د. جورج صدقه/حديث إفتراضي في معراب

128

حديث إفتراضي في معراب ..

د. جورج صدقه/جريدة الجمهورية/الخميس 09 أيلول/2021

تبدو معراب هادئة، لا استقبالات ولا صخب. واثقة، تنتظر موعدها مع التاريخ.

سيّدها يلتقي معاونيه، يدردش معهم، يسمعون بإصغاء، يومئون برؤوسهم، يبتسمون تأكيداً على الثقة والإيمان بما يسمعون. فيما زائرون إفتراضيون سألوا وحاوروا واستمعوا.

خطابها لم يتغيّر:

«الأمور تسير بالاتجاه الطبيعي، هكذا سياسة يمارسها العهد تقود حتماً إلى هذا الإنهيار. لسنا مسؤولين عمّا يجري، نحن ما زلنا على موقفنا، ولطالما حذّرنا وانتقدنا وحاولنا التصحيح، وما من يسمع».

يسأل زائر: ووجع الناس؟ ماذا تقولون لهم؟

– صحيح أنّ الناس يتألمون، وأنّ الشعب كفر بالسياسة والسياسيين، لكننا خارج دائرة القرار. فليحاسبوا المسؤول عن ذلك. لقد هلّلوا للجنرال عون وأعطوه أكثرية نيابية مسيحية لم يعرفها أي زعيم مسيحي من قبل، فماذا كانت النتيجة؟ التيار الحرّ ممسك بالسلطة وبالتعيينات في مفاصل الدولة وبوزارات كثيرة، لكن الى أين قاد كل ذلك؟

يعلّق آخر: لكن الناس كفرت بالوطن وهي تهاجر، تنتظر صفوفاً أمام السفارات، والرأي الطاغي عندها أنّ «كلن يعني كلن»، ما يعني أنتم أيضاً.

– «من يتّهمنا هو بالأساس ضدنا، ولو ضوينا أصابعنا له فلن يكون معنا».

لكن، يردف آخر: ماذا يبقى من المقاومة إذا هاجر الشعب؟ أو ليست المقاومة في خدمة الشعب؟ أو ليست من أجل التشبث بالأرض والمحافظة عليها؟ ماذا بقي من الوطن؟

– «هي قضية كم شهر وبيمرقوا. قرّبت الإنتخابات، من بعدها نبدأ بعملية تغيير شاملة. الناس ستعطينا الأكثرية، سواء على صعيد الشارع المسيحي أم على الصعيد الوطني العام. حينها نبدأ بعملية تغيير جذرية وبإعادة بناء ما خرّبته سياسات العهد الحالي».

يستفهم آخر : يعني أنكم تعتبرون أنّ الإنتخابات حاصلة، وأنكم ستربحونها، وأنكم ستمسكون بالسلطة. لكن هذا يتطلب تحقيق ثلاث شروط. الأولى : أن تحصل الإنتخابات فيما لا أحد يضمن ذلك، وهناك سوابق في هذا الإتّجاه. الثانية: لا من يضمن أنّ نجاحكم محسوم. والثالثة: انّ النجاح في الإنتخابات لا يعني الإمساك بالسلطة، وقد سبق لـ ١٤ آذار أن ربحت الإنتخابات النيابية ولم تستطع الإمساك بالسلطة. هذه ثلاث شروط، ولا واحدة منها تبدو محسومة.

ويتابع الزائر الافتراضي: أنّ الناس يريدون منكم أكثر من أن تكونوا في انتظار استحقاق الإنتخابات، وأكثر من سعادتكم بفشل ميشال عون والعقوبات بحق جبران باسيل، ينتظرون منكم أكثر من عبارة «كنا على حق حين تصدّينا للجنرال». الناس يتألمون، يعيشون في ذلّ لم يعرفوه من قبل، منهم الجياع، والمرضى ومشردو انفجار المرفأ. منهم من فقدوا جنى عمرهم. جميعهم قلقون على الغد. قلقون على مصير الوطن. من يتمكن من الهجرة لا يتردّد للحظة واحدة. فيما أنتم تقولون لهم انتظروا الإنتخابات.

– «نحن ندرس هذه الفرضيات ونأخذها بالإعتبار، وعندنا ردود على كل منها حين تستحق الأمور. إنّ اتصالاتنا العربية والدولية هي ضمانة كبيرة، العالم يواكب عن قرب ما يجري في لبنان، وهو هذه المرة لن يسكت عن أي تجاوزات قانونية أو سياسية».

يجرأ أحدهم : كيف يمكن للناس أن يثقوا بما تخططون له أو ما تعدون به، وقد سبق أن شاهدوا الكثير من رهاناتكم الخاطئة، وكان آخرها اتفاق معراب الذي أوصل عون الى الرئاسة ووضعكم خارج السلطة، وغيرها من الرهانات الخاسرة الكثيرة في الماضي. انّ كثيرين من الناس يرون فيكم منظّرين في السلطة لا ممارسين لها، تعيشون في صومعة مقطوعة عن العالم، يزورها خصوصاً المؤمنون بها، وهم ليسوا بغالبية، ينقصها النقد البنّاء الذي يولّد جدلية، وليس مسلّمات تسقط امام الواقع. ولطالما تتبخّر وعود الدول التي تراهنون عليها بين ليلة وضحاها، وتتغيّر خططها تبعاً لمصالحها، أو تسير مع قوى الامر الواقع.

ويتابع : لم ينسَ الناس مئات الشباب الذين كانوا في صفوفكم وتفرّقوا في انحاء المعمورة بعد حلّ حزب القوات، أولئك الذين ما زالوا يبكون دماً ودموعاً على سنوات من عمرهم ضاعت سدى، وقد تشتّتوا في بلاد العالم من دون أن يسأل عنهم أحد لاحقاً. لم ينسوا «حتماً، حتماً» التي تبخّرت مع اشراقة الشمس، فسقطت أحلامهم التي كانت بحجم قضية ووطن. هم يسألون: ماذا بقي من «البشيرية» التي بنت وأسّست، وتميّزت بفقرها وقربها من الناس، وقدرتها على لمّ الجميع حولها؟ تميّزت بمجلس شورى يحيط بالقائد من كبار المفكرين والمنظرين. هناك خوف عارم على الكيان، هناك خوف كبير على الوجود المسيحي الذي تتراجع أعداده بشكل كبير، في الوقت الذي لا يبدو هناك من مشروع سياسي للقوات، ولا من خطوات عملية اليوم للحدّ من الهجرة ودعم صمود الناس في مناطقهم. تنتقدون عون وجبران على خطابهما حول استعادة الحقوق، من دون أن تقدّموا أي طرح، وكأنكم تسلّمون بالتخلّي عن هذه الحقوق. صراعكم يبدو وكأنّه مع حزب الكتائب على رغم أنّه الأقرب اليكم طرحاً ومواقف.

– «نحن أبناء قضية. ونحن أبناء الإيمان بالله والأرض والانسان، وهذه مبادئ لا نتخلّى عنها، وهي الطريق التي ستقودنا الى النصر. إنزرعنا في هذه الأرض منذ ١٦٠٠ سنة، تجذّرنا فيها، مرّت ممالك ومظالم واستمرينا وسنستمر».

يغادر الزوار، لم يرتووا، فالإيمان مهم لكنه لا يكفي، كلدان العراق واشوريوه هم أيضاً أصحاب قضية وإيمان، لكنه لم يحمهم. العواصف لا تُجابه بالإيمان فقط، بل بخطط ورؤى. وليست كل المواعيد مع التاريخ تصحّ أو تكون نهاياتها سعيدة. فمن يدري.

.