أحمد عدنان: لبنان أيام عبدالعزيز خوجة/خيرالله خيرالله: لعنة اغتيال رفيق الحريري

512

لبنان أيام عبدالعزيز خوجة
أحمد عدنان/العرب/14 شباط/16/

نتحدث عن ظرفين متقاربين هذه الأيام، مرور 11 عاما على انتفاضة الاستقلال في لبنان التي فجرها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، ومباشرة د. عبدالعزيز خوجة لعمله سفيرا لخادم الحرمين الشريفين في المغرب، والرابط المشترك بين المناسبتين أن خوجة كان سفيرا للمملكة في لبنان إبان ثورة 14 آذار، وهذه فرصة للتذكير بالتاريخ. وصل خوجة إلى بيروت بعد ثلاث سفارات ناجحة: تركيا وروسيا والمغرب، وصل مخدوعا باستقبال بيروتي دافئ. توقعها استراحة محارب بعد مسيرة دبلوماسية ثقيلة، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، اشتعلت أزمة التمديد للرئيس اللبناني الموالي لسوريا (إميل لحود) ووقعت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كان (خوجة) قد التقى (الحريري) قبل الاغتيال بأسابيع وحذره من استهداف “الجيران”، رد (الحريري) “الوطن ليس فندقا، سأبقى في لبنان، ويسعدني أن أموت في سبيله كما عشت من أجله”. براكين الدنيا انفجرت في لبنان بعد 14 فبراير 2005. دشّن اللبنانيون ربيع العرب بخروجهم المليوني إلى ساحة الشهداء مطالبين بإنهاء عهد الوصاية السورية ومحاسبة قتلة الشهيد الحريري. استقالت حكومة عمر كرامي بعد خطب نارية من نواب المعارضة في البرلمان وعلى رأسهم بهية الحريري ومروان حمادة الذي قال نصا “أنظر إلى مقاعد الحكومة ولا أرى أحدا”. عاد ميشال عون من المنفى وخرج سمير جعجع من السجن، والأهم إجراء أول انتخابات نزيهة في لبنان منذ الحرب الأهلية أفضت إلى تمكن تيار السيادة والاستقلال من السلطة. كانت ثورة الأرز محظوظة -داخل لبنان- برجلين، أحدهما زعيم الجبل وحكيم الطوائف المشرقية وليد جنبلاط، والثاني عبدالعزيز خوجة. والأهم أن أنها حظيت برجلين خارج لبنان هما عبدالله بن عبدالعزيز ثم الرئيس المصري حسني مبارك. ما كانت لسوريا أن تخرج لولا موقف وليّ العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز أثناء زيارة الرئيس بشار الأسد إلى الرياض بعيد اغتيال (الحريري)، قال القوي السعودي – الذي أصبح ملكا فيما بعد- لطاغية دمشق “إما الانسحاب الكامل من لبنان وإما قطع العلاقات”.

السندباد السعودي
لن ينسى وليد جنبلاط لقاءه بحسني مبارك في خضم ثورة الأرز يوم قال له “بشار الأسد مجرم وسيعاقب على إرهابه”، ولن ينسى لقاءه مع رفيق الحريري بعد زيارته لبشار، تراهنا على من سيغتال منهما أولا، وتعاهدا على نصرة أحدهما الآخر حيا وميتا. كان خوجة وجنبلاط يعلمان أن قرار الاغتيالات صدر في دمشق وطهران مع تكليف (حزب الله) بآلية القتل والتنفيذ، حينها ارتأى (جنبلاط) تركيز اتهامه السياسي على من أصدر القرار لحماية البلد من فتنة سنية-شيعية تاركا كشف المنفذين لتوقيت آخر. لكن ماكينة القتل لم تتوقف، اجتمع خوجة بالسيد حسن نصر الله وأبلغه أن المعلومات المؤكدة كشفت أن تفخيخ السيارة التي استهدفت الحريري تم في الضاحية (معقل الحزب الإلهي) محذرا من مغبة الإرهاب وبأن المملكة لن تسكت، رد أمين عام (حزب الله) “سنحرق البلد إذا استهدفتمونا”. قال (خوجة) “لا أحد يريد إحراق لبنان، اِلجم قتلتك وحاسبهم بيدك وانضو في العملية السياسية، التفاهم أولى من الإحراق، لا أحد يريد أن ينصر إسرائيل ولا أحد يريد إلغاء الآخر”. لم تبد أيّ بوادر تشير إلى أن (حزب الله) يريد التفاهم، سافر خوجة إلى الرياض تلبية لاستدعاء العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، وكان موضوع الاجتماع واحدا، المحكمة الدولية، تسرّبت فكرة المحكمة إلى الساحة اللبنانية فواجهها (حزب الله) بتعطيل الحكومة عبر اعتكاف وزرائه غير مرة، حينها لم يتحمل (جنبلاط) ما يجري فأطلق صرخته المدوية “تم تفخيخ السيارة التي استهدفت الحريري بسلاح الغدر في الضاحية” فرد عليه (حزب الله) “لو كان الغدر رجلا فهو وليد جنبلاط”.

يتذكر (خوجة) جيدا لحظة وصول ديتليف ميليس إلى لبنان، المحقق الدولي الأول في جريمة اغتيال الحريري، يتذكر استقالة القادة الأمنيين المسؤولين سياسيا عن اغتيال الحريري. لا ينسى تلك الليلة التي زار فيها أحد الضباط منزله متهما زملاءه باغتيال الحريري. ولا ينسى الليلة التي تلتها حين حضر ضابط آخر ليبرّئ نفسه -أيضا- ويتهم البقية.

كانت الحلقة تضيق على (حزب الله) في لبنان، وتضيق على إيران وسوريا في المنطقة، حينها افتعل (حزب الله) حرب تموز عام 2006. وقتها واجه خوجة أصعب اختبار في حياته الدبلوماسية، فقد صرحت المملكة بأن ما فعله (حزب الله) “مغامرة غير محسوبة”. كان مطلوبا من (خوجة) أن يحافظ على اتصالاته بـ”حزب الله” رغم موقف المملكة الحاد. وجد (خوجة) أن المكاشفة هي الحل، استقل سيارته واتجه إلى المخبأ الخاص للسيد حسن نصرالله، كان الاجتماع ساخنا ومع ذلك انتهى كما يريده (خوجة). العلاقة بين (خوجة) ونصرالله معقدة للغاية. أهم إنجاز حققه خوجة -على هامش حرب تموز- تظهير قرار انتشار الجيش في الجنوب اللبناني لأول مرة منذ حربي 1948 و1967. بعد حرب تموز، واجه (خوجة) ثلاث أزمات خطرة، حرب النهر البارد وحصار السراي وأحداث أيار. كانت الحرب التي أعلنها تنظيم (فتح الإسلام) ضد الجيش مؤامرة كادها بشار الأسد بهدف سيطرة الإرهاب على طرابلس الشمال عاصمة السنة المعادية له. كان ردّ الدولة اللبنانية حاضرا بقرار شجاع من الرئيس فؤاد السنيورة حربا على الإرهاب. أمر العاهل السعودي بدعم الجيش اللبناني وبتغطيته سياسيا. نجحت سياسة المملكة ونشاطات (خوجة) لأنها عبّرت عن الحقيقة، ولأنها تلقت مصادقة -غير مقصودة- من الأمين العام لـ(حزب الله) الذي أعلن في أغبى تصريح سياسي “النهر البارد خط أحمر” مناصرا (فتح الإسلام) ضد الجيش، فانكشف كل شيء. انطلقت أعمال المحكمة الدولية. كان خوجة وهو يسمع الادعاء يتهم عناصر من حزب الله باغتيال رفيق الحريري ورفاقه من شهداء ثورة الأرز يتذكر نصيحته لحسن نصرالله “لا أحد يريد إحراق لبنان”

مؤتمر الرياض
بعد حرب تموز، عطل الوزراء الشيعة حكومة السنيورة بذريعة تشكيل حكومة وحدة وطنية. كان هدف (حزب الله) الحقيقي تعطيل القرار السياسي بالاستيلاء على نصاب الثلث زائد واحد، ومن أجل ذلك حشد أنصاره في ساحة رياض الصلح. استطاع الحزب الإلهي تعطيل المفاصل الأساسية في البلاد، فطغى الفراغ على سدة الرئاسة الأولى، والانتخابات النيابية أصبحت مهددة. لجأ (خوجة) حينها إلى صديقه الخاص نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني. توصل الصديقان إلى أن لبنان بحاجة إلى اتفاق مرحلي يخرجه من الأزمة ويعيده إلى اتفاق الطائف. وهنا بزغت فكرة “مؤتمر الرياض”. هدف المؤتمر إلى: تحقيق الإجماع على المحكمة الدولية، إقرار قانون انتخابي نيابي جديد ودائم ثم التوافق على رئيس جمهورية ووضع قواعد ثابتة وواضحة لتشكيل الحكومات. وضع الصديقان تفاصيل كل بند في المؤتمر وحلوله المقبولة من كل الأطراف، لكن الطعنة جاءت لـ(خوجة) من أقرب الحلفاء، السنيورة ثم سعد الحريري. علاقة (خوجة) بـ (بري) تكشف أهم مزاياه كدبلوماسي، أي قدرة بناء الثقة والاحترام مع الخصوم وتسخير ذلك من أجل بلاده. كشف الرئيس بري -غاضبا- مشروع مؤتمر الرياض الموؤود، فعلق (خوجة) المغتاظ من حلفائه “الرئيس بري وضع النقاط على الحروف”. العلاقة بين (خوجة) و(بري) عجيبة. في مجلس خاص قال (خوجة) “كانت اجتماعاتي

مع الرئيس بري دقيقة دائما، نتحدث بثقة وبصدق وبأوراق مكشوفة، لذلك كانت العلاقة بناءة ومستقرة على الدوام حتى في أحلك الظروف”. ربما عرف (بري) طموح النائب العوني عباس الهاشم لرئاسة مجلس النواب بعد انتخابات 2005 وعلم كيف سقط ذلك الترشيح لبنانيا ودوليا بعد اجتماع خاص جمع خوجة مع أمين عام (حزب الله). لم ينعقد مؤتمر الرياض وتمادى (حزب الله) في طغيانه. اكتشفت السلطات اللبنانية أن الحزب الإلهي زرع كاميرات مراقبة في المطار كما اكتشفت شبكة اتصالات سلكية للحزب خارج مسرح العمليات. أمرت الحكومة اللبنانية بمصادرة الكاميرات وإقالة مدير المطار وتفكيك شبكة الاتصالات. غضب (حزب الله) واحتل بيروت وروّع الجبل وقتل العشرات، فكانت النتيجة اتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة ظاهريا. انتهى مؤتمر الدوحة بتسهيل انتخاب ميشال سليمان رئيسا. كانت 14 آذار رشحت للرئاسة نسيب لحود وبطرس حرب، و8 آذار رشحت ميشال عون لرئاسة الجمهورية. حاول عمرو موسى (أمين جامعة الدول العربية) التوفيق بين الفريقين لكن جهوده باءت بالفشل. الرعاية العربية لـ14 آذار، اعتمدت خطة احتياطية بتوثيق الاتصالات بقائد الجيش وبطل معركة النهر البارد عبر رئيس المخابرات السعودية الأمير مقرن بن عبدالعزيز ورئيس المخابرات المصرية عمر سليمان، لذلك تمكن سعد الحريري من مباغتة الجميع حين أعلن عن مرشح أخير لا يمكن رفضه. بعد فشل مباحثات موسى وسقوط ميشال إدّه مرشح بطريرك السيادة الاستقلال نصرالله صفير، جاء ميشال سليمان رئيسا. 14 آذار لم ولن تموت والأيام بيننا، ساحة الشهداء أهم من قصر بعبدا وأهم من السراي الحكومي، شعب 14 آذار فوق أحزابها وساستها ومصالحهم وصفقاتهم، ومن لم يخف بشار الأسد لن يخشى حسن نصرالله وخامنئي، عودوا إلى الشارع تتّحدوا ويصطف العالم خلفكم ويتلاشى خصومكم، عشتم وعاش لبنان

ذكريات خوجة اللبنانية
في خضم الأزمة اللبنانية تعرض (خوجة) لأكثر من محاولة اغتيال سلمه الله من شرها ولم يعلن إلا عن واحدة، كانت تلك المحاولات نهاية علاقته المباشرة بحسن نصرالله!. من ذكريات خوجة اللبنانية، تعجّبه من الزعامة الأسطورية لوليد جنبلاط التي تستطيع أن تنقل فورا طائفة بأسرها من اليمين إلى اليسار من دون تمهيد أو تفسير وبلا توقف. الحواسيب العملاقة في رأس فؤاد السنيورة ورباطة جأشه الماسية، الدهاء اللافت لميشال المر الذي سماه مرة “ميشال بن أبي سفيان” في إشارة إلى داهية العرب معاوية، التحفظ المتوجس إزاء سمير جعجع الذي تحول إلى إعجاب واحترام نظير العقل المنظم والصلابة المبدئية، الدهشة البالغة من جان عبيد المسيحي الذي يحفظ القرآن كاملا ويعرف عن الإسلام أكثر من بعض المسلمين، التركيبة النادرة للرئيس عمر كرامي الذي كاد يغطي حصار السراي لولا اتصال (خوجة) به “أنا حزين لأن شقيق رشيد كرامي سيسلم قرار بلاده للأجنبي” لحظتها انتفض كرامي صارخا “والله لا يمكن” ولم يذهب إلى ساحة رياض الصلح كما كان مخططا.

بعد انتخابات عام 2009 تفاءل (خوجة) بصديقه المفضل سعد الحريري رئيسا للوزراء “لقد اختمر سعد، تأثرت حين رأيته يتقدم شعبه في جنازة الشهيد وليد عيدو قائلا للناس أنا معكم ولكم وبكم، إنه نقيّ ومخلص، لقد احترمته وأكبرته حين تحرر من رهبة الموت”! حين تولى (خوجة) وزارة الثقافة والإعلام، لم يتحرر تماما من أعباء الملف اللبناني، كانت الانتخابات اللبنانية على الأبواب. أكد (خوجة) للقيادة السعودية بأن الانتخابات ستنتج نصرا حاسما لقوى 14 آذار، سعد العاهل السعودي بصوابية وزيره ودعاه على طائرته الخاصة في رحلة من الرياض إلى جدة ليبلغه رؤية المملكة للمرحلة المقبلة. علم الوزير بالمهمة الجديدة، مرافقة الأمير عبدالعزيز بن عبدالله إلى دمشق تلبية لدعوة بشار الأسد. طلب الأسد الاجتماع بـ(خوجة) على انفراد، جلس الخصمان 4 ساعات متوالية، بدأ الاجتماع بقول الأسد “قالوا لي إنك خبير بالشأن اللبناني، أنا أعرف لبنان أكثر منك”. رد (خوجة) “إن معرفتي المتواضعة بلبنان لا تضاهي معرفة سيادتكم، لكنها كافية للانتصار الكاسح في الانتخابات”. لم ينس بشار إجابة خوجة، زار العاهل السعودي دمشق بعدها بأشهر وعقد اجتماعا مغلقا مع الرئيس السوري ثم توجها إلى المأدبة المفتوحة، وقبل الجلوس توجه بشار إلى (خوجة) مباشرة ليقول له “game overيا عبدالعزيز”، ابتسم (خوجة).

مرت الأشهر وقامت الثورة السورية ليخسر بشار لبنان وسوريا نفسها. ولعل (خوجة) وهو يتابع أخبار الرئيس السوري يود الاتصال عليه ليقول له “game overيا بشار”. شهدت تلك الفترة ضياع البوصلة من قائد ثورة الأرز وليد جنبلاط. أعلن خروجه من تيار 14 آذار. كان (خوجة) برفقة الملك في إجازة بالمغرب. كلفه العاهل السعودي بالتوجه إلى لبنان للقاء (جنبلاط). حين وصل الوزير العتيد إلى المختارة قال له الزعيم “أريد أن أحمي طائفتي، والمملكة مكانها في القلب”. غادر (خوجة) قصر المختارة مشفقا على صديقه القديم ومتفهما له، لقد دخلت علاقته بالرياض في ثلاجة، ذهب وليد جنبلاط إلى دمشق، هاجم حسني مبارك بلا رحمة لدرجة احتفاله بسقوطه في ثورة 25 يناير. لكنه لم يمسّ الرياض مطلقا لأنها في وجدانه. أعادت الثورة السورية لجنبلاط نصف البوصلة، وبقي النصف الآخر أسيرا في ذكرى اعتداء (حزب الله) على الجبل في أحداث أيار.

انطلقت أعمال المحكمة الدولية. كان (خوجة) وهو يسمع الادعاء يتهم عناصر من (حزب الله) باغتيال رفيق الحريري ورفاقه من شهداء ثورة الأرز يتذكر نصيحته لحسن نصرالله “لا أحد يريد إحراق لبنان”. أذكّر بهذا التاريخ لأتساءل: ماذا فعل اللبنانيون بأجمل أيامهم وأحلامهم؟ مرت 11 عاما على انتفاضة الاستقلال، أولى ثورات ربيع العرب وربما آخرها. كان لبنان حديث العالم ورفيق الحريري هو العنوان، مئات الألوف من اللبنانيين في ساحة الشهداء بلا طوائف وبلا أحزاب، كانوا لبنانيين فقط، ربما لأول ولآخر مرة في تاريخ لبنان الحديث، كان جبران تويني يشدو بقسمه الخالد “نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين إلى أبد الآبدين، دفاعا عن لبنان العظيم”. وكانت جموع اللبنانيين من مختلف الشرائح تردد رغم أنف الوصاية البعثية وسلاح حزب الله “حرية، سيادة، استقلال”. تكرر المشهد لسنوات في ساحة الشهداء بزخم أقل، تبعثر ساسة 14 آذار وهجروا جمهورهم الذي يصحح أخطاءهم، هناك من ترك لبنان وهناك من اختار طائفته، والخصوم يتباهون باغتيال قوى 14 آذار التي قالت آخر مرة في ساحة الشهداء “لا لسلاح حزب الله” وسبقت ربيع العرب بالشعار الترياق “نعم للدولة وللاعتدال”. 14 آذار لم ولن تموت والأيام بيننا، ساحة الشهداء أهم من قصر بعبدا وأهم من السراي الحكومي، شعب 14 آذار فوق أحزابها وساستها ومصالحهم وصفقاتهم، ومن لم يخف بشار الأسد لن يخشى حسن نصرالله وخامنئي، عودوا إلى الشارع تتّحدوا ويصطف العالم خلفكم ويتلاشى خصومكم، عشتم وعاش لبنان.

 

لعنة اغتيال رفيق الحريري
خيرالله خيرالله/العرب/14 شباط/16/

بعد يومين من اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير 2005، كتبت هذا المقال الذي صدر في صحيفة “الرأي” الكويتية تحت عنوان “أزمة النظام السوري”. صار في الإمكان الآن تغيير العنوان الأصلي، علما أنّه لا يزال صالحا، ووضع عنوان آخر هو: لعنة اغتيال رفيق الحريري. كان المقال الإشارة الواضحة الأولى، أقلّه من وجهة نظري، إلى عمق الأزمة التي يعاني منها النظام والتي جعلته في حال هروب مستمرّة إلى الأمام وصولا إلى ما وصل إليه اليوم. يمارس في هروبه الشيء الوحيد الذي يعرف عمله، أي القتل. هنا نص المقال الذي لا يزال صالحا إلى اليوم في جانب منه. ما تغيّر حجم المجازر المرتكبة مع تركيز خاص من النظام وحلفائه القتلة على الشعب السوري المظلوم. ما تغيّر أيضا أنّ الطرف الذي تولّى تنفيذ الاغتيال بات معروفا من دون أن يعني ذلك أن النظام السوري بعيد عن الجريمة:

“كان لبنان الحقيقي كله في وداع رفيق الحريري. لبنان البشر. فقد كان رفيق الحريري الذي مات شهيدا، على درب رياض الصلح وكمال جنبلاط والمفتي حسن خالد وغيرهم من الكبار، زعيما وطنيا من طراز نادر لم يعرف لبنان مثيلا له في تاريخه. كان أيضا أحد أولئك الكبار الذين آمنوا بلبنان وعروبته وبأنه وطن متميز في منطقة أكثر ما تحتاج إليه هو العيش المشترك بين الأديان والطوائف والقوميات والمذهبيات. كان رفيق الحريري قبل كلّ شيء إنسانا ورجلا منفتحا يؤمن بلبنان والعروبة ولا يمكن مقارنته سوى بكبار الزعماء الذين عرفهم لبنان، وعلى رأسهم رياض الصلح بطل الاستقلال.

اغتالوا الجسد لا المشروع
ذهب رفيق الحريري إلى أبعد ما ذهب إليه رياض الصلح، نظرا إلى أنه كان عليه العمل على استعادة لبنان استقلاله وإعادة بناء ما دمرته حروب اللبنانيين وحروب الآخرين على أرض لبنان في آن. لعل إحدى أهم ميزات شخصية رفيق الحريري أنه كان يتطور باستمرار. كان رجلا متواضعا يسعى إلى التعلّم يوميا. كان من الزعماء العرب القلائل الذين يستطيعون قول عبارة: لا أعرف. كان يقول لا أعرف في حين يعتقد كثيرون أنهم يعرفون كل شيء. مكنته تلك الميزة من أن يكون مختلفا. لم يكن رفيق الحريري، الذي حسده كثيرون على نجاحه، شخصا عاديا في أيّ مقياس من المقاييس. ولذلك كان عليه أن يصطدم في نهاية المطاف بالنظام في سوريا بعدما سعى بكل ما يستطيع إلى استعادة لبنان لاستقلاله بما يخدم مصالح البلدين ويخدم سوريا أولا. كانت مشكلة الرئيس رفيق الحريري في أنه استطاع استيعاب المعطيات الإقليمية وما تعنيه عبارة مصلحة البلدين في وقت لم يكن في دمشق من يريد أن يجاريه في ذلك. لم يعد في دمشق من هو قادر على استيعاب أن لبنان المعافى خدمة لسوريا وأنّ ما يقال عن وحدة المسارين لا تعني بالضرورة إملاءات سورية على لبنان وأن أفضل ما يخدم سوريا ولبنان في آن التوصل إلى تفاهم بينهما خصوصا أنه ليس طبيعيا ولا منطقيا أن تنتصر برلين الشرقية على برلين الغربية، وهو ما أثبته التاريخ بالفعل وليس بمجرد القول. ليس رحيل رفيق الحريري خسارة للبنان فحسب، بل خسارة لسوريا أيضا، لذلك كان الأجدر بسوريا المحافظة عليه بكل ما تمتلك من وسائل وأدوات بعيدا عن أيّ نوع من السياسات الغبية التي لا يمكن إلا أن ترتد عليها. بصراحة، كان الأجدر بسوريا السعي إلى المحافظة على رفيق الحريري كي تتمكن من تجاوز الأزمة التي تمر فيها. والأزمة التي تمر فيها سوريا هي أزمة نظام يعتقد أنه لاعب إقليمي في حين أنه لا يمتلك أيّ ورقة تمكّنه من أن يكون لاعبا على هذا المستوى.

على العكس من ذلك، يحرم اغتيال رفيق الحريري سوريا من إحدى أهم أوراقها. والمعني بذلك أنه يحرمها من رجل عربي حقيقي يؤمن بكل ما هو في مصلحة العرب عموما وسوريا خصوصا. أكثر من ذلك كان رفيق الحريري قادرا على أن يفتح أبواب العالم في وجه سوريا في حين أن ليس في دمشق هذه الأيام من هو قادر على التوجه إلى العالم أو مخاطبته. إن النظام السوري ليس قادرا في أيّ شكل على حل أزمته في ظل غياب رفيق الحريري، مثلما أن اغتيال كمال جنبلاط لم يساعده في أيّ شيء في المدى الطويل. لقد أمّن له اغتيال كمال جنبلاط هدنة استمرت بضع سنوات لكن اغتيال هذا الزعيم اللبناني العربي والعروبي والتقدمي ما لبث أن ارتد عليه وبالا في لبنان وسوريا، وتبين مع مرور الوقت أنه إذا كان المطروح اعتبار لبنان دولة مصطنعة فإن الكيان السوري سيكون كله في مهب الريح متى مورست سياسات تقوم على هذا الطرح. لم يكن رفيق الحريري، الذي حسده كثيرون على نجاحه، شخصا عاديا في أيّ مقياس من المقاييس. ولذلك كان عليه أن يصطدم في نهاية المطاف بالنظام في سوريا بعدما سعى بكل ما يستطيع إلى استعادة لبنان لاستقلاله بما يخدم مصالح البلدين ويخدم سوريا أولا

بكلام أوضح إن لبنان وجد ليبقى وإذا كان البلد وطنا مصطنعا ودولة مصطنعة فإن الدول والكيانات في المنطقة ليست في حال أفضل منه بكثير.. إن لبنان هو باختصار دولة طبيعية حضارية ذات تجربة ديمقراطية متفوقة على كل دول المنطقة من دون أيّ استثناء بما في ذلك إسرائيل. كان اغتيال رفيق الحريري تعبيرا عن إفلاس النظام السوري غير القادر على القيام بأيّ إصلاحات داخلية من جهة أو استيعاب المتغيرات الإقليمية والدولية من جهة أخرى. فقد هذا النظام من حيث يدري أو لا يدري والأرجح أنه لا يدري، أحد الذين خدموه في المحافل الدولية ودافعوا عنه من منطلق أنه مؤمن بكل ما هو عربي ومعاد لكل ما هو إسرائيلي. فقد كوفئ الرجل بطريقة شنيعة على الخدمات التي قدمها للبنان وسوريا والقضية العربية، تطبيقا للمثل الفرنسي القائل: هناك خدمات كبيرة إلى درجة لا يمكن الرد عليها إلا بنكران الجميل.

لن يجلب اغتيال رفيق الحريري لسوريا سوى مزيد من العداوات والمتاعب. والأكيد أن الطريق إلى استعادة الجولان لا يمر ببيروت بل يمر بالخروج من بيروت، التي قد تكون بالمفاهيم الضيقة، لدمشق أهم بكثير من الجولان. الأكيد أيضا أن التمسك ببيروت لا يعفي المسـؤولين السوريين، جميع المسؤولين السوريين من طرح سؤال في غاية البساطة هو الآتي: لماذا هذا الإصرار على استجلاب قرارات مثل القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن والتصرف بطريقة لا تعبّر سوى عن نهج سياسي لا أفق له. آن أوان اعتراف النظام السوري بأن الجريمة التي ارتكبت في حق لبنان بغض النظر عمن ارتكبها لا تغتفر، وأن بعض التعويض يكون بالاعتراف بأن دم رفيق الحريري، الذي روى أرض لبنان وأعاد الحياة إلى لبنان، يمكن أن يعيد الحياة إلى سوريا في حال قررت الانسحاب من لبنان والانصراف إلى معالجة أزمة النظام فيها. فإذا كان من مشكلة حقيقية تتعلق ببنية الدولة والمجتمع وتركيبته فـإن هذه المشكلة في سوريا وليست في لبنان، ذلك أن لبنان خطا خطوة أولى على طريق معالجة أمراضه الكثيرة. وكانت البداية في الاعتراف بهذه الأمراض، وهو اعتراف لا بد منه إذا كان مطلوبا الوصول إلى نتائج ملموسة. كان رفيق الحريري صمام أمان لسوريا ولبنان في آن. كان رجلا. وكان رجل دولة. كان رجلا لا يؤذي أحدا، أعطى الكثير الكثير للبنان وسوريا. لقد روى دمه لبنان والأمل بأن يروي هذا الدم سوريا فيخرجها من محنتها ويكون بذلك أدى رسالته العربية الأصيلة. إن الله سميع مجيب”.