الكولونيل شربل بركات: المحبة والله

110

المحبة والله
الكولونيل شربل بركات/08 حزيران/2021

في ما وصلنا من الديانات القديمة يكمن سر المحبة التي أوصى فيها إيل ذلك الساكن العالى عندما قال للربة عناة: “سك دود ارص” أي “أزرعي الحب بالأرض”. وقد لفتتني كلمة “دود” التي يقابلها في العربية “ود” وتعني الحب. و”دو” هي سابقة الألوهة عند الفينيقيين، وباللاتينية المأخوذ عن الفينيقية، تصبح ديو Deo أو الله ايضا. ولكن ماذا عن اليهودية التي أنكر عليها بعض البحاثة اللبنانيين اعترافها بمحبة الله، أو أن تفاصيل الشريعة الموسوية ابعدتها عن “لب الله” (Love بالأنكليزية) الذي هو المحبة لا فرق.

ولكنني أعدت قراءة موضوع الأسم الذي يطلق على الاله حيث يعتقد البعض بأن ذكر اسم الله يعني تحقيرا له، بينما نحن في هذه المنطقة من العالم، وخاصة مع حضارة المسلمين، نعتبر بأن ذكر الله وأسمه يجب أن يتصدر اي كلام. ولذا فالمسلمون يبدأون كل خطاب باسم الله الرحمان الرحيم، ونحن في يومياتنا نستعمل كلمة “اسمالله” اي اسم الله على “الطالعة والنازلة” كما يقولون. بينما عند البروتستانت، ويمكن أن تكون مأخوذة من العهد القديم، فإن ذكر اسم الله لا يجوز، وكأنه تحقيرا له. وهذا يعود ربما إلى مفهوم التسمية في البدء في ما بين النهرين، اي في بدايات اللغة، حيث تعلم الانسان أن يطلق اصواتا محددة للدلالة على الموجودات (وهي كما نعرفها اليوم في الكمبيوتر؛ أي اسم الملف الذي يحوي المعلومة وذلك لكي يحفظ في الذاكرة ويمكن اعادة فتحه). وبعد أن اصبح لدى الانسان الكثير من هذه التسميات وتشعبت المناطق والقادرين على اطلاق الأصوات والتعبير عما يرون بالتسمية، صار هناك ضرورة لتنظيم اللغة، ولذا ولكي لا “تتبلبل الألسن” أي يسمي كل بحسب ما يريد، كان هناك ضبط لموضوع التسمية من قبل صاحب السلطة. ثم ولكي تنحصر التسميات أكثر ولا يبدلها كل بحسب ذوقه من أصحاب السلطة، ارتبطت التسمية بالاله. ومن ثم صار هو من يسمي الأشياء كما يخلقها (وقد ورد في سفر التكوين إن الله خلق… ثم سمى الأشياء باسمائها). ولذا فقد اعتقد البعض بأن هناك ربط بين الخلق والتسمية (وهو صحيح مبدئيا في عقلنا، فعندما نطلق الكلمة تبدأ الصور المتعلقة بها بالدوران في مخيلتنا وكأن هذه الكلمة “التسمية” هي من خلق الملف في ذاكرتنا)، من هنا صار عندهم عدم جواز تسمية الخالق لأننا إذا ما سميناه نصبح وكأننا نحن من خلقه.

وهكذا سأل موسى الله عندما رآه في العليقة: “من أنت يارب”؟ وكان الجواب الذي سمعه “أني يا هو” (Ani Yaho) وترجمها بأنه “الذي هو” ما فُهم وكأنه لم يعطِ إسما له. ولكننا نعتقد بأن سبحانه كان يحاول افهام النبي موسى عليه السلام بأنه “ياهو”، ذلك الاله المعروف عند الكنعانيين، والذي كان له هيكل في بيروت منذ الألف الثالث قبل المسيح، ولا يزال اسمه مرتبطا بكثير من الأماكن في منطقتنا، خاصة القرى والأماكن التي يبتدئ أو ينتهي اسمها ب ياه مثل بيت ياه – أون (بيت ياحون) أو سور- ياه (سوريا) وإلى ما هنالك.

و”هو” هذا بالذات الذي سُمي الحب بالعربية باسمه “هوى” ولا يزال هذا الأسم يتكرر في كل ما يتعلق بالحب (الهوى والشباب… أهواك…) ولا يزال يحمله مثلث مدخل بنت جبيل وعيناتا وعين إبل تحت اسم “صف الهوى” أو (صب – ال – هوا) والتي تعني كما (صب – دو – بتاح) الغير بعيدة عنها و(صب – دو – عليون) قليلا إلى الجنوب وهي عرش الاله هو او ياه وعرش الاله بتاح وعرش الاله عليون أو إل. وقد سماه اليهود “يهوه” التي تلفظ “ياهفي” أو “ياهفى” ( وهم يفضلون استعمال كلمة “أدوناي” أي السيد بدل اسمه أو “الوهيم” أي الاله بالجمع لمزيد من الاحترام) وقد كان اعتبره ابراهيم جد العبرانيين وأول الموحدين، بحسب القرآن الكريم، بأنه الجدير بالاحترام وتعبّد له، ومن ثم اضاف صفة العالي (إيل) أي مسكنه إلى صفته كمعطي الحياة أي “هو” أو “ها” أو “ياه” ليصبح معه اسم المعبود اله (ال-ياه أو ال-ها)، وقد ذكرنا ذلك في مقال سابق.

ولكننا نحاول هنا التشديد على أن اسم الله عند العبرانيين منذ ابراهيم هو “ها” أو هو أو ياه أو ياهو. وإذا ما اعتبرنا أن مقطع “هو” هو المهم فإن اسم الله يصبح مركبا من حرفين ها – فاف (الهاء والواو) حسبما تلفظ بالفينيقية والعبرية (فاف) (كما في ياهفي) ويصبح بعدها اسم الله “هف” أو حب التي بقيت معنا بالعربية كما هي وبالعبرية باضافة الألف (أ-ه-ف-ى) (بسقوط الياء من كلمة “ياهفي” في البدء). فإذن اله اليهود ايضا يرتبط اسمه بالمحبة. وكما هو في “ود” العربية، كما قلنا، والتي تعتبر تكرارا ل “دو” (سابقة الألوهة). وقد ورد في القرآن الكريم: “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً” التي هي المحبة في القلوب وهي كما يقول الأصفهاني “أفضل من المهابة” لأن “المهابة تنفر أما المحبة فتؤلف”.

وإذا ما عدنا إلى الديانات القديمة التي سادت في منطقتنا وبقيت نصوصها تعلم في المدارس وقد وصلنا منها ما بقي من ألواح أوغاريت حيث لم يحب فيها الاله الحرب والحقد فإننا نجد في أحد هذه النصوص “رسالة من بعل” إلى سكان الأرض يدعو فيها لتعميم قيم المحبة والسلام حيث يقول:
“الحرب في الأرض ليست من مشيئتي…
ببذار المحبة شق الثرى،
واسكب السلام في كبد الأرض،
والعسل في جوف الحقول…
الق جانبا عصاك وسلاحك،
ولتسارع قدماك نحوي، وخطاك،
فإني مرسل رسالة مني هي رسالة الشجر،
ووشوشة الحجر،
وهمس السماوات للأرض،
والمحيطات للنجوم…
وها إني مرسل البرق والرعد علامة في الفضاء،
لتصل من خلالهما رسالتي إلى جميع سكان الأرض”.

ولكن المتسلطين في الأرض كما يبدو حمّلوا الله ثقل أخطائهم فتجاوزوا تعليماته وزجوه في صراعاتهم وقتلوا باسمه. وها هي في ايامنا داعش الأخونجية وميليشيات الخمينية، وهما وجهان لعملة واحدة تقتل باسم الله وتهجر وتبيد، ولا تسمع صوته القائل بأنه يحب السلام، ويفضل المحبة على المهابة، وهو رحمان رحيم. فهل لأبناء يعقوب أو أبناء اسماعيل ومدعي حماية رسالة السماء، هل لهم آذان تسمع وعقول تبصر وقلوب تشعر؟

إن السيد المسيح، الذي ينتظره اليهود ويعتبره المسلمون من روح الله ويقدسه المسيحيون، بسّط التدين وسهّل الشريعة عندما قال جوابا عن سؤال أحدهم عن الوصايا: “أحبب الرب الاهك وأحبب قريبك كنفسك، وهي تلخص كل الوصايا”. فالمحبة التي قالت بها كل الأديان هي الركن الأساسي لعلاقات البشرية المتوازنة والمتعاونة على الخير في سبيل التقدم. فهل من سميع في زمن العهر الذي نعيشه والتجبر الذي نعاني منه؟