فارس خشان:السلم الأهلي في لبنان…مغشوش… لا يُداوى السلم الأهلي بالإكثار من الوعظ، بالهروب الى الأمام، بشراء الوقت، وبإضافة قهر على قهر

115

“السلم الأهلي” في لبنان…”مغشوش…لا يُداوى “السلم الأهلي” بالإكثار من الوعظ، بالهروب الى الأمام، بشراء الوقت، وبإضافة قهر على قهر.

 لقد حان الوقت أن يواجه محبّو “السلم الأهلي” هذه الحقيقة وأن يُبلغوا “حزب الله”، مسبّب كل الأمراض التي تعصف بجسد “السلم الأهلي” أنّ لبنان لم يعد قادراً على تحمّل سلوكياته التي تتراوح بين “الإستعلاء” و”الإرهاب”.
فارس خشان/النهار العربي/الأحد 17 تشرين الأول 2021

يقولون إنّ “السلم الأهلي” هو آخر ما تبقى من مقوّمات الحياة في لبنان، والمحافظة عليه مهمّة استثنائية.  هذا صحيح، ولكنّ هذا “السلم الأهلي” مريض. أنينه مسموع غضباً وقهراً وظلماً واستقواء وتحدّياً.  إنّ “السلم الأهلي” لا يمكن أن يستقيم إذا كان مجرّد هدنة، أو جمرة متّقدة يستّرها الرماد الكثيف، أو حجّة يتوسّلها المستقوي ليديم هيمنته، أو رقعة يستّر بها الخائف جبنه المشهود، أو قناعاً يُخبئ به الطامع وجهه الإنتهازي.  في الواقع، ما يعيش لبنان في ظلّه، لا تصحّ عليه تسمية “السلم الأهلي”. هو أيّ شيء إلّا سلماً. إنّه قهر مستدام. إنّه ظلم لا متناه. إنّه قمع بلا قعر. “السلم الأهلي” له مكوّنات. مثله مثل أيّ “طبخة”. هو في لبنان يحمل هذا الإسم، ولكنّ له طعماً مختلفاً ونتائج عكسية.

 “البرغل على بندورة” لا يمكن أن تكون كذلك إذا لم يكن هناك برغل وبندورة وملح وبهارات وماء في مكوّناتها. إذا استبدل الشعير بالبرغل، والدماء بالبندورة، والسكر بالملح والتراب بالبهارات والماء بالعرق، يمكن للطاهي أن يُسمّي طبقه “برغل على بندورة” ولكنّه، في الواقع، مخادع كبير!  مثل هذا الطاهي هم هؤلاء الذين يحدّثونك عن أنّ لبنان ينعم بسلم أهلي. السلم الأهلي يستحيل أن يكون مكوّناً من ميليشيا تفرض قوانينها بالترهيب، وتُملي إرادتها بالإغتيال، وتُعلي معادلاتها بالقهر.  وهذا الواقع المغشوش لا يمكن أن يدوم، مهما صمد. لا بدّ من أن يسقط، بسبب خطأ في الحسابات، تماماً كما حصل في الطيونة، يوم الخميس الماضي، في 14 تشرين الأول(أكتوبر) 2021.

 لقد حان الوقت أن يواجه محبّو “السلم الأهلي” هذه الحقيقة وأن يُبلغوا “حزب الله”، مسبّب كل الأمراض التي تعصف بجسد “السلم الأهلي” أنّ لبنان لم يعد قادراً على تحمّل سلوكياته التي تتراوح بين “الإستعلاء” و”الإرهاب”.  عليهم أن يفعلوا هذا لأنّهم لم يعودوا قادة جماهيرهم، حتى لو كانت هذه الجماهير لم تختر زعماء آخرين، ليس عشقاً بهم، بل لنقص في البدائل.  إنّ ثورة 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019، وفي ذكراها السنوية الثانية، وإنْ لم تُنتج التغيير المنشود، إلّا أنّها نقلت، شيئاً فشيئاً، القيادة من الزعيم الى جماهيره. الزعيم لم يعد القائد. بقي رمزاً، لكنّه أصبح منقاداً.  وهذه الجماهير على اختلافها، بفعل الرعونة والإستقواء والتعالي، اكتشفت، بتواقيت مختلفة، الوجه الحقيقي لـ”حزب الله”، فهو حامي الفساد وراعيه، المدافع عن القمع وربيبه، رائد الظلم ومعتنقه، مهدّم العدالة وكارهها.

 هذه الجماهير تريد من زعمائها، تحت طائلة تجاوزهم، أن يسيروا بهذا النهج الرافض لسلوك “حزب الله”. أعيدوا قراءة أحداث شويا في حاصبيا، وغريفة في الشوف، وخلدة في عاليه، تفهموا ما حدث في الطيّونة، وما يقوله سمير جعجع وسامي الجميّل وغيرهما.  الزعامات التي أخسرتها ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ريادتها، تعرف أنّ هامش مناوراتها تضيق وأنّ “حكمتها” تبهت، لأنّ جماهيرها لم تعد قادرة على تحمّل سلوك “حزب الله” وتداعياته الوطنية والنفسية والمالية والإقتصادية والسياسية. لقد طفح الكيل. لقد مزّق “السلم الأهلي” المغشوش أمعاء اللبنانيين، وتسبّب لهم بأمراض لا يقوى عليها أمهر الأطباء في العالم، وأصابهم بغثيان تفتقد المختبرات العالمية أدوية ضدّه.  وكأنّهم أمام مسلسل “سكويد غايم”، فالموت لم يعد ذا قيمة في نظر اللبنانيين. لقد “سخّف” سلوك “حزب الله” الموت لكثرة ما توسّله. لم يعد أحد، باستثناء أهالي الضحايا، يهتم بالأسماء والأعداد والمشاهد. لم تعد للموت حرمة. لقد تحوّل إلى لعبة نفوذ ومال وسلطة.  إنّ من يعتقد أنّ معارضة “حزب الله” لن تنتج إلّا كتّاباً ونجوماً ومغرّدين، عليه أن يُواليه بسرعة، فمعارضة تنظيم من هذه الطبيعة سوف تخلق، حتماً، أشخاصاً من الطبيعة نفسها.  وهذا ليس استنتاجاً تمليه اللحظة الراهنة وإرهاصاتها، بل حقيقة مستقرّة.

يلفت ستيفان زفايك في كتابه ” أكثر ساعات البشرية ثراء” إلى أنّ” الناس يلتفّون غرائزياً حول حملة السيوف، ويرمون جانباً سلطة حَمَلة الأقلام”.وفي المسرحية التي كتبها زفايك وروى فيها آخر ايام ليون تولتستوي، أورد أن شابين اوفدتهما حركة “الشباب الثوري” الروسية الى هذا الكاتب والمفكر الانساني، من أجل إقناعه بالانضمام، جسداً وروحاً، الى الثورة، خرجا من منزل أعظم روائيي عصره “محبطين”، بعدما ردّ عرضهما، لرفضه مواجهة العنف بالعنف.  لقد اعتبر هذان الشابان الكاتب الذي نهلا، كما عشرات الآلاف من أترابهما، من كلماته روح الثورة والعدالة ” متخاذلاً”، لقناعة مترسّخة فيهما “أنّ الكلمات لم تعد ذات جدوى في مواجهة القمع الدموي”، وقالا له: ” لقد انتظر الشعب ثلاثين سنة الحب الاخوي الذي ناديتَ به. لن ننتظر أكثر. لقد زفّت ساعة التحرّك”.

 وفق مسرحية ستيفان زفايك التي اعتمدت على وثائق، خرج الشابان من مكتب تولستوي أكثر أصراراً على سلوك نهج الثورة العنفية. لم يقنعهما الكاتب الذي صنع فكرهما وأشعل مخيلتهما ورسّخ مبادئهما، بتوجّهاته اللاعنفية التي تندرج كلّها، في إطار فكرة مركزية، وهي: مجرّد اللجوء الى السلاح، ينشئ طغياناً جديداً، وبذلك بدل أن يتمّ تدمير الطغيان يجري تخليده”.  ويقول غوستاف لوبون في كتابه الصادر في العام ١٨٩٥ “علم نفس الجماهير”: “يحترم الناس القوة بخضوع، وهم لا يتأثّرون أبداً بالطيبة التي تجسّد، بالنسبة لهم، شكلاً من أشكال الضعف”.  إنّ الحرص على “السلم الأهلي” يقتضي، إذن، الضغط على “حزب الله”، بكل الوسائل المتاحة، من أجل تغيير نهجه، إذ إنّه، بفعل تراكم ارتكاباته، دفع بسائر اللبنانيين إلى تفضيل مواجهته على الخضوع له، مستخفّين بالنتائج، على قاعدة رسّخها شعر المتنبي: “إذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جباناً”.

ولا يُداوى “السلم الأهلي” بالإكثار من الوعظ، بالهروب الى الأمام، بشراء الوقت، وبإضافة قهر على قهر.

إنّ ما حصل في الطيونة في 14 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري لا يشبه تفجير كنيسة “سيّدة النجاة” في 27 شباط 1994. يومها، كان من السهل أن تستخف غالبية اللبنانيين بحل “حزب القوات اللبنانية” وباعتقال قائدها سمير جعجع، لأنّ الحرب كانت قد أنهكت هذه الغالبية، وأحلام الرفاهية تورد لياليها، والوجه الحقيقي للسلطة الفعلية مستتراً وراء ألف قناع وقناع. حالياً، ما حصل في الطيّونة هو انفجار معاكس، لديه قاعدة جماهيرية واسعة تملك ما يكفي من أدلة على أنّ المواجهة ليست بين حزب وزعيمه من جهة وسلطة واعدة، من جهة أخرى بل بين شعب حي أصابه القرف وبين سلطة مهترئة نخرها الإرهاب.