الـيـاس الزغـبـي: المسار الصحيح

95

 المسار الصحيح
الـيـاس الزغـبـي/03 كانون الأول/16

تحت موجات التوجّس من نيّات العرقلة الموصوفة للعهد الجديد، يكمن لدى اللبنانيّين حسّ بالارتياح، ليس لمسار التشكيل المتعثّر للحكومة الأُولى ودلائله المقلقة، بل لتصحيح مسار المواقف السياسيّة الوطنيّة التي انحرفت عن خطّها السليم منذ 11 عاماً.

وفي حساب بسيط، كان في الإمكان نجاح الخطّ الوطني السليم بسهولة أكبر، غداة 14 آذار 2005، مع اندفاعة “ثورة الأرز” وما حقّقته في بدايتها. لكنّ انتعاش “المشروع” الآخر بانضمام حيثيّات وازنة من “انتفاضة الاستقلال” إليه، غيّر المشهد، وبدأت مسيرة الاستقلال الثاني تتعثّر، وكادت غير مرّة تسقط إلى غير رجعة.

لكنْ، إذا كان “الجسد ضعيفاً فالروح “قويّة”، وقد استعادت روح “14 آذار” قوّتها منذ انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وبدأ جسدها يتعافى ويستعيد نبضه وحيويّته.

هذا لا يعني أنّ “14 آذار” انتعشت بشكلها وتركيبتها السياسيّة وطقوس حركتها واجتماعاتها وبياناتها وتكتيكاتها السلطويّة. ولا يعني أيضاً أنّ “التيّار العوني” عاد يشكّل جزءاً حيّاً منها وفي صلبها، كما في المنطلق، ولو ظهر في المشهد السياسي الأمامي تحالف ثلاثي يضمّه إلى “القوّات اللبنانيّة” و”تيّار المستقبل”، ومنه إلى سائر القوى المؤسِّسة من حزبيّة ومستقلّة.

المقصود بالتحديد، أنّ المعاني العميقة لانتفاضة الاستقلال تتجدّد الآن، ولا يهمّ الشكل الذي تتّخذه، سواء كان “14 آذار” أو “التحالف الرئاسي” تحت مسمّيات “ورقة نيّات” أو “معراب” أو “بيت الوسط”، أو “خطاب قسم” و”كلمة استقلال”… وعرض استقلال.

ولا يمكن الفصل النظري بين خطّ تكويني داخلي لإعادة انتاج السلطة والمؤسّسات، وخطّ سيادي خارجي بات واضح المعالم تحت مسمّى “السياسة الخارجيّة المستقلّة” وتحييد لبنان عن صراعات الخارج.

ولأنّ الشهر المنصرم أكّد التلازم بين المسارَين، بناء الدولة وتكريس السيادة، خلافاً لمحاولات الفصل بينهما، توجَّس فريق “8 آذار” من المنحى الجديد للسياسة الشرعيّة اللبنانيّة، وبدأ خطّته المنهجيّة لإجهاض هذا التوجّه، عبر الشروط والتعقيدات التي يفرضها على تشكيل الحكومة.

ليس في السياسة سذاجة إلى هذا الحدّ، كي يتمّ تبسيط المأزق إلى مستوى حقيبة، وحرص الرئيس نبيه برّي على تقديم وجه البراءة والكفّ الناعمة، بينما تكمن المشكلة في الخيارات الكبرى المتّصلة بدور “حزب الله” في “المشروع الكبير”.

ما يُزعج “حزب الله”، عبر برّي، ليس منح حقيبة معيّنة لهذا الحليف أو ذاك، ولا “الثنائيّة المسيحيّة” التي فاجأته بحيويّتها السياسيّة، ولا تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة برغم عدائيّته المزمنة له، بل انتعاش الحالة الوطنيّة السياديّة بمكوّنات أوسع، نجح سابقاً في استمالة بعضها، وبدأ يخسرها اليوم بعد تحوّلها من موقع سياسي إلى موقع شرعي وطني.

لقد نجح “محور الممانعة والمقاومة” في طرد الحالة السياديّة من الشبّاك، فعادت إليه من الباب الواسع، الشرعيّة الوطنيّة ذات البعد المتعدّد سياسيّاً وطائفيّاً. فكما كانت “14 آذار” نقيضه الكامل في تعدّدها وعبورها حدود الطوائف والمذاهب، وسعى إلى تفكيكها ترغيباً وترهيباً بشقّ مكوّناتها، ما بين 6 شباط 2006 و7 أيّار 2008 وكانون الثاني 2011، تقوم في وجهه اليوم حالة وطنيّة واسعة، حاول تحويلها إلى مواجهة شيعيّة – مسيحيّة، ولم ينجح.

ولم يعد هناك إمكان لاستعادة ما خسره، بعدما عادت “8 آذار” إلى حجمها الصحيح ومكوّناتها الأُولى، وقد حاول تطويل أمد الفراغ الرئاسي لخشيته من هذه اللحظة الشرعيّة التاريخيّة. فما كان يصحّ في تحالف سياسي على خلفيّة تبادل منافع بموقف استراتيجي، لا يصحّ في الموقع الشرعي المحكوم بالدستور والتزام الشرعيّات العربيّة والأُمميّة.

كما لم يعُد مستغرباً تشنّج الثنائي (الأحادي) الشيعي إلى حدّ الانكشاف السياسي، وما يشبه العزلة عن باقي الطوائف، مع تخلّيه عن دبلوماسيّة الحوار والتسويات، واعتماده أسلوب التهديد الإعلامي المباشر، واستناده إلى قوّته الصافية، وكأنّه على وشك تجربة الغلبة من جديد.

لقد حقّقت النقلة النوعيّة بملء الفراغ الرئاسي، إنجازاً نوعيّاً على مسار استعادة شرعيّة المؤسّسات، وأحقيّة السيادة معاً. ومخطئ من يظنّ أنّ بناء الدولة ممكن بدون سيادة.

وهذا هو مصدر شكوك “حزب الله” وقلقه. فهو يدرك أنّ شعار بناء الدولة بدءاً برأسها وحكومتها يستتبع بالضرورة استعادة السيادة. والسيادة حالة تشكّل النقيض التام لمبرّر وجوده واستمراره.

والمسار الوطني الصحيح، في إرهاصاته الاُولى، يُقلق كلّ ما ومن يشكّل النقيض.

هنا العقدة العميقة، وليست في أيّ حقيبة أو “سلّة”، ولا في “ثنائيّة” أو “ثلاثيّة”.