شارل الياس شرتوني/حزب الله، السياسة الانقلابية والتدمير المنهجي للسلم الاهلي في لبنان

64

حزب الله، السياسة الانقلابية والتدمير المنهجي للسلم الاهلي في لبنان
شارل الياس شرتوني/25 نيسان/2021

إن متابعة المسرح السياسي في بلادنا اليوم تنطوي على الكثير من الحزن وخيبات الأمل والغضب على ما ينضح فيه من العنف والكذب واستباحة لكرامة الانسان في كل مندرجاتها.

إن السياسة التي ينتهجها حزب الله وحلفاؤه، في الداخل اللبناني والخارج الاقليمي، قد دخلت مسارا انقلابيا واضح المعالم يستهدف الكيان الوطني اللبناني، والنظام الديموقراطي والليبرالي والتعددي، والثقافة الليبرالية في كل جوانبها الفكرية والاخلاقية والاجتماعية والسياسية، واستبدالها بوضعية هجينة تنتظم فيها الفراغات السياسية والاخلاقية المتنامية على كل الأصعدة مع واقع الدولة الصورية، والنزاعات المفتوحة والمجمدة، وشيوع مناخات نهيلية وأنومية تدحض أي شكل من أشكال من التحضر لحساب انتظامات سياسية متطرفة.

لم يعد النهج التوتاليتاري لحزب الله مستترا ولا النوايا الانقلابية من الفرضيات النظرية، نحن عمليا في خضم سياق سياسي تدميري ينعقد على خط التقاء النزاعات الاقليمية السورية والعراقية والفلسطينية واليمنية، التي حولت هذه البلدان الى كيانات دولتية صورية، وثبتتها على فوالق زلزالية متحركة، وأدارتها على قاعدة تثبيت هذه النزاعات، واستهداف أية محاولة لصيانة السلم الاهلي في كل منها، وإعادة بناء البنيات الدولاتية، وتطبيع علاقاتها الإقليمية والدولية، واعطاء الأولوية لسياساتها العامة على تنوع موضوعاتها.

الأنظمة الإيرانية والتركية والروسية الحالية تبني سياساتها على أسس توسعية، إيديولوجية الطابع وامپريالية التوجهات، تسقط كل اعتبارات سيادية وإصلاحية لحساب مصالح الاوتوقراطيات الحاكمة في كل منها. إن الاسباب غير القابلة للفهم، من وجهة نظر ديموقراطية، التي تلجأ اليها المنظومة الحاكمة التي يديرها حزب الله لتبرير الفراغ الحكومي القائم، والتدمير المنهجي للمؤسسات الدستورية، تتوضح عندما تنجلي الحيثيات الأيديولوجية والحسابات الإستراتيجية التي تتعاطى مع الواقع الدولتي اللبناني كمحطة ليس الا في سياق انقلابي اقليمي، وهذا ما تبلوره مراجعة الوقائع التالية:

تحول المؤسسات الدستورية التنفيذية (رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس الوزراء) والتشريعية الى صناديق إيقاع وردائف لسياسات النفوذ الشيعية، والوزارات والادارات العامة الى حيازات لها وللشبكات الزبائنية التي نسجتها على عقود من التوظيف العشوائي والسيطرة الفعلية على مقدراتها، بناء على تقسيم عمل منهجي بين حزب الله ونبيه بري.

لقد وفق حزب الله بتحالف مع ميشال عون كحليف إنتهازي وتابع، كسر من خلاله المقومات الميثاقية والديموقراطية للدولة اللبنانية، واستعمل المؤسسات الدستورية معبرا لأكثرية پرلمانية أمنت وضع يده على المجلس النيابي، وإيصال عون الى رئاسة الجمهورية، محققا بذلك أحد أهم أهدافه لجهة تقويض المبنى الديموقراطي اللبناني، ومتكآته التاريخية والميثاقية والسيادية، كما عبرت عنها قيادات الحزب ومواقع دينية أساسية في الأوساط الشيعية.

إن سقوط شرعية ميشال عون الشعبية في الاوساط المسيحية، كانت النتيجة المباشرة لتنازلاته المبدئية والسيادية والتغطية الطوعية للسياسة الانقلابية التي يعتمدها حزب الله، وبدل ان تستحث وعيا نقديا لديه ومراجعة لحسابات خاطئة أصابت الارث السياسي المسيحي في مندرجاته الوطنية اللبنانية، وثقافته السياسية الديموقراطية، والتزاماته السيادية، جعلته ينطوي على انفصامات شخصيته القائمة على تقمص كذبه المرضي على أنه حقائق، والتنكر للواقع السياسي والمالي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والبيئي، وتردداته الكارثية على مستقبل البلاد، وعلى حقوق المواطنين، والتعاطي معه على قاعدة الاقتصاص ممن اعتقدهم قاعدته السياسية غير المشروطة.
هذا ما يفسر اداء جبران باسيل وريثه المتخيل، وتعاطي هذا الأخير من موقع التخريب والحقد والانتقام من الذين يحولون دون وصوله الى رئاسة الجمهورية، خلفا لميشال عون، دون أي اكتراث لحقيقة ما آلت اليه هذه الرئاسة الصورية لبلد يقع من الان فصاعدا على خط الالتقاء الوهمي بين وهامات سيادية ومواطنين مخذولين في حقوقهم على تنوع تطبيقاتها، وسياسة سيطرة شيعية تنعقد على خط تقاطعات داخلية وإقليمية.

إن مواجهة سياسة عون وباسيل هي جزء أساس من عملية مواجهة سياسة حزب الله الانقلابية التي حولت لبنان الى ” المحافظة الإيرانية ” الأكثر ثباتا في سياسة نفوذ النظام الايراني الإقليمية.
أما مجلس الوزراء، رئاسة وأعضاء، فلا يعدو كونه أداة طيعة بيد حزب الله، تعمل على قاعدة ثنائية تقوم على قصور اعضائه وفقدانهم للحد الادنى من الاستقلالية المعنوية والسياسية، وعلى القصور الادائي لجهة المعرفة بالسياسات العامة وإدارتها، ومعالجة الملفات البنيوية والطارئة كما تبين مع أزمة المالية العامة، والمسائل التجهيزية والبنيات التحتية والاشغال العامة (كهرباء، مياه، سدود، مواصلات عامة، الشبكات التواصلية الافتراضية، معالجة النفايات الصلبة والسائلة … )، وتغطية النشاطات المالية والاقتصادية المنحرفة وتشريعها إسلاميا من خلال الفتاوى والاجتهادات.

إن موقف التسيب الارادي القائم منذ سنة ونيف، والتنكر لخطورة الانهيارات البنيوية التي طالت قدرة البلاد على النهوض بعد انقضاء هذا الوقت الحاسم والظروف البالغ الدقة، هو مؤشر مهم لجهة اندراجه ضمن خطة الانهيار المبرمجة كمدخل أساس للعملية الانقلابية التي يديرها حزب الله.

لقد اصطدمت المفاوضات الفاشلة مع صندوق النقد الدولي بممانعات الثنائي الشيعي والاوليغارشيات المتواطئة معه لجهة الإصلاحات الهيكلية الشرطية كمقابل للمساعدات المالية، والتحقيق الجنائي الشامل، والاصلاح السياسي الشامل.

ظهر انفجار المرفأ الطارئ، من جهته، سياسات حزب الله الارهابية والإجرامية، وطبيعة استهدافات هذا العمل الارهابي لأمن وسلامة المناطق الشرقية للعاصمة وبنياتها المدنية، والتجهيزية، والاستشفائية، والتربوية، ومستقبل المسيحيين على وجه الاجمال، كما افصحت عنه تصريحات نبيه بري المسربة، واداءات المستثمرين العقاريين التابعين له، والصمت المطبق للمنظومة الحكومية التي تديرها مراكز القوى الشيعية (٢٠٠ قتيل، ٧٠٠٠ جريح، ٣٠٠،٠٠٠ منزل متضرر، ١٢ مدرسة كبيرة بالغة الضرر، ٣ جامعات، ٤ مستشفيات جامعية…).

يندرج التعاطي المستهتر مع جريمة المرفأ الارهابية ومحاولة اطفائها من خلال تبهيتها، وعدم تحمل التبعات القانونية والاخلاقية والانسانية لنتائجها الكارثية، ضمن السياق الانقلابي الذي يعتمده حزب الله من خلال الابقاء على هذه الحكومة القاصرة والمتواطئة، والحؤول دون تأليف حكومة تعمل على ادارة مرحلة انتقالية تخرج البلاد من أزماتها المالية والاقتصادية والاجتماعية القاتلة، وتؤسس لعقد وطني اجتماعي جديد.

من ناحية أخرى يبدو دور المجلس النيابي معطلا منذ بدايات جمهورية الطائف بحكم الاقفالات الاوليغارشية، وإدارته الاوتوقراطية من قبل نبيه بري الذي حوله على مدى العقود الثلاثة الماضية الى سلطة موازية، وأداة قضم للموارد العامة التي تحولت الى مصادر لترفيد سياسة وضع اليد الشيعية على البلاد. إن تقسيم العمل بين حزب الله ونبيه بري أساس في ادارة السياسة الانقلابية، على الرغم من هوامشه ومتونه النزاعية التي تحكمها سياسات النفوذ المناطقية والعشائرية في الاوساط الشيعية.

تبنى مداخلة حزب الله في الداخل اللبناني على قاعدة استوائية مع سياسة النفوذ الشيعية التي تقودها إيران في منطقة الشرق الادنى وامتداداتها الجيو-استراتيجية، والتي يلعب فيها حزب الله دورا محوريا يسعى الى تحويل لبنان الى منطلق ثابت لسياسة انقلابية على المستوى الاقليمي. تعتمد ايران على قاعدة النزاعات المجمدة أساسًا، من اجل الحؤول دون تسوية النزاعات والأزمات الداخلية، واستثمارها في مجال السياسات الانقلابية وعدم الاستقرار على المستويين الداخلي والاقليمي (لبنان، سوريا، العراق، الاراضي الفلسطينية، اليمن، البحرين …)، والتواصل الاستراتيجي مع العمق النزاعي الملازم لها، على نحو يتماثل مع السياسات التركية والروسية في سوريا والعراق والقرم والدونباس.

إن مواجهة هذه السياسة الانقلابية تحتم تدويل الأزمة اللبنانية من أجل استقامة موازين القوى الداخلية، والحؤول دون استغراق البلاد في دوامة الأزمات الحياتية وتداخلاتها المدمرة، وتردداتها على السلم الاهلي والتوازنات البنيوية للاجتماع السياسي في لبنان.

لا سبيل لتسوية سياسية تاريخية تؤسس لمرحلة سياسية ووطنية جديدة في ظل المناخات الانقلابية الحاضرة التي تستهدف الكيان الوطني اللبناني، ومرتكزات الاجتماع السياسي، والخيارات الديموقراطية والليبرالية في البلاد على حد سواء، الا من خلال تحكيم دولي وحوار داخلي من اجل تخريج حلول توافقية تطال الشؤون الجيو-پوليتيكية، والهندسة المؤسسية والدستورية، وأسس الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي، خارجا عن منطق سياسات النفوذ والانقلابات، والمشاريع التوتاليتارية للاسلام السياسي، وتقاسم مناطق النفوذ بين السياسات الشيعية والسنية المتناحرة.

إن سياسة الاستغراق النزاعي المعتمدة من قبل حزب الله هي المدخل الأكيد للنزاعات الاقليمية المفتوحة التي لا تقيم أي وزن للشأن الوطني اللبناني وأولوياته، وتحيلنا الى الفراغات الاقليمية وفضاءاتها النزاعية وخياراتها المفتوحة على النهيليات التي تسود المدى السياسي والحياتي في هذه المنطقة من العالم، وتحكم التصريفات السياسية في العالم الاسلامي المعاصر.