الحرب وفظائعها تبدو لكل محللي أحداث الشرق الأوسط الأخيرة الصورة القاتمة التي أطاحت بمشاريع السلام وخاصة التحاق المملكة العربية السعودية بالاتفاق الابراهيمي والذي بدأت نتائجه تظهر، قبل التوقيع عليه، علاقات اقتصادية ومخططات استقرار وازدهار تنهمر على المنطقة كانهمار الخير بعد انحباس المطر. ولكن هل يستحق السلام المنتظر كل هذه الدماء ولماذا؟
إن الناظر إلى توزّع القوى في الشرق الأوسط اليوم، خاصة بعد سقوط العراق وسوريا وأغلب دول الصمود العربي شرقا وغربا، بما فيها نظام القذافي في ليبيا والبشير في السودان وتهلهل النطام في تونس والجزائر، وبعد تهدّم شكل الدولة في الصومال على القرن الأفريقي أمام نظر العالم وبروز دور أثيوبيا مجددا بالرغم من مشاكلها الداخلية، وبعد الفوضى الحاصلة في دول الساحل الأفريقي التي لا تنبئ بالخير ولا بالاستقرار فيها، يجد بأن هناك ثلاثة قوى بارزة على الساحة؛ هي تركيا المتأسلمة مع أردوغان، ولو أنها جزء من الحلف الأطلسي، وإيران المتثورنة والتي تتلطى أيضا تحت عباءة الاسلام، ولو بقالب شيعي يبرز تنافسها مع تركيا، ومن جهة أخرى التحالف العربي بقيادة مصر العسكرية وعضوية الأردن ومشاركة دول الخليج، وهذه متصالحة مع “الدولة العبرية” ومتخاصمة مع نظريات التطرف الديني وتختلف عن باقي القوى في هذا الشرق الأوسط بمحاولتها الابتعاد عن التنظيمات الارهابية المتاجرة بمآسي الناس. بينما تحتضن تركيا جماعات الأخوان المسلمين وافرازاتهم الارهابية، وتركز إيران على نشر الثورة الخمينية، وأيضا بواسطة الارهاب، في دول الخليج من البحرين إلى القطيف في السعودية وغيرها واحكام السيطرة على العراق واليمن سوريا ولبنان وفلسطين.
أما عناصر الحركة في هذه المنطقة فهي تتلخص بالجماعات التي تعتمد على تنمية فكرة الارهاب، وقطف الأفواج الشابة من الجماهير التي تنتظر قطار التقدم لتكون وقودا لنظرياتها، وسلاحا في حروبها المتنقلة، والتي تعيدنا إلى الأيام الغابرة من جهة نشر العنف وتجنيد القتلة وزرع بذور التفرقة وتشريع الاتجار بالممنوعات، وحصر الناس في تجمعات متخلفة ومتقاتلة وجاهزة لتحصد شهوة الاستيلاء على ثروات الدول المستقرة والناجحة بتقدمها، بدون أن تترك وسيلة لتحقيق غرضها. ولنا من داعش في سوريا ومثيلاتها من دواعش نيجيريا وغيرها من الدول الأفريقية، وبدون أن ننسى حماس في غزة، والحشد الشعبي وحزب الله وغيرها في الطرف الآخر، وكلها تعطينا أفضل مثال على ذلك.
التحالفات الكبرى في الشرق الأوسط إذا هي؛ التحالف الابراهيمي ويضم اسرائيل ومصر والاردن والسعودية ودول الخليج، وهو قادر على السيطرة على جنوب الشرق الأوسط الفعلي، بينما تحاول إيران السيطرة بواسطة مليشياتها على وسط المنطقة من افغانستان على الحدود الصينية إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، وتسعى في نفس الوقت لتبقي على نقاط تفاوض في اليمن والقرن الأفريقي. أما تركيا بقيادة اردوغان فهي تحاول فرض سيطرتها على شمال المنطقة والطرق المؤدية إليها من روسيا والصين من جهة والطريق البري إلى أوروبا من جهة ثانية، وتستعرض قواها في كل مناسبة حول البحر المتوسط وشمال أفريقيا من أجل تحسين دورها في عمليات التفاوض. ولا تغيب أوروبا أو الولايات المتحدة عن المسرح كليا، ولا حتى روسيا، فلكل منها قواته ووجوده على الأرض من أجل الضغوطات المطلوبة في حال تعثر الاتفاقات.
تدخل العمليات الأخيرة في غزة وجنوب لبنان ضمن نطاق الضغوطات من أجل الحلول. ولذا فيوم قامت قوى الارهاب الايراني بعملية غزة بقصد التأثير على التحالف الابراهيمي وزعزعته، رأينا تحركا غربيا فاعلا لوضع النقاط على الحروف، لأنه من غير المسموح بأن يتجاوز الإيراني حدوده، وهكذا كان تحرك وزير الخارجية الايراني في جولاته على دول المنطقة، وكأنه وحده من يملك حق القرار والتفاوض، ولكن بدون تسرّع. ولم تسمح القوى التي نشرتها الولايات المتحدة وأوروبا في المنطقة بتوسيع الهجمات أو جر إيران إلى المعركة، لا بل قامت برسم قواعد اشتباك جديدة تلائم الوضع، إن حول القواعد الأميركية في سوريا والعراق، أو في ممر باب المندب الدولي، وحتى في الموضوع المالي حيث استعمل مبدأ العصا والجزرة.
من هنا تتضح أكثر فأكثر المشاريع الكبرى للسياسة الدولية في الشرق الأوسط. فعلى إسرائيل التزام بعض الخطوط في محاربتها الإرهاب وعدم الحسم الكامل، لكي يبقى لإيران دورها في التنازل عن بعض النقاط أثناء عمليات التفاوض من دون أن تخسر كل الاوراق، فتحافظ على التوازن مع المجموعة الابراهيمية جنوبا، أو التركية الممتدة شرقا باتجاه الدول الاسلامية على حدود روسيا والصين شمالا. وهكذا نفهم أكثر فأكثر الدور الذي يلعبه الفريق الإيراني في لبنان بمنع قيامة البلد أو اتخاذه دورا محايدا، لا بل فهو المكان الأفضل لتمرير رسائل إيران واظهار قوتها الفعلية على الأرض، وبالتالي ضبط الإيقاع وتعويد المنطقة على مستقبل الاتفاقات المطروحة. فالعراق وسوريا كانا دوما مراكز تصدير الثورة والتشبث بموضوع العروبة التي لم تنجح في التفاهم على مستقبل المنطقة، وبقيت تراوح في مكانها من دون طرح أي حلول، أما دخول إيران على الخط، ولو أنها قادت التطرف، إلا أنها بهذه الصفة قد تتمكن من فرض الحلول أو المشاركة فيها، وقد تمثلت السلطة فيها بوحدانية مطلقة لا تقبل بأي نوع من السؤال أو الاعتراض. ومن هنا مثلا قبول حزب إيران في لبنان بالتنازل بموضوع الحدود البحرية الذي أعطي لاسرائيل مقابل الاستمرار بالسيطرة على لبنان. وبالرغم من تفاهم اللبنانيين على ضرورة التخلص من حزب إيران والعودة إلى الحضن العربي، إلا أن هذه النتيجة ستخلخل السيطرة الإيرانية، وتعيد الحلم بما سمي بالعالم العربي وتضامنه، والذي لم يتمكن عبر السنين من الوصول إلى أية حلول لمستقبل المنطقة الأساسي في اقتصاديات العالم، لا بل كان دوما يضع العراقيل بدون أن يعطي أي نوع من الحلول المقبولة.
يقول قائل إن الحرب الدائرة في غزة لن تنتهي قبل الانتخابات الأميركية وستكون مادة تجاذب خلالها، ولكن على ما يبدو فإن الخطوط الكبرى أصبحت معروفة وتقليم الأظافر في كافة الاتجاهات جار على قدم وساق، وسوف يجلس الفرقاء على طاولة التفاوض لرسم مستقبل الشرق الأوسط، الذي نتمنى بأن يكون حلولا لسلام طويل وشبه دائم تظهر خلاله علامات الازدهار والتعاون البناء، والتي لا بد منها للعبور نحو الاستقرار والتقدم المنشود لكل دول المنطقة وشعوبها، وغياب للعنف ونظريات الحقد الأعمى. فهل سيبقى في لبنان من يعايش هذه الحلول؟ أم أن المرحلة القادمة من الحروب سوف تلغي كل الآمال وتقضي على كافة المقومات فلا يبقى من يتمتع بالسلام ولا من يسعى إليه؟