الكولونيل شربل بركات/صور سيدة التجارة

204

صور سيدة التجارة
الكولونيل شربل بركات/22 كانون الثاني/2021

سوف نتكلم في هذا المقال عن عظمة صور زمن الفينيقيين. ولكي نلقي الضوء على مرحلة البحبوحة والازدهار التي عمت صور في الألف الأول قبل الميلاد، وفي ظل التفاهم مع جارتها الجنوبية، وقبل بدء الهجمات الكبرى من ملوك ما بين النهرين من آشوريين وبابليين وفرس، لنا من مرثاة صور التي دونها النبي حزقيال (القرن السابع قبل الميلاد) ما يظهر بشكل واضح مدى عظمة صور وتجارتها في تلك الفترة. واليكم المقطع بالتفصيل:

النبي حزقيال الاصحاح 27
1 وكان الي كلام الرب قائلا
2 وأنت يا ابن آدم، فارفع مرثاة على صور
3 وقل لصور: أيتها الساكنة عند مداخل البحر، تاجرة الشعوب إلى جزائر كثيرة، هكذا قال السيد الرب: يا صور، أنت قلت: أنا كاملة الجمال
4 تخومك في قلب البحور . أبناؤوك تمموا جمالك
5 عملوا كل ألواحك من سرو سنير . أخذوا أرزا من لبنان ليصنعوه لك سواري
6 صنعوا من بلوط باشان مجاذيفك. صنعوا مقاعدك من عاج مطعم في البقس من جزائر كتيم
7 كتان مطرز من مصر هو شراعك ليكون لك راية. الأسمانجوني والأرجوان من جزائر أليشة كانا غطاءك
8 أهل صيدون وإرواد كانوا ملاحيك. حكماؤك يا صور الذين كانوا فيك هم ربابينك
9 شيوخ جبيل وحكماؤها كانوا فيك قلافوك. جميع سفن البحر وملاحوها كانوا فيك ليتاجروا بتجارتك
10 فارس ولود وفوط كانوا في جيشك، رجال حربك. علقوا فيك ترسا وخوذة. هم صيروا بهاءك
11 بنو إرواد مع جيشك على الأسوار من حولك، والأبطال كانوا في بروجك. علقوا أتراسهم على أسوارك من حولك. هم تمموا جمالك
12 ترشيش تاجرتك بكثرة كل غنى. بالفضة والحديد والقصدير والرصاص أقاموا أسواقك
13 ياوان وتوبال وماشك هم تجارك. بنفوس الناس وبآنية النحاس أقاموا تجارتك
14 ومن بيت توجرمة بالخيل والفرسان والبغال أقاموا أسواقك
15 بنو ددان تجارك. جزائر كثيرة تجار يدك. أدوا هديتك قرونا من العاج والآبنوس
16 أرام تاجرتك بكثرة صنائعك، تاجروا في أسواقك بالبهرمان والأرجوان والمطرز والبوص والمرجان والياقوت
17 يهوذا وأرض إسرائيل هم تجارك. تاجروا في سوقك بحنطة منيت وحلاوى وعسل وزيت وبلسان
18 دمشق تاجرتك بكثرة صنائعك وكثرة كل غنى، بخمر حلبون والصوف الأبيض
19 ودان وياوان قدموا غزلا في أسواقك. حديد مشغول وسليخة وقصب الذريرة كانت في سوقك
20 ددان تاجرتك بطنافس للركوب
21 العرب وكل رؤساء قيدار هم تجار يدك بالخرفان والكباش والأعتدة. في هذه كانوا تجارك
22 تجار شبا ورعمة هم تجارك. بأفخر كل أنواع الطيب وبكل حجر كريم والذهب أقاموا أسواقك
23 حران وكنة وعدن تجار شبا وأشور وكلمد تجارك
24 هؤلاء تجارك بنفائس ، بأردية أسمانجونية ومطرزة، وأصونة مبرم معكومة بالحبال مصنوعة من الأرز بين بضائعك
25 سفن ترشيش قوافلك لتجارتك، فامتلأت وتمجدت جدا في قلب البحار
26 ملاحوك قد أتوا بك إلى مياه كثيرة. كسرتك الريح الشرقية في قلب البحار
27 ثروتك وأسواقك وبضاعتك وملاحوك وربابينك وقلافوك والمتاجرون بمتجرك، وجميع رجال حربك الذين فيك، وكل جمعك الذي في وسطك يسقطون في قلب البحار في يوم سقوطك
28 من صوت صراخ ربابينك تتزلزل المسارح
29 وكل ممسكي المجذاف والملاحون، وكل ربابين البحر ينزلون من سفنهم ويقفون على البر
30 ويسمعون صوتهم عليك ، ويصرخون بمرارة، ويذرون ترابا فوق رؤوسهم، ويتمرغون في الرماد
31 ويجعلون في أنفسهم قرعة عليك، ويتنطقون بالمسوح، ويبكون عليك بمرارة نفس نحيبا مرا
32 وفي نوحهم يرفعون عليك مناحة ويرثونك، ويقولون: أية مدينة كصور كالمسكتة في قلب البحر
33 عند خروج بضائعك من البحار أشبعت شعوبا كثيرين. بكثرة ثروتك وتجارتك أغنيت ملوك الأرض
34 حين انكسارك من البحار في أعماق المياه سقط متجرك وكل جمعك
35 كل سكان الجزائر يتحيرون عليك، وملوكهن يقشعرون اقشعرارا. يضطربون في الوجوه
36 التجار بين الشعوب يصفرون عليك فتكونين أهوالا، ولا تكونين بعد إلى الأبد.

بتحليل بسيط لهذا النص التاريخي (للنبي حزقيال الذي عاش حوال 600 ق.م.) يتبين لنا أنه يتكلم عن صور البحرية والتي يسميها “تاجرة الشعوب إلى جزائر كثيرة” أي أنها معروفة في ذلك الزمن بتجارتها الواسعة خاصة عبر البحار إلى أراض بعيدة. ثم يدعي بأنها تتفاخر بجمالها (أنت قلت: أنا كاملة الجمال) وأنك تملكين أراض في قلب البحور أي في بلاد بعيدة لا أحد يقدر أن يصلها. ألواحك من سرو سنير السواري التي لسفنك من أرز لبنان بينما المجازيف فيها من بلوط باشان وهذه تفاصيل دقيقة عن صناعة السفن والفن الذي يدخل فيها ومن أي بلاد تأتي الأخشاب التي تصنع منها هذه السفن ومن هنا صلابتها ومرونتها وقدرة ملاحيها على المناورة. فبينما السواري أي الأعمدة الأساسية التي تحمل الأشرعة وهي جهاز الدفع الأساسي مصنوعة من أفضل خشب وأقواه، خشب أرز لبنان، فإن المجازيف مصنوعة من السنديان وهو أيضا قوي ولكنه أخف من خشب الأرز. وهي تستورده من باشان التي تقع بين الأردن وسوريا. وألواح هذه السفن مصنوعة من خشب السرو وهو يأتي من جبل سنير أي حرمون جنوب دمشق. أما مقاعد هذه السفن فهي مصنوعة من العاج. والعاج يجب أن يكون من أفريقيا أو الهند. وهو مطعم بالبقس من جزر اليونانية القريبة من الساحل التركي اليوم. أما الأشرعة المطرزة فهي من الكتان المصري. والأغطية المستعملة فيها من الأسمنجوني والأرجوان القادمة من مستعمرات قرطاجة.

البحارة والملاحون من سكان صيدون وأرواد المدينتين الفينيقيتين. والمعروف بأن أرواد هي ايضا جزيرة مثل صور ما يجعل سكانها قديرين في ركوب البحر. أما سكان صيدون فشهرتهم في ذلك كبيرة ايضا. أما الربان وقائد السفينة فهو دوما من صور. وهذا يعطينا فكرة عن ذلك الزمن الذي كانت فيه صور بالفعل قائدة بلاد فينيقية من الناحية التجارية والسياسية. فترك مكان الربان لأبناء صور لأنهم هم التجار وهم من يجب أن يعرف إلى أين يتجه وماذا يحمل في رحلته، وهي جزء من اسرار المهنة واسرار الملاحة في البحار، ووسائل التوجه ليلا ونهارا، وهي التي امتاز بها ابناء صور لكي يستمروا في السيطرة على التجارة هذا الوقت الطويل.

حكماء جبيل وشيوخها هم قلافوكي اي المسؤولين عن صناعة سفنك أي انهم التقنيون البارعون بصناعة هذه السفن وصيانتها أثناء الرحلة. ففي كل سفينة كما اليوم هناك مهندس يعرف كل اسرار صناعة السفن لكيما يصلح أي عطل يطرأ خاصة بعد تعرضها لأمواج شديدة أو عواصف عاتية. وأخيرا يقول بأن جميع سفن البحر كانوا يخدمون تجارتك. وهذا وحده دليل على عظمة تجارة صور في تلك الأيام. وكأننا في عالم اليوم حيث يستأجر التجار سفنا لنقل بضائعهم من وإلى اي مكان.

وعندما يتكلم عن الجيش والحماية ها هو يعدد فارس ولود وفوط أي رجال القتال من المشرق إلى المغرب من بلاد فارس إلى شمال افريقيا. هؤلاء انضبطوا تحت رايات صور لحماية سفنها وقوافلها وبذلك حافظوا على بهائها اي الانضباط والاستقرار. فهؤلاء يعملون في وحدات عسكرية منظمة مهمتها حماية القوافل والبضائع. وهم يقبضون اجرتهم ويحافظون على حسن سير العملية التجارية. ولا دخل لهم فيها أي لا يعرفون أحيانا ما هي البضائع ومن هم الزبائن. من هنا التنظيم الذي يحفظ بهاء المدينة لأن لكل واحد عمله ومهمته. أما الحفاظ على المدينة والأسوار فكان من مهمات بني أرواد أي جماعات فينيقية لهم دوافع اقوى للحفاظ على المدينة خاصة وأنهم تدربوا في مدينتهم المشابهة لصور من حيث كونها جزيرة كما سبق.

ثم يتكلم على المستعمرات أو ما سميناه مراكز أو محطات تجارية خارج صور وهذه هنا خلف البحار . فيقول بأن ترشيش (التي تقع في اسبانيا اليوم)، وهي تاجرة أوروبا الغربية قبل اليونان والرومان، تشكل اساس تجارة صور ومصدر الكثير من المواد الأولية التي تصنّعها وتتاجر بها مثل الفضة والحديد والقصدير والرصاص. أما النحاس فمن اليونان وتركيا اليوم بينما تشكل أرمينيا مصدر الخيول والبغال وبالطبع تزودها بالفرسان.

ومن الجنوب أي بلاد العرب (شبه الجزيرة العربية اليوم) يتاجرون معك ببضائع آتية من بلاد ابعد مثل الهند لأن قرون العاج يجب أن تأتي من الفيلة أي من الهند أو من الحبشة أي الجانب الأفريقي حيث تكثر الفيلة وتربى وتستعمل. وأما الأبانوس ومصدره معروف كونه يأتي من شجر لا ينمو الا في الهند وسيريلانكا وأندونيسيا. وكان العرب وخاصة جماعة اليمن وعمان يعملون لصالح تجار صور ويشترون هذه البضائع من الهند وغيرها (والجدير بالذكر أن هناك مدينة قديمة على شاطيء عمان اسمها صور ما قد يعني بأنها بنيت من قبل تجار من صور بهدف التجارة مع الهند أو انها كانت إحدى محطات تجارتها).

آرام، أي بلاد ما بين النهرين، كانت تتاجر معك بالصباغ الأرجواني والبهرمان (أي الصباغ الأصفر) وبالأقمشة المطرزة والمرجان والياقوت. أما أرض يهوذا واسرائيل فقد تاجروا معك بالحنطة والحبوب والحلاوة والعسل والبيلسان. ودمشق كانت تأتيكي بالصوف الأبيض وخمر حلبون . ومن ثم يعود إلى اليونان الذين باعوا غزلا أي خيطان مغزولة للنسيج في اسواق صور كما باعوا حديدا مشغولا وعطورا (سليخة قصب الذريرة). أما العرب فقد باعوا في اسواق صور ايضا منتجات من طنافس الركوب وهي البسط التي توضع على ظهور الخيول والأبل. وتاجروا ايضا بالخرفان والكباش والأعتدة. أما تجار اليمن فقد كانوا يتاجرون بالطيب والبهارات والذهب والأحجار الكريمة .

وإذ يلخص بأن التجار من الشرق والشمال والجنوب قد تاجروا معك وبكل أنواع المصنوعات المطلوبة في تلك الأيام بينما سفن ترشيش هي التي تحمل كل تلك البضائع إلى المناطق التي خلف البحار ولا أحد غيرك يملك تلك الوسائل أو الأسواق مجتمعة.

من هنا وبهذا الوصف الدقيق يعطي النبي حزقيال فكرة جيدة وواضحة عن تجارة صور التي تعتمد على البيع والشراء وعلى تصنيع أنواع من المنتجات التي تحتاج إلى مواد أولية تستوردها وتعيد بيعها مصنعة.
وإن كان النبي حزقيال قد وصف عظمة صور وغناها وتجارتها في القرن السادس قبل الميلاد فإن سفر الملوك عندما يتكلم عن بناء هيكل سليمان بكل التفاصيل الدقيقة يعطينا فكرة عن مدى تقدم الصناع والفنانين والمهندسين الصوريين الذين وضعوا خبرتهم في بناء هذا الهيكل. وهذا الغنى والاستقرار والأسواق التي تتاجر معها صور بحسب وثيقة النبي حزقيال لا بد أن تكون قد بنيت خلال قرون من الزمن ساد فيها نوع من السلم وساهمت باستمرارها سياسات حكيمة أمنت علاقات ناجحة مع دول المحيط بدون أن يكون هناك تسلط بالقوة بل نوع من القانون الذي يحمي حقوق الكل مع بعض السرية حول مصادر المواد الأولية ومن ثم طرق التصنيع وكمية الأرباح التي يدخل فيها بالطبع النقل ومخاطره ووسائله والضرائب التي تدفع فلا يمكن لأي كان أن يدّعي المقدرة على الغوص في كل هذه الأمور ومعرفة تفاصيلها التي تجمّعت عند زعامة صور والتي تألفت من الملك رأس الهرم وكهنة الهيكل حافظي الأسرار ومراقبي الأخلاقيات وطبقة التجار والصناعيين وربابنة السفن الذين كان لهم المعرفة والخبرة التي، مجتمعة، تؤمن استمرار العمل الناجح بينما التمثيل السياسي في المجالس المنتخبة كان يؤمن الاستقرار الداخلي وعدم التوجه نحو السيطرة بالقوة. فقد كانت القوى العسكرية دوما من المأجورين المتنوعي المصادر وتحت امرة الملك بواسطة قادة محليين. وكان لكل المدن الفينيقية وخاصة صور نوع من الحماية الخاصة والتي تتألف من نخبة السكان وأبناء التجار وكبار المنظورين وهي تسمى “الكتائب المقدسة” التي لا تتدخل إلا في حالات الدفاع عن المدينة مباشرة.