الكولونيل شربل بركات/هللويا… هوشعنا

165

هللويا… هوشعنا…
الكولونيل شربل بركات/22 آب/2020

الايمان والانسانية صنوان لم يفترقا منذ آلاف السنين…

نظر الانسان إلى ما حوله… وفكر… وهذا الفكر اوصله إلى تنظيم الكون ورعايته…

تسائل عن الموجودات وراقب الكواكب والأبراج. راقب السماء والمطر، الهواء والبحر. وأعجب بتصرف الحيوانات من حوله، ولباقتها في استعمال الموجودات للاستمرار. جرّب أن يصارع فوجد من هو أقوى منه، وجرّب أن يجري فوجد من هو اسرع منه، وجرّب أن يقاوم لكي يتجاوز المصاعب… وهنا بدأ يشغل عقله فوجد طرقا لتطويل باعه، ووجد وسائل يدفع بها خصمه، ثم اكتشف أن تعاونه مع أبناء جنسه يسهم في حمايته، ويسهّل توفير لقمة العيش، فلم يعد التقاتل على الفريسة، بل ضدها، لتصبح قوتا للمجموعة. وصار هذا مبدأ وهدف.

واكتشف النار وإذا بها تعينه على رد البرد في الكهوف الباردة شتاءً، ولكنها تعينه أكثر على ردع الحيوانات المفترسة يوم لا يكون قادرا على ذلك. وصارت النار تلك مهمة لدرجة أن يفهم كيف يقاربها ويبقيها مشتعلة ومن ثم يأخذها معه في تنقله. وصارت عملية إحداثها أو حدوثها مهمة عنده لدرجة أنه ربطها بالسماء ليتعرّف على ذلك الساكن “فوق” يرسل الغمام فتمطر، ويرسل النار فيشتعل كل ما يقاربها، ويحرك الهواء فيطفئوها أو ينشرها. ولكنه في النهاية وبكل التجريد الذي امتلكه عقله عرف أن يغذّي هذه النار لتبقى مشتعلة على مدار السنة فيستعملها، ليس فقط للتدفئة والدفاع، بل ايضا للنور ليلا ومن ثم لكي يحسّن طعم مأكولاته.

ثم ركّز على السلاح ليدافع عن نفسه أو يهاجم به الغير. فكانت الهراوة التي أعطته مزيدا من القوة لضرب الخصم، وكانت العصا الطويلة التي أعطته الفرصة لابعاد العدو ودفعه كي لا يصل إليه. ومن ثم أراد أن يصيب عن بعد طريدته فاستغل الأغصان الخضراء الطرية التي بعد أن تلوى تنطلق بسرعة لتعود إلى وضعها الاساسي، ومن هنا كانت له فكرة ربطه بخيط من الجلد وأطلاقه مع حجر أو ما شابه ليلحق الخصم أو الطريدة، ونجح أخيرا أن يحصل على القوس الذي يطلق السهم ويمكن نقله بسهولة. فكان هذا أحد أهم الاختراعات بعد اكتشاف النار، وقد بقي يتطور حتى ايامنا. وبعد أن تعب من الصيد والركض خلف الحيوانات، دجّن بعضها فحصل على ما يكفيه من القوت، ومن ثم بدأ يكتشف بأن الحبوب والخضرة تنضب مع الوقت وعليه في كل مرة الرحيل والتفتيش عن بقعة ملائمة فيها ما يكفي للمرعى والمأكل. ثم راقب النباتات وكيف تنموا، واكتشف بأنه قادر أن يزرع ويأكل بدون الحاجة للرحيل. وهنا بدأ الاستقرار.

مع الاستقرار بدأت مرحلة جديدة من التنظيم الاجتماعي فكانت العائلة الوحدة الرئيسية في هذا التنظيم ومنها كبرت العشيرة التي تدافع عن بعضها وتحترم، لضرورة التعاون على الآخر، ما يخص افرادها. وهنا كانت الذاكرة مهمة ولكنها لا تنتقل بين الاشخاص ولا عبر الأجيال لذا وجب عليه أن يجد وسيلة للتواصل وتوضيح الفكرة ونقل الخبرة، فكانت بداية تسمية الأشياء بحسب اشارات صوتية. ونجحت الفكرة، وبدأت المجموعات تتناقل التسميات، ومن ثم بعض الخبرات عبر هذه الاشارات الصوتية. وبعد أن كبرت التجمعات وزادت التسميات ونجح التخاطب، أصبح لكل عشيرة نوع من هذه التسميات تعرفها وحدها وتتناقلها من جيل لجيل وتتطور عبر الأجيال. ولما نجحت بعض هذه التجمعات، الذين قطنوا أودية الأنهر الكبيرة والخصبة، في زيادة عدد السكان، كان التنظيم ضروري لفرض نوع من الانضباط بين الناس. وبما أن القوة في النهاية هي التي تفرض الاحترام، خاصة في المجتمعات الكبيرة، أصبح الزعيم ومن ثم الملك.

هو من يسن القانون ويفرضه. ولكن النار التي لم يعرف الانسان بعد كيفية إحداثها بقيت اساس لكي يجد الكل سبيلا للتعاون على ابقاء مصدر لها يزوره الكل “ليتباركوا” بها. وكان “حراس النار” الذين يقطنون الجبال حيث تسقط “النار السماوية” في بداية فصل الأمطار، فيجمعونها من بين الاغصان المشتعلة ويبقوها مشتعلة لحاجات الناس حتى سقوطها مرة أخرى. من هنا أصبح هناك ضرورة لوجود هؤلاء الحراس في المجتمعات المنظمة. وشيئا فشيئا صار على العامة أن يحضروا ما يستعمل لابقاء هذه النار مشتعلة. من هنا دخلت التقدمة ومعها تطورت الكهانة واختصاص هؤلاء الحراس بكل ما يتعلق “بالساكن فوق”. وصار هناك توازن بين سلطة الأرض (القوة) وسلطة السماء (الإيمان).

بالايمان سمي الساكن فوق بالعالي “عال” أو “ايل” وانتقل إلى أغلب المواطن المستقرة، فهو يرسل ناره السماوية اي بركته (برق أو برك) ليساعد الخليقة. ولكن تفكير الحراس لم يتوقف عند النار، وصار يحاول أن يفهم الأصل والحياة. فراقبوا الانسان منذ ولادته إلى يوم يموت ووجدوا بأن ما يرافقه دوما هو ذلك النفس ال “ها” وعندما يتوقف هذا ال”ها” يعني موت الانسان. إذا اين يذهب ال”ها” وكيف يأتي؟ هي أسئلة مهمة. وبما أنه في تفكيرنا يجب أن يكون لكل شيء من يعطيه فان هناك من يعطي ال”ها” ويستردها ساعة يشأ. من هنا صار “ها” أو “ياه” أو “ياهو” معبود مهم لا يمكن معاندته خوفا من أن يغضب فيسترد ال “ها”. وبينما كان جماعة ما بين النهرين يعتقدون بأن ذلك القابض على الصواعق والذي يسكن فوق هو الأهم إذا بمن سكن على شواطئ المتوسط يدخل نظرية ال”ها” وأهميته ما جعل هناك معبودان أو مكرّمان اهتمت الأغلبية بمراضاتهما؛ الساكن في الأعالي “إيل” ومعطي الأرواح “ها”.

عندما نقول هلل ونعتبرها فعل ودعوة لرفع الصوت والصراخ باتجاه المعبود، ربما كي يسمع، فإننا نجمع تسميات لمعبودين هما “ها” و”إيل” فنقول ها-إيل أو ها- ليل لتكون اسهل للفظ وعندما نقول ها-ليل-لو-ياه فإننا نشدد على الجمع بين “ها” و”إيل” ونزيد مرة أخرى أو نكرر :ال” و “ياه” للتشديد على أهمية الساكن العالي “ال” ومعطي الحياة ومستعيدها “ياه”. وقد تكون هذه أول دعوة لوحدة المعبود والتي مع “ابراهيم الخليل” أصبحت “ال-ها” أو اله. وهذه الهللويا بقيت منذ ما قبل الألف الثالث في لغاتنا البشرية ولم تزل تتناقلها الأديان والشعوب حتى اليوم اشارة إلى استمرارية الإيمان المتجاوز للزمن والجغرافية والذي يسكن في داخل الذاكرة الجماعية للانسانية جمعاء.

ولا بد من ذكر مصطلح آخر نردده في لغات كثيرة حول العالم وهو “هوشعنا” وقد ورثناه أيضا من ما قبل اليهودية والمسيحية. وبالرجوع إلى المعنى فإننا نجد أول مقطع يبدأ ب”هو” أو ها او ياه ومن ثم “شع” المقطع الثاني والذي يشير إلى النور بكل معانيه والتي تشمل في طياتها النار المقدسة التي تشع وهجا ونورا وأما المقطع الأخير فهو “نا” أي نحن فتصبح “هو” شعّ علينا وغالبا ما تلحق هذه العبارة “في الأعالي” وهي للتأكيد على أهمية “ال”. إذا نحن نقول ونعترف حتى اليوم بأن “هو” “شعّ” علينا من الأعالي. يعني أن النار التي تصلنا من “ال” هي نار محبة “ياه” التي تغمرنا بعطفه (وتبقي لنا الحياة). وبهذه يتلخض التوحيد للمعبود الواحد الأحد الذي “ينفخ” بروحه في التراب (بحسب العهد القديم- سفر التكوين) ليصير انسانا ويعطينا ناره التي هي الدفء والقوة والنور والذي يشمل نور الفكر أيضا والمعرفة وما إلى هنالك.