”، وهو نص وزعته دائرة الدولة، نيويورك تايمز، 5 حزيران 1956 )

[7] Hannah Arendt, les origins du totalitarismes/ le systéme totalitaire chapitre II,Seuil, Paris, 1972, p. 34-35

8   يمكن ان نجد عددا كبيرا من هذه التصاميم، القائمة على وثائق اصلية، في كتاب ” تراس الحقد” لمؤلفه “ليون بوليا كوف”، باريس 1951، الفصل 8 – انما بمقدار ما تتعلق ( هذه التصاميم بابادة، الشعوب غير الجرمانية، ولا سيما الشعوب ذات الاصل السلافي. على ان سلاح التدمير النازي هذا لن يسعه استثناء الشعب الالماني نفسه، وهذا جلي من الاجراء الصحي الصادر عن الرايخ، والذي صاغه هتلر بنفسه. ويقترح فيه ” عزل” كل العائلات التي تنطوي على حالات امراض قلبية ورئوية عن بقية الشعب، تمهيدا لتصفيتها جسديا في المرحلة اللاحقة. هذا الاجراء وبعض المشاريع الاخرى من اجل المانيا منتصرة، كانت متضمنة في رسالة دورية الى قادة القطاعات في هسّه ناسو، وكانت هذه التصاميم قد قدمت على انها تقرير عن نقاش دار في القيادة العامة للفوهرر حول الاجراءات الواجب اعتمادها ” قبل….. وبعد انتهاء الحرب المظفرة” انظر اختيار وثائق “التآمر والعدوان النازيان” واشنطن 1946 المجلد (7) ص 175

الى ذلك كان الامر يتطلب اصدار “تشريع شامل” يكون من شأنه تشريع “النفوذ الدستوري” للشرطة وتوسيع صلاحياتها في اعتقال اشخاص بريئين من كل جرم وارسالهم الى معسكرات الاعتقال (انظر بول ورنر، س.س. ستاندار تنفوهرر، في Deutsches jugendrecht هِفت ، 4، 1944 )  وبصدد هذه “السياسة السلبية حيال الشعوب”، والتي كان لها نفس الاهداف المحققة في حملات التطهير البولشيفية، من المهم ان يتذكر المرء انه “ما كان ممكنا ايقاف مسار الانتخاب الانف”. Hinnler, “Die Schutzstaffel,dansGrundlagen,Augbau Und Wirt schaftsordrung des national sozialistischen states,n°7b)

9   وهذا تبرزه المعلومة التالية، التي يرويها سوفارين، المذكور سابقا، ص 669 ” على حد ما يورده  وكريفيتسكي وهو الذي يحظى بأفضل المصادر ثقة من جهاز الشرطة السوفياتية قال : ” لا بد ان نجد 171 مليونا من السكان المتوقعين للعام 1937، لم نلق سوى 145 مليوناً وعلى هذا فقد كان ينقص حوالي 30 مليوناً من الاشخاص في الاتحاد السوفياتي ” وهذا الامر حدث بعد القضاء على الغولاك، الذي كلف قرابة 8 ملايين ضحية. انظر، “الشيوعية قيد الفعل”، نشرة الجمهور الاميركي، واشنطن 1946، ص 149

[10] Hannah Arendt,op. cit, p. 36

[11] op.cit, p. 34

12 لطالما اشير الى “الفتنة السحرية” التي كانت تتولى مخاطبي هتلر، واخر ما ذكر في هذا الصدد من قبل الناشرين الالمان Hitelers tischgesprache، بون، 1951 (كلمات هتلر على مائدته، نشرة اميركية، نيويورك 1953، اورد بعضا مما اتى في الطبعة الالمانية). هذا الافتتان هذا الانجذاب الغريب الذي كان ينّم عن شخص هتلر بطريقة عصية على الرد) انما كان يرتكز على ” ايمان هذا الرجل المعتصَّب في ذاته” (مُدخل جيرهارد، دريتر، ص 14) وعلى احكامه شبه المصرح بها على كل ما هو قائم تحت الشمس، وعلى ان آراءه، اكانت تتعلق بمفاعيل التبغ الضارة او بسياسة نابليون – يمكن ان تندرج في سياق ايديولوجيا شاملة. الافتتان هو ظاهرة اجتماعية، وينبع فهم الافتتان بهتلر من خلال محيطه الخاص. =

إنّ للمجتمع ميلا دائماً الى قبول امرئ لما يدّعي كونه، بالدرجة الاولى، بحيث غن مجنوناً يفترض نفسه عبقرياً قد يكون له الحظ في ان يصدقه الناس ان افتقاد المجتمع المعاصر الى المقدرة على التمييز ، ما مكن هذا الميل، بحيث لو ان امرءاً  قدّم افكاره في نبرة من  القناعة الراسخة صار من الصعوبة  بمكان ان يفقد هيبته، رغم توالي اخطائه المريبة. وهتلر، الذي يعرف حق المعرفة التشوش الذي آلت اليه الافكار في عصرنا اكتشف ان فضلى الطرائف لتجنب التردد ازاء اراء مختلفة و”القناعة بان كل شيء هو هراء (ص 281) كانت  بالانتساب الى تيار ” واحد فحسب” من تيارات الرأي العديدة وذلك “بحزم مطلق” وكان من شأن هذه العصبية المطلقة ان فتنت المجتمع، لانها تلبث متحررة، في زمن التعبير عن نفسها، من تشّوِش الاراء الذي لا تني تولده باستمرار. غير ان ” للموهبة” الفتنة هذه معنى اجتماعيا ليس الا، وذلك بيّن وحتمي في “كلمات المائدة” لأن هتلر كان  لا يزال يؤدي لعبة المجتمع وما كان يتحدث الى نظرائه، انما الى قادة قوات الدفاع، الذين كانوا ينتمون بغالبيتهم الى ” المجتمع”. ومن الخطأ الكلي الظن ان نجاحات هتلر كانت تعزى الى “قدرات السحر” لديه، وهو اذ فتح هذه الصفات الوحيدة، ما كان ليصير سوى رجل ذي شهرة مجلسية.

[13] Hannah Arendt, op.cit, p. 31

14 انظر الملاحظات الموضحة في هذا الصدد لـ ” كارلتون ج – هـ ، هايز حول ” جدّة التوتاليتارية في تاريخ الحضارة الغربية”، وذلك في ندوة حول الدولة التوتاليتارية، 1939، من اعمال الجمعية الفلسفية الاميركية، قيلادلفيا، 1940، المجلد 82

15  في الواقع تلك كانت ” اول ثورة هامة في التاريخ التي اكتملت بتطبيق التشريع الكامن في لحظة الاستيلاء على السلطة، لـ هانز فرانك، Recht Und Ver waltung ” الحق والحكم” 1939، ص 8

[16] Hannah Arendt, op.cit, p. 32

17   كان ” ف. بوركتو” قد وصف وصفا مضبوطاً : ” لم يكن للشيوعيين سوى نجاح متواضع للغاية حين سعوا الى اجتلاب جماهير الطبقة العاملة، ومن ثم، فإن الدعم الجماهيري لهم، هذا ان كان هناك من يدعمهم، كان أبعد من ان ينسب الى البرليتاريا”.

“Die neve Komintern” dans Der Monat, Berlin, 1999, Heft 4

[18] Hannah Arendt, op.cit, p. 37

[19]  op.cit, p. 38

[20] op.cit, p. 42

[21] ibid.p.43.

22 ويليام ايبستاين، الدولة النازية، سوريبنر، نيويورك، 1943، ص 247

23  على حد قول ماكسيم غوركي. انظر سوفارين ، المذكور سابقا، ص 290

[24] Hannah Arendt, op.cit, p. 39

25  في العام 1927 لم يكن 90% من اعضاء مجالس القرى و 75% من رؤسائها ينتمون الى الحزب، وكانت اللجان التنفيذية في الاقاليم تضم 50% من اعضاء الحزب، في حين صارت هذه النسبة تتجاوز الـ 75% في اللجنة المركزية. انظر مقالة ” بولشيفية” لموريس دوب في موسوعة العلوم الاجتماعية. تظهر أ روزنبرغ ، في كتابها ” تاريخ البولشيفية” الصادر في لندن 1934 وبالفصل السادس منه، بالتفصيل كيف ان اعضاء الحزب دمروا نظام المجالس ( السوفياتات)  من الداخل، وذلك بالاقتراع ” وفق التعليمات التي لبثوا يتلقونها من الموظفين الدائمين في الحزب”.

26 هذه الارقام مستقاة من كتاب فكتور كرافثنكو، اخترت الحرية : حياة موظف سوفياتي الخاصة والسياسية، زي فري برس  The Free ” “Press، نيويورك، 1946، ص 278 و 303

27 انظر ردة فعل هتلر يوم اندلعت الحرب العالمية الاولى، ردة فعل موصوفة في كتابه ” كفاحي”  ، الكتاب الاول، الفصل الخامس.

28 انظر مجموعة الوثاق عن “يوميات الحرب العالمية الاولى لجنة هافكسبرنيك، المانيا المجهولة، نيوهافن، 1948 ص 43، 45، 81 على ان القيمة التي تكتسبها هذه المجموعة لاسهامها في الكشف عن “خفايا” المناخ التاريخي. تجعل غياب دراسات مماثلة بالنسبة لفرنسا، وانكلترا، وايطاليا، امرا يؤسف له.

29 نفس المرجع ص 20-21

30 بدأ هذا الامر بشعور استلاب كلي ازاء الحياة المألوفة. وفي هذا السياق كتاب رودولف بيندينغ مثلا : ” اكثر فأكثر، ينبغي ان نحسب من الاموات، ومن التائهين لان عظمة الحدث تضلنا وتفصلنا اكثر من حسابنا من المبعدين الذين تكون عودتهم ممكنة…” (نفس المرجع، ص 160) كان جيل الجبرية  يدعي كونه نخبة، وقد نجد تذكيراً بهذا الامر عجيبا، في نص اعده هملر حول الطريقة التي اعتمدها اخيرا في اعادة تنظيم جهاز الحماية لاخراج ” شكل من الانتخاب” يكون مثالا لا يحتذى في اعادة تنظيم جهاز الحماية والمراتب، ” … ان مسار الانتخاب الاقسى لتنتجه الحرب دون غيرها، (لانها) الصراع من اجل الحياة والموت. وختام هذا المسار من شأنه ان يبين قيمة الدم (المراق فيه). مع ذلك فاءن الحرب ظرف استثنائي، وينبغي ان يجد المرء وسيلة لاجراء الانتخاب زمن السلم”.

31 هافكسيرنيك، ص 156، 157 ” يوميات الحرب العالمية الاولى لحنة  هافكسبرنيك، المانيا،  المجهولة، نيوهافن، 1948

32 هايدن، كونراد هايدن، صعود هتلر الى السلطة،  بوسطن، 1944، يظهر باي مثابرة لبث هتلر يشارك في اعداد الكارثة ابان الايام الاولى من تولي الحركة السلطة، وكم كان يخشى نهوض الما نيا نهوضا ممكنا.

“نصف دزينة من المرات (اثناء احتلال الحلفاء منطقة الروهر) اعلن هتلر، وبعبارات مختلفة، الى فصائل الهجوم ان المانيا سوف تسقط وان ” مهمتنا هي ان نضمن نجاح حركتنا” ص 167- وهذا النجاح كان يتوقف على خسارة المعركة في الروهر”.

33 كان هذا الشعور سائدا انى كان ابان الحرب، يوم كتب رودولف، يبندينغ، ” ينبغي لنا الا نعتبر (هذه الحرب) بمثابة حملة، حيث يتسنى لقائد ان يدوز ارادته بمعارضتها بارادة قائد آخر – اليوم، يظهر الخصمان منطرحين على الحضيض، وها هي الحرب وحدها تعبر عن ارادتها”. ص 67

34 باكونين في رسالة مكتوبة في 7 شباط 1870 . انظر ماكس نوماد، رسل الثورة بوسطن، 1939، ص 180

35 “كتاب التعليم الديني – الثوري” كان اما كتبه باكونين نفسه، او تلميذه نيشاييف وبالنسبة لمسألة أبوته وبالنسبة للترجمة الكاملة انظر نوماد، المذكور سابقا ص 227 على اي حال فإن ” نظام الحقد. الكامل ازاء كل مبادئ الشرف المحض في مسلك (الثوري) حيال الكائنات البشرية . كان قد دخل في التاريخ الثوري الروسي تحت اسم نيتشا يثقتشينا” (نفس المرجع، ص 224)

36 ومن بين منظري الامبريالية من الطراز الاول يحسب ” إرنست سويير ، تصوٌّف وتسلُّط محاولات في نقد الامبريالية، 1913. انظر كذلك ” كارجيل سبريتسما”، نحن الامبرياليون الاخرون، ملاحظات حول الفلسفة الامبريالية في كتابات ارنست سويير، نيويورك، 1931، ج – مونود في المجلة التاريخية، شباط 1912، ولويس ايستيف علم نفس جديد حول الامبريالية، ارنست سويير، 1913

37  كانت السياسة البولشيفية في هذا الصدد متماسكة الى حد الادهاش، ولقيت سيرورة عامة بحيث استغنت عن تأويلات اخرى. ولنأخذ مثالا شهيرا على ذلك، بيكاسو لم يكن مستحسنا في الاتحاد السوفياتي رغم انه تحول الى الشيوعية. ومن الممكن ان يكون الانعطاف المباغث الذي قام به اندريه جيد بعد ان عاين الواقع البولشيفي ( العودة من الاتحاد السوفياتي)، عام 1936 قد اقنع ستالين قناعة راسخة ونهائية بلا جدوى الخلاقين، حتى وان بدوا محض رفاق درب اما السياسة النازية فقد ادركت القناعة الا انها لم تذهب الى حد قتل المواهب من الطراز الاول.

قد يكون من الاهمية بمكان ان تدرس حِرف المثقفين الالمان بالتفصيل، ممن ذهبوا ابعد من محض التعاون، وهم قلة نسبيا، واقترحوا خدماتهم بحكم كونهم نازيين مقتنعين ماكس واينريش، اساتذة هتلر، نيويورك 1946، هي الدراسة الوحيدة الباقية، الا انها تلبث مصدر تشوش واختلاط، لان مؤلفها لايميز بين الجامعيين الذي اعتنقوا الايمان النازي وبين الذين عزيت حرفهم الى النظام دون غيره، كما انه يغض النظر عن الحرفة السابقة التي كانت لهؤلاء المفكرين موضع التساؤل، وهكذا ينتهي الى احلال الرجال ذوي المكانة الكبرى في فئة المتنورين نفسها).

واليكم حالة بالغة الاهمية في هذا الصدد، ونعني به المشترع كارل شميت، الذي لا تزال نظرياته البارعة حول موت الديمقراطية والنظام الشرعي تقرأ بعناية الى اليوم لفائدتها ( غير المستنفدة)، منذ العام 1935 وماتلاه، ابدل بعدد من المنظرين السياسيين والتشريعيين من ذوي العصبية النازية الخالصة، امثال هانس فرانك، وحاكم بولونيا المقبل ( ابان النازيين)، ”  غوتفريد نييسه” و “راينهرد هوهن” اما اخر من فقد خظوته فكان المؤرخ والترفرانك، المعادي للسامية اقتناعا وعضو الحزب النازي قبل بلوغه السلطة، الذي بات  مديرا ” لمعهد الرايخ للدراسات الالمانية” وكان صاحب الميل المأثور الى ” الدراسات حول دقائق المسالة اليهودية” (F : Orschungsalteilung yuden Frage) وقد اصدر تسعة مجلدات حول المسألة اليهودية (1937-1944) في بداية الاربعينات، كان على فرانك ان يخلي ساحته وتأثيره لذائع الصيت الفرد روزينرغ، الذي لا يفاد من كتابه “Den Mythos des 20 yahrhunderts” اساطير العشرينات ، مئات الاعوام (؟) اية تزعة علامية. والواقع ان النازيين كانوا يخشون فرانك لانه لم يكن ماكراً فحسب وما لم تدركه النخبة ولا الرعاع، هو انه ” يستحيل معانقة هذا النظام… بصورة عرضية. اذ تقوم فوق الرغبة في الخدمة، وفيما يتعداها، الضرورة الملحاح الى الانتخاب، والتي لا تعرف ظروفا مخففة، ولا تروم شفقة”

(Des wegider S.S الذي نشرته فرق الحماية والمراتب الالمانية Hauptaunt-schuhungsant ص 4)

وبعبارات اخرى، في سبيل ان ينتخب النازيون مرشحيهم، كانوا يعتمدون قراراتهم الخاصة، بغض النظر عن ” الطارئ” من الاراء، ايا كانت. ويبدو ان الامر كان يسير على هذا النحو في انتخاب البولشيفيين شرطتهم السرية. وقد روى ف. بيك و. غودين في كتاب ” التطهير الروسي وانتزاع الاعتراف” 1951، ص 160، ان اعضاء الـ (N.K.V.D) كانوا يختارون من صفوف الحزب، دون ان تكون ثمة فرصة امام هؤلاء للانضواء في الحرفة الانفة طوعاً.

38 نيقولا بردياييف، اصول الشيوعية الروسية، آفون بوكس “Avon Books “، نيويورك، 1937، ص 124-125

39  حنا بطاطو : ” الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق”، برنستون يونيفرسيتي برس “”Princeton University Press (برنستون 1978) ص 1013-1014

40  بعض المنطلقات النظرية في نضال البعث – المجلد الرابع – ص 222 ص 291

[41] Patrik, seale, op.cit, p.792

[42] Hannah Arendt, op.cit, p. 81

[43] Patrik, seale, op,cit, p. 292

[44] Hannah,Arendt, Ibid  p. 81

[45] Ibid p. 81

[46] Ibid p. 87

[47] Ibid p. 91

[48] ibid p. 85

[49] Ibid p102

[50]  Carré, O. and G, Michaud. Les Frères Musulmans (1928-1982), E’ditions de minuit, Paris, 1983, p. 144.145

51 صحيفة تشرين، دمشق، عدد 8 اذار مارس سنة 1980

[52] Hannah Arendt, op.cit, p.122.

53  باتريك سيل ، مرجع سبق ذكره،  ص. 88-89 .

54   نفس المرجع ص. 136 .

55  نفس المرجع  مقابلة اجريت مع الرئيس الاسد :  دمشق أيار / مايو 1985 ،  ص. 137 .

56  نفس المرجع  مقابلة مع منصور الاطرش في القرية في 28 نيسان 1985، ص. 132- 133.

57   نفس المرجع ، ص. 136-140.

[58]    Hannah ARendt, op.cit, p. 125

59   مقابلة مع الرئيس الاسد (دمشق 11 أيار / مايو 1985) نقلاً عن باتريك سيل مرجع سبق ذكره ص. 136.

60   نفس المرجع ص. 141.

61 نفس المرجع ص. 141.

62 مقابلة مع الرئيس الاسد (دمشق أيار / مايو 1985)  نقلاً عن باتريك سيل مرجع سبق ذكره ص. 141.

63  باتريك سيل نفس المرجع ص. 165.

[64]  Hannah Arendt, op.cit, p.134

[65]  Ibid p.136-137

[66]  Ibid, p. 138

67   إرنست باير، “حول فصائل الهجوم S.A.” برلين ، 1938، ذُكر في كتاب المؤامرة النازية”.  المجلد IV ، ص. 784.

68   كلمات هتلر على مائدته، نشرة اميركية، نيويورك، 1953

69   باتريك سيل ص. 557 .

70   باتريك سيل ص. 555

71  مقابلة مع اسعد كامل الياس بدمشق في 14 أيلول / سبتمبر سنة 1984 نقلاً عن باتريك سيل ص. 556 .

72  نفس المرجع، ص 554 .

73  نفس المرجع، ص 552

74  نفس المرجع، ص. 552 .

[75]  Hannah Arendt: Les origines du totalitarismes/ Le système totalitaire chapitre III,Calman-Le’vy, Paris, p.150,

76  انظر رونالد ماكنتاير : حزب البعث العربي الاشتراكي: العقيدة والسياسة والاجتماع والتنظيم رسالة دكتوراه غير مطبوعة في جامعة اوستراليا الوطنية 1969 ص. 300 – 407  حول شرح مفصل لتنظيم حزب البعث – نقلاً عن باتريك سيل ص. 150.

[77]   Hannah Arendt, op.cit, p.151.

78  باتريك سيل ص. 291.

79 زكي الارسوزي، المؤلفات الكاملة – الجزءان الخامس والسادس، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1975-1976.

[80]   Hannah Arendt: Les origines du totalitarismes/ Le système totalitaire chapitre II p.153

[81]   Ibid p.156

[82]   Ibid. p.171

[83]   Hannah Arendt, op.cit, p.173

84  تقرير مرفوع من منظمة العفو الدولية الى حكومة الجمهورية العربية السورية (لندن سنة 1983 ص. 33-36)

85  باتريك سيل ص. 533

86  نفس المرجع0 ص. 534

87 نفس المرجع0 ص. 535

[88]  Hannah Arendt, op.cit, p.207

[89] Ibid- p.208.

[90] Ibid- p.218

[91] Ibid- p.215

[92] Ibid- p.175

[93] Ibid- p. 221.

[94] Ibid-p. 190

[95] Ibid-p. 229

[96] Ibid-p. 230

[97] Ibid-p. 229

[98] Ibid-p.231

[99] Ibid-p.232

[100] Ibid-p.233

[101] Ibid-p.234

[102] Ibid-p.236

[103] Ibid-p.240