الكولونيل شربل بركات/الوضع الاستراتيجي المستجد في الشرق الأوسط اليوم (الجزء الثاني)/الاعلام المأجور لجماعة إيران والاخوان في المنطقة لعب على أعصاب الحكام العرب وأظهر عملية حماس كبطولة وتجرؤ، ما أهاج الشارع العربي فوقع بالفخ وهلل لما سمي نجاحا باهرا
الوضع الاستراتيجي المستجد في الشرق الأوسط اليوم (الجزء الثاني) الكولونيل شربل بركات/21 نيسان/2024
الاعلام المأجور لجماعة إيران والاخوان في المنطقة لعب على أعصاب الحكام العرب وأظهر عملية حماس كبطولة وتجرؤ، ما أهاج الشارع العربي فوقع بالفخ وهلل لما سمي نجاحا باهرا.
الشارع العربي الذي ضحك عليه العثمانيون بموضوع الخلافة وبقي يتخبط داخلها حتى بعد خسارتهم الحرب العالمية الأولى مدة قرن من الزمن، لا يزال يعيش في الدوامة العاطفية حيث يستطيع أي كان أن يضحك عليه بالشعارات الرنانة ويسلبه حقه بالحياة والاستقرار والأمن والتقدم.
يوم خسر عرفات مقابل الاسرائيليين في بيروت كان هناك رجلا يقود لبنان هو بشير الجميل وقد وضعه أمام خيارين؛ ترك الاسرائيليين يقضون عليه تحت الانقاض أو التسليم والخروج مع مسلحيه من لبنان بحماية قوات متعددة الجنسيات.
عرضنا في المقالة السابقة الوضع الاستراتيجي المستجد من الناحية الإيرانية واليوم سندرس هذا الوضع من جانب دول التحالف العربي التي تضم من حيث المبدأ مصر والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وبعض دول الخليج الأخرى بالاضافة إلى المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية، هذه الدول يسميها حلف المقاومة بدول التطبيع وهي بالتالي سارت أو كانت في طريقها إلى السير بمشروع السلام بينها وبين دولة اسرائيل، وتأمل أن توجه جهودها نحو التعاون المشترك للوصول إلى شرق أوسط جديد منفتح ومتضامن لحماية الأمن والاستقرار وتشجيع الانتاج الاقتصادي والتبادل التجاري بين أعضائه وبقية دول العالم.
كانت مصر أول المتضررين من الهجمة الاصولية التي تقودها إيران والتي شاركت فيها منظمة حماس يوم استغلت حركة الاخوان قيام المصريين بالتظاهر ضد الرئيس مبارك فأدخلت مجموعات مسلحة ارهابية عبر الأنفاق التي كانت أقامتها لتهريب الأسلحة إلى القطاع. وقد عبرت هذه المجموعات إلى العريش في سيناء ومن ثم إلى الداخل المصري، حيث قامت بمهاجمة بعض السجون وأطلاق سراح المحكوم عليهم، ومن جملتهم عناصر من حزب الله وعناصر من الارهابيين التابعين لمحور إيران، والذين يمضون عقوبات في السجون المصرية بعد أن كانت صدرت بحقهم أحكام من القضاء المصري. ليس هذا فحسب ولكن وبعد الانتفاضة الثانية ضد حكم الاخوان وانتخاب الرئيس السيسي قام الاخوان، بمساندة حماس والأسلحة التي هربت بواستطها لهم، بمهاجمة القوات المصرية في سيناء ما اضطر مصر للطلب من اسرائيل السماح لقوات مصرية كبيرة للعبور إلى سيناء لمواجهة هجمات المسلحين الارهابيين الذين قاموا بالاعتداءات المتكررة على القوات المصرية. وكان التنسيق حول هذه النقطة بين الجيش المصري والاسرائيلي مهم جدا كون عديد وتسليح القوات المصرية في سيناء يجب أن يتبع الاتفاقات المعقودة بين الطرفين، ولم تسمح الاتفاقات بأعداد أو اسلحة وعتاد كاف لمواجهة الهجمات الأرهابية في سيناء، ولم يكن هدف المصريين مهاجمة اسرائيل بل التخلص من هذه الجماعات الارهابية التي تهاجم قواتهم في سيناء وتخلق تمرد لم يكن من السهل القضاء عليه، وقد كلف القوات المسلحة المصرية أعدادا من القتلى والجرحى.
من جهة ثانية ما حصل في اليمن من خلق وتسليح جماعة الحوثي التي تشكلت وتدربت على أيدي الإيرانيين وأعوانهم ومن ثم قامت، ليس فقط بتقسيم اليمن، بل وأيضا بمهاجمة الأراضي السعودية واطلاق الصواريخ على المنشآت النفطية والمطارات والمدن الكبرى، وحتى على مهاجمة دولة الامارات العربية في عقر دارها بكل وقاحة. وكانت الجماعات التابعة لإيران قد قامت أيضا بتحريك السكان الشيعة في البحرين ضد الحكومة في محاولة لقلب الحكم والارتباط بإيران. ولولا تدخل قوات درع الخليج عسكريا لكانت تمكنت من قلب النظام والسيطرة على هذا البلد. ثم قامت بتأليب الشيعة السعوديين في منطقة القطيف ضد الحكم المركزي في المملكة ما اضطر الحكومة للقيام بفرض الأمن بالقوة، وهم كانوا قاموا بأكثر من عملية ارهابية داخل المملكة.
في كل هذه التحركات كان ما يسمى بحزب الله في لبنان راس الحربة في ما يجري في البلاد العربية لتنفيذ الأوامر الإيرانية، ولم يكتف هؤلاء بالمحاولات المسلحة إنما قاموا أيضا بتهريب المخدرات ونشرها في داخل المجتمعات العربية للقضاء على الروح المعنوية عند السكان وسهولة ضرب القدرات القتالية داخل هذه المجتمعات المناهضة لحكم الملالي.
ثم قامت إيران بالتخطيط لمنع التقارب، لا بل التفاهم، بين عرب الاعتدال هؤلاء واسرائيل، ومحاولة حل قضية الفلسطينيين بتطوير ادارة الحكم الذاتي التي تقودها السلطة الفلسطينية ودفعها باتجاه اقامة دولة ترعى شؤونهم وتقيهم شر الارهاب والاصولية البغيضة والتبعية للمتاجرين باحلامهم والذين يستعملون اسم فلسطين شعارا لكسب الود واستعماله لمآربهم. من هنا كان مفهوم وحدة الساحات والعملية التي قامت بها منظمة حماس الارهابية. وكانت اسرائيل تنتظر أن يبادر العرب للتنديد بحماس وأعمالها وبالعملية التي قامت بها، وتطالبها بتسليم الرهائن والاعتراف بالخطأ وفتح باب التفاوض حول الحل النهائي، الذي يمنع وجود التنظيمات المسلحة ووقف الدعوة إلى رمي اليهود بالبحر والمطالبة بدولة فلسطينية من البحر إلى النهر. ولكن الجو الذي ساد في الاعلام العربي والشارع لم يتناسب مع المنتظر من سلطات تعرف مكامن الخطر على ابنائها ودولها، وتعرف من هو العدو، ولكنها لا تجرؤ على التصريح العلني بوقف الجاني ومنع التدهور. وقد كانت اسرائيل أعطت أكثر من ثلاثة أيام تحت حجة التحضير وطلب الاحتياط قبل أن يقوم الجيش بالدخول إلى غزة، وهي فرصة كانت كافية لكي يصرح الرئيس المصري مثلا، بأن حماس ارتكبت جريمة بحق الفلسطينيين وليس فقط بحق الاسرائيليين، وأن يتبعه القادة العرب فيطالبون الفلسطينيين بمواجهة حركة حماس ويحملونها مسؤولية تدهور الأمور، لا بل كان من المفترض أن يقوم التحالف العربي بعرض تشكيل قوة موحدة، حتى بمساندة من السلطة الفلسطينية، تعمل مع القوات الاسرائيلية لجمع سلاح حركة حماس واعادة الأمن والاستقرار إلى غزة منعا لدخول الجيش الاسرائيلي وحده إليها وبالطبع حدوث مجازر هناك.
لكن الاعلام المأجور لجماعة إيران والاخوان في المنطقة لعب على أعصاب الحكام العرب وأظهر عملية حماس كبطولة وتجرؤ، ما أهاج الشارع العربي فوقع بالفخ وهلل لما سمي نجاحا باهرا. ثم بدأ حزب الله ومن ثم الحوثيين بالتحرش باسرائيل، كما هنأ الإيرانيون حماس على عمليتها، فخاف الزعماء العرب من اتخاذ القرار الصائب ووقعوا بالضياع، فهم يعرفون خطورة الموقف المائع، ويعرفون خطورة انتصار الارهاب، ويعرفون بأن إيران تحضر الأجواء لمهاجمتهم بعقر دارهم، ولكنهم يعرفون أيضا حساسية الموضوع الفلسطيني على الشارع العربي، لذا فضلوا أن يتحمل نتانياهو مسؤولية القضاء على حماس ويحاولون كسب الوقت لاعادة التموضع.
من هنا نفهم تطور الأمور باتجاه المواجهة بين اسرائيل منفردة وإيران حول مستقبل الشرق الأوسط، ومن هنا نفهم تراكض دول الغرب لمساندة اسرائيل التي بقيت وحيدة في مواجهة الارهاب، ولو معنويا. ومن هنا نفهم عدم قدرة التحالف العربي على الوقوف بوجه إيران حتى في داخل دوله. ليس هذا فحسب ولكن وبعد تطور المواجهة بين حلف إيران والعالم حول حرية الملاحة في البحر الأحمر لم يسأل أحد هذه الدول عن موقف أو طلب منها المشاركة بقوة دولية لمواجهة جماعة إيران، بالرغم من أن خطر الحوثيين يؤثر مباشرة على السعودية، وتوقيف الملاحة عبر قناة السويس هو موضوع مهم لمصر قبل أي دولة أخرى.
ولكن وبعد كل المآسي وقف الأردن، والذي عرف الخطة الايرانية التي تحضر له، موقفا مقبولا ولو بعد فوات الأوان، واتخذ بعض الخطوات في مواجهة الاطباق الإيراني، فعبأ الشارع وشارك باسقاط المسيرات كنوع من الاعلان عن موقفه والتحضر للأسوأ. وتقوم مصر برعاية التفاوض ولكنها لم ترسم خطوطا واضحة بعد، ولا هي أتخذت خطوات ضد الذين قاموا يتحطيم كل مشاريع الحلول، وحتى الآن لا تزال حركة حماس وبالرغم من كل ما قامت به تدّعي الانتصار ولو على جثث أبناء غزة ومصالحهم وبيوتهم المهدمة، ولا تصريح واضح من أية جهة عربية، خاصة من مصر، بأنه لا مكان لمن تسبب بتدمير غزة أن يكون له موطئ قدم فيها أو سلطة بعد اليوم.
يوم خسر عرفات مقابل الاسرائيليين في بيروت كان هناك رجلا يقود لبنان هو بشير الجميل وقد وضعه أمام خيارين؛ ترك الاسرائيليين يقضون عليه تحت الانقاض أو التسليم والخروج مع مسلحيه من لبنان بحماية قوات متعددة الجنسيات. وقد تم خروج عرفات وجماعته فركبوا البحر وغادروا لبنان. واليوم لو تجرأ القادة العرب على القول لجماعة حماس نفس الكلام لكانت غزة بقيت بدون خراب ولكان هؤلاء القتلة سلموا انفسهم أو خرجوا من غزة وجنبوها كل الضرر.
الشارع العربي الذي ضحك عليه العثمانيون بموضوع الخلافة وبقي يتخبط داخلها حتى بعد خسارتهم الحرب العالمية الأولى مدة قرن من الزمن، لا يزال يعيش في الدوامة العاطفية حيث يستطيع أي كان أن يضحك عليه بالشعارات الرنانة ويسلبه حقه بالحياة والاستقرار والأمن والتقدم. فهو يعتقد بأن الحلم بالخلافة الذي كان استعمله العثمانيون في نهاية القرن التاسع عشر بعد تخليهم عن الانكشارية القتلة والتفتيش عن شعار يمنع الخروج عن طاعة السلطان، حيث أعادوا التشديد على دوره كخليفة المسلمين وأدخلوا هذه النظرية في برامج المدارس العسكرية التي أخضع الكثيرون لدورات تدريب فيها، وخرّجت أفواجا من رعايا السلطان الأوفياء. ومن هؤلاء الضابط العثماني الشيخ أمين الحسيني في فلسطين والقائد العثماني الكبير يوسف العظمة في سوريا وحتى سلطان باشا الأطرش وغيره من السوريين. ومن ثم بعدما انهى اتاتورك الخلافة في 1923 بدون عقد أو شعور بالذنب، عادت هذه النظرية لتظهر في مصر مع حسن البنا مؤسس الاخوان. وقد استعملها عبد الناصر لاحقا تحت شعار العروبة ومن ثم قدسية القضية الفلسطينية منذ 1948 وحتى اليوم.
امكانية تحمل بعض الدول العربية مسؤولياتها تجاه مستقبل الشرق الأوسط قضية مهمة وإلا فإن الغالب في الصراع الحالي سيحكم المنطقة ولن تفيد المواقف المتأخرة ولا البكاء على الاطلال. وعلى المثقفون العرب في الدول التي تدّعي الحداثة أن يغيّروا من مواقفهم المتذبذبة ومصطلحاتهم الخنوعة في مواجهة التحدي والغطرسة، وإلا فالمستقبل وامتيازاته لن يكون متساويا فلا ربح بدون مجاذفة ولا مكسب بدون موقف وجهد. فهل يفهم عرب الاعتدال بأن عليهم اتخاذ القرار قبل فوات الأوان؟..