أكرم البني/المشهد السوري: تقدم عسكري وتراجع سياسي//غازي دحمان: حزب الله يؤسس لتقسيم سورية

425

المشهد السوري: تقدم عسكري وتراجع سياسي
 أكرم البني/الحياة/20 أيار/15

قبل أن يهدأ غبار المعارك التي أحرزت فيها جماعات المعارضة المسلحة تقدماً في شمال سورية وجنوبها، ارتفعت أصوات تطالب بتسعير الحرب وبعدم تفويت فرصة تحقيق حسم عسكري سريع على نظام يتهالك ولا يحتاج سوى إلى ضربة كتف حتى ينهار! وتعلن تالياً رفضها الصريح والقاطع للسير في طريق الحل السياسي، متهمة أنصاره بأنهم انهزاميون يسعون، مهما تكن نياتهم صادقة، إلى إنقاذ النظام من مصيره المحتوم! وهذا ما يفسر تمنع أطراف من المعارضة السياسية عن المشاركة في مشاورات جنيف التي دعا إليها ديمستورا، وارتفاع حرارة المطالبة باستجرار سلاح نوعي وفرض حظر جوي ومناطق آمنة، ثم التشجيع على توجيه المعركة صوب مدن الساحل السوري لإنزال ضربات قاصمة بالنفوذ السلطوي هناك، أو حض الفصائل العسكرية على توحيد صفوفها وتشكيل «جيوش فتح» في حلب ودمشق للاستيلاء على هاتين المدينتين، أسوة بما حصل في إدلب. فكأن هؤلاء قد وقعوا في الفخ ذاته الذي ميّز سلوك النظام على امتداد الصراع وإدمانه الخيار الحربي لتحقيق الغلبة، وكأنهم قد سحبوا أحاديثهم عن عجز السلاح في معالجة المحنة السورية، وعن دور الحل السياسي في الحفاظ على وحدة المجتمع والدولة، وأن الرهان على منطق العنف لن يفضي سوى لإطالة أمد الصراع واستجرار المزيد من التدخلات والمساندات الخارجية مكبداً السوريين المزيد من الدماء والدمار؟!.

ولا نعرف إذا كان هؤلاء يدركون قبل أن يروجوا للخيار العسكري، بأن من حق الناس عليهم، تقديم اعتذار عن تشجيعهم سابقاً لاندفاعات هجومية مسلحة في غير منطقة، سعرت العنف وخلفت خراباً وضحاياً ومهجرين من دون تحصيل نتائج سياسية تذكر، وتالياً عن أوهام دأبوا على إشاعتها حول سرعة تفكك السلطة وانهيار مؤسساتها، وعن مبالغاتهم في تقدير وزن المعارضة المسلحة وقدراتها، وعن تعويلهم على نصر عاجل بالحث على تحويل الجهود العسكرية إلى دمشق لإسقاط العاصمة، وعن عبارات يقينية بدت كرهانات مخفقة بحصول تدخل دولي وفرض حظر جوي ومناطق آمنة! واستدراكاً، ماذا يمكن أن نسمع من هؤلاء في حال لم ينجح خيارهم الحربي في تحقيق الحسم والغلبة؟! هل يقدمون اعتذاراً جديداً ويعترفون بأن رغباتهم وليس الوقائع هي التي قادتهم مرة أخرى نحو مواقف ورهانات خاطئة، وأن جيشان نفوسهم بتحقيق نصر سريع، أعمى أبصارهم عن رؤية تبعات ذلك على حياة البشر ومصائرهم؟!.

صحيح أن النظام يعاني اليوم إنهاكاً اقتصادياً وتشتتاً لقواه وقواته، لكن هؤلاء هم من كانوا يؤكدون بأنه ليس على استعداد للتخلي عن السلطة حتى لو تخلى عن أجزاء مهمة من الوطن، وبأن ثمة خطوطاً حمراً ترسمها المصالح الإقليمية والدولية لا يمكن للنظام أو للمعارضة تجاوزها، يؤكدها إقرار الجميع بأن الصراع السوري بات مسرحاً مفتوحاً للتدخلات الخارجية هي الأقدر على تمكين قواه الداخلية وتقرير مصيره. ويزيد تراجع السياسة تراجعاً ما أثير عن اشتراط وضعته مؤخراً بعض الجماعات الاسلاموية فور تحقيق «انتصاراتها» بأن لا تمنح ثقتها لمعارضة سياسية إلا في حال أعادت النظر بهدف الدولة المدنية واعترفت بحاكميه الشريعة الإسلامية، ولا تضعف من خطورة هذا الاشتراط بل تعززها محاولة لملمته بسرعة وإقناع أصحابه بأن الوقت مبكر لطرح هذه الأفكار، وأن ثمة حاجة لا تزال قائمة لإظهار الجماعات المسلحة كإطراف معتدلة كي تتمكن من استمالة الغرب وطمأنة قطاع واسع من السوريين يرفض الدولة الدينية، كضرورة لا غنى عنها لإلحاق الهزيمة التامة بالنظام!. يجوز تفسير هذا الاشتراط كتحصيل حاصل للوزن الجديد الذي باتت تحرزه الجماعات الاسلاموية على الأرض ربطاً بواقع ضعيف ومتهالك للمعارضة السياسية، أو كمحاولة خبيثة من جهات إقليمية دأبت على إلباس الثورة السورية لبوس التدين والإسلام خوفاً على مصالحها واستقرار سلطانها من تقدم التيارات المدنية والديموقراطية، مثلما يجوز لآخرين استثمار هذا الاشتراط لتأكيد ما كانوا يثيرونه بأن لا أمان للتنظيمات الاسلاموية وبأنها تظهر غير ما تضمر وتتمسكن حتى تتمكن، وأن المثال السوري ليس بجديد، فقبله انقلبت هذه التنظيمات على الشعارات الديموقراطية والمدنية التي رفعتها في بلدانها وتبنت حين اشتد عودها أو وصلت إلى السلطة ما تمليه عليها أجندتها الإيديولوجية.

لكن الأخطر أن يتكاثر أنصار هذا الاشتراط والمروجون لمشروعية فرض الأجندة الإسلامية على البلاد مأخوذين بفكرة أن الإسلاميين هم الذين يقاتلون على الأرض وهم الذين يقدمون التضحيات وتالياً هم الأولى بوضع مشروعهم الديني موضع التنفيذ، ساخرين من الشعارات المدنية التي يرفعها السياسيون في المنافي، ومن حقوق أقليات وقفت على الحياد أو ساندت النظام، وعاتبين على الخائفين من استبدال أقلية ظالمة بأكثرية مظلومة، وعلى دعاة الحفاظ على التنوع والتعددية بأنهم يحاولون ذر الرماد في العيون لقطع الطريق على حق الغالبية الدينية في أن تحكم وتسوس!. يخطئ ويدمر مشروع التغيير الديموقراطي من يريد احتكار التضحيات الشعبية وتوظيفها بما يخدم أجندته الخاصة، وهو يعرف أن الشهداء والمعذبين ليسوا ملكاً لأحد بل مواطنون سوريون يرجون بغالبيتهم العدالة والمساواة، وأيضاً من يسعى لجرف الصراع صوب أبعاد مذهبية مستهتراً بالشروخ العميقة والتشوهات البنيوية التي يحدثها، ثم من يعزز رهانه على الحرب ومنطق السلاح ويتوسل «الانتصارات الأخيرة» للتخلي عن أولوية مطلب وقف العنف بصفته عتبة الإقلاع نحو حل سياسي يلبي مطالب الناس ويضمن حقوقها.

صحيح أن الشعب السوري أثبت أنه شعب حي لم تتمكن كل أساليب التنكيل قهر روحه التواقة للحرية والكرامة، وأنه يزخر بطاقة لا تنضب للتضحية من أجل تحقيق حلمه النبيل، لكن حلمه لا يتحقق بالانتقال من استبداد إلى آخر بل بقطيعة تامة مع منظومة العنف والوصاية والفساد والتمييز.

حزب الله يؤسس لتقسيم سورية
غازي دحمان/الحياة/20 أيار/15

الكلام الذي جرى تسريبه على لسان الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أثناء لقائه رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، من أن سقوط نظام بشار الأسد يعني سقوط «حزب الله» ومحور المقاومة لا يبدو بريئاً في توقيت صدوره ولا في مضامينه، وليس المقصود منه الرغبة في الدفاع عن نظام بشار الأسد، بل هو محاولة لتغطية تحركات الحزب في المرحلة المقبلة، في الساحتين السورية واللبنانية في بداية مرحلة تتسم بإعادة توزيع الأدوار والمواقع وترسيم الحدود.

نصرالله نفسه اعترف في التسريب المنسوب إليه باستحالة استعادة سيطرة النظام على سورية، كما أنّه يعرف بالوقائع والمعطيات أن قدرات إيران وإمكانات الحزب لم تعد تسمح بتحقيق مثل هذا الهدف، ولا بد من أنّه على اطلاع على تسريبات بدأت تتواتر من طهران حول مفاوضات تجريها على رأس الأسد شرط أن يتم الحفاظ على بعض مصالحها التي حصلت عليها كبديل من الديون التي دفعتها لنظام الأسد واحتفاظ الإيرانيين المجنّسين بجنسيتهم السورية.

على ذلك، فإن نصرالله استفاق على واقع جديد يدفعه إلى تعديل أهدافه في سورية واستتباعاً تجميع موارده بما يتناسب مع هذا التطور وهو بدأ يرتب لحصوله على جزء من الكعكة السورية في هذه الأوقات التي تتسم بالفوضى، وبالتالي يستثمر وجود الأسد كرئيس شرعي من وجهة نظره لتنفيذ أجندته القائمة على اقتطاع كامل القوس المحاذي للبنان من القصير إلى القلمون وريف دمشق الغربي وصولاً إلى القنيطرة، حيث توجد قواته في هذه المناطق، وهي مناطق قريبة من بيئة الحزب وقد جرى إفراغها سكانياً على مدار السنوات الأربع كما عمل «حزب الله» على تأسيس بنية له في بعضها بالاعتماد على السكان المحليين الموالين له، سواء في القصير من خلال تجنيده السوريين في القرى الشيعية أو في السفح الشرقي لجبل الشيخ في قرى حضر وحينة الدرزية من خلال تأسيس ما يسمى المقاومة السورية في الجولان.

نصرالله يؤسس نواة دولة له ربما في عملية استباقية لتقسيم المشرق والمنطقة، بخاصة بعد أن بدأ الحديث في شكل علني عن تقسيم العراق، ويستغل في ذلك حقيقة أن الحدود بين سورية ولبنان غير مرسّمة أو واضحة وفيها تداخلات كبيرة وهو بذلك يستطيع إسكات الأصوات اللبنانية المعارضة له بخاصة إذا ادعى أنه يستعيد أرضاً لبنانية ويمنع تهديداً مستقبلياً محتملاً في حال سقوط الدولة السورية، وبذلك يضمن «حزب الله» أيضاً تطويق لبنان كله جغرافياً من كل الحدود البرية وينصب نفسه القوة المقررة لمصير اللبنانيين.

الهدف الآخر للحزب هو جعل نفسه القوة المسيطرة على «الدول» السورية المقبلة، عقب سقوط الأسد، وذلك من خلال سيطرته على المرتفعات الاستراتيجية على طول القوس الممتد من جبل الشيخ في الجنوب حتى مرتفعات حمص في الغرب مروراً بمرتفعات القلمون التي تحاصر دمشق وغوطتيها الشرقية والغربية، وبالتالي وضع أي قوة من الممكن أن تظهر في هذا الحيز تحت سيطرته النارية وضمان بقائها ضعيفة ومحاصرة، ولعلّ الهدف الأكبر في هذا الترتيب وعملية القضم الجغرافية والاستلحاق الديموغرافي لسكان هذه المناطق، يتمثل في تحوّل الحزب إلى قوة إقليمية كبرى غير محصورة ضمن حيز جغرافي ضيق، وتملك مدى استراتيجياً واسعاً يصلها بالعراق من خلال ضم منطقة القلمون الشرقي، وبالتالي يمكنها تقاسم النفوذ مع إسرائيل في المنطقة مستقبلاً، انطلاقاً من هذه المعطيات وعلى أساس أن دولة الحزب بهذه المواصفات ستكون بديلاً لدولة الأسد. الملاحظ أن «حزب الله» لا يتعاطى مع معركة القلمون بدرجة التوتر نفسها التي كان يتعاطى بها في السابق مع عملياته داخل سورية وعلى رغم الخسائر الأولية الكبيرة، فإن الحزب لا يُجر إلى ردود فعل موازية، وتفسير ذلك أن الحزب يفكر هذه المرّة استراتيجياً وبرؤية بعيدة المدى وبسبب قناعته أن حجم الهدف وضخامته يستحقانالتضحية والتروي. تتسق هذه الاستراتيجية مع توجهات إيران الحالية التي باتت تركز فقط على جزء من سورية وتحديداً المنطقة الممتدة من الساحل إلى حمص فدمشق مع بقاء طريق العراق مفتوحاً، كما تتسق مع استراتيجية إسرائيلية بدأت تطالب في شكل واضح بتقسيم سورية. طالما ادعى المتحدثون باسم «حزب الله» في الآونة الأخيرة بأنه صار قوة إقليمية فاعلة، ولا شك في أن هذه الفرصة مناسبة في تقديرات قادته لترجمة هذا الأمر وتحويله إلى واقع عبر اقتطاع مساحات واسعة وحيوية من سورية وتطويع لبنان في شكل نهائي، لكن السؤال: هل تكفي موارد الحزب لإنجاز هذه المهمة؟ الأكيد أن معرفة النتيجة في المختبر السوري اللاهب ستحتاج إلى نزف كبير وحرب ستطول.