الأب سيمون عساف: قصة الراهبة المارونية هندية عجيمي (1720-1798) التي كانت فعلاً قضية

944

هندية عجيمي (الراهبة هندية كانت قضية)
الأب سيمون عساف/28 كانون الثاني/2021

هندية عجيمي (1720-1798) هي راهبة متصوفة في الكنيسة المارونية اشتهرت برؤيتها السيد المسيح والسيدة مريم العذراء في منامها. كانت هندية شخصية محورية في تاريخ الكنيسة المارونية في القرن الـ18.

في عام 1750، أسست هندية رهبنة “عن قلب يسوع” الذي تم حلها عام 1779 بأمر من البابا بيوس السادس.

ولدت هندية في حلب في 16أغسطس 1720 لوالديها المارونيين الملتزمين شكر الله عجيمي وهيلين حوَّا. عمل أفراد عائلة العجيمي تجار يجنون ثرواتهم من المعاهدات التجارية الموقعة بين القوى الأوروبية والعثمانيين خلال 1675.

كان لهندية شقيق يدعى نيكولاس وشقيقات لم يحدد عددهن. تعلمت هندية على يد يسوعيين شجعوها على تنمية جانبها الروحي ودعموها بمشاركتهم معها قصص لِفتيات اخترن الحياة الدينية بمسارها العلماني.

تبنت هندية بدورها العديد من الولاءات الكاثوليكية الرومانية وسر التوبة السمَعِي المتكرر (الاعتراف)، واستمر دعم اليسوعيين لها حتى عام 1748. انتقلت هندية من حلب إلى دير حراش اولا ثم دير بكركي – لبنان، حيث أسست نظامها الديني الخاص”عن قلب يسوع الأقدس” في 25 مارس 1750. ادَّعت أنها ترى رؤى عن المسيح لِصُنع المعجزات وتتَّحد مع الثالوث بطريقةٍ فريدة من نوعها، وادَّعت أيضاً أنها تتحدَّث مع المسيح في النقابات الصوفية، وسرعان ما أصبحت تعتبر قديسةً حيَّةَ تلاقي احترام الناس وتبجيلهم مُمَيَّزة بكاريسما لافتة.

دعمت الغالبية العظمى من رجال الدين الماروني هندية مثل البطريرك سمعان عواد، والبطاركة بعده طوبيا الخازن ويوسف اسطفان، بينما على العكس من ذلك اليسوعيون وبعض الموارنة، أصبحوا أكثر ارتياباً بشأن عقيدة وشخصية هندية.

عام 1752 أمر البابا بنديكت الرابع عشر بالتفتيش الأول الذي يقوم به الفرنسيسكان ديسيديريو دا كاسباشانا، وكان يعادي في البداية هندية، أصبح هو نفسه من مؤيديها. دعمت الحالة التي مرت بها هندية العودة تحت البطريركية يوسف اسطفان لأن البطريرك كان مولعا جداً بالتفاني الذي تستقبله هندية حتى أنه جعل “قلب يسوع الأقدس” يوماً مقدساً يلتزم به الموارنة.

شخصيتها
كانت هندية مختلفة عن الشابات في عمرها و كثيراً ما سخروا من قرارها امتناع الأفعال التي تعتبر “مادية” واهتمامها بالمعايير الاجتماعية. وأعربت عن اعتقادها أنها خلقت لتكرس حياتها للمسيح، وتحدث الشخصيات الدينية عن رؤيتها للمسيح والذي أوحى لها تأسيس رهبنة، وتقول عن ذلك: “في سن الرابعة أو الخامسة سمعت بصوت واضح بأنني سوف أؤسس أخوية من الرجال والنساء وأكون رئيستها، وهذا هو مؤسسها … “. أعجب العديد من الرجال والنساء بتفاني هندية الشابة وسرعان ما تحول هذا إلى سخرية مرة واحدة حين أصبحت في سن الزواج ورفضت الزواج. وقررت أن تبقى وحيدة ووهبت حياتها للمسيح كرفضٍ صريحٍ للأعراف الاجتماعية التي يلتزم بها الشابات في سنها وبين ذلك مدى التزامها بتحقيق أهدافها.

دورها كامرأة
سخرت والدتها وأشقاؤها وجيرانها من محاولاتها الدائمة تقوية علاقتها بيسوع وعبادتها له التي رأوها نوعاً من الحرمان. كان سلوكها معادياً للعلاقات الاجتماعية ومتشدداً، وقالت إنها امتنعت عن التحدث إلى والديها وقالت ادعاءً :”وقال ربنا يسوع المسيح أن كل من لا يترك أباه وأمه … لن يستحق حبي”. وكان قرارها تجنب الحياة الاجتماعية والمشاركة في الطقوس الاجتماعية المتوقعة لشابات في عمرها نوعاً من التمرد عرضها لسخرية هائلة. ولكنها صممت أن تسعى لتحقيق رؤى طفولتها وتسعى لتأسيس أخوية وأنها عازمة على تتفوق على النظرة الموجهة للنساء من قبل الشخصيات الدينية.

عقيدتها
خلال عمليات التفتيش التي وجهت لتجمعاتها في السبعينيات، اتهم المذهب الذي تدعو إليه هندية أنه بدعة حين تمت مقارنته مع المذهب التاريخي الماروني، على سبيل المثال: ادعاؤها أنها اجتمعت مع المسيح في صاغر : (قرية سوريّة تتبع إداريّاً لمحافظة حلب منطقة عفرين) واتحدت حقيقيا وليس تصادماً به، وأن معرفتها أكبر من معرفة الملائكة، وأن بوساطتها يقضي يسوع بين الأموات، وأنها معصومة، والعديد من آيات الكتاب المقدس تشير إليها، وأنها أعظم من السيدة مريم، وأنها تستحق العبادة لاتحادها مع المسيح. واتهمت هندية أيضاً بالعديد من الطقوس غير المشروعة، مثل أخذ سرالقرابين – وليس الصيام-عندما تريد للمطالبة بمقاضاة الروح أو الاعتراف.

تأثيرها
كانت هندية رمزاً روحانياً لها تأثير كبير على طائفة مماثلة من المصلين للقلب المقدس في حلب الذين ازداد عددهم في وقت لاحق، والتي تأسست على يد مارغريت بابتست بدعم من القس الفرنسي نيكولاس جودي، وعارض هذه الراهبة البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم الكاثوليك الملكي الروماني ووضعه مجمع التبشيريين تحت الرقابة في عام 1838، وقمعت بعدها في 1849.

بحث تاريخي فرنسيسكاني ماروني استثنائي، مرجع مهم جدا، مثير في وقائعه ومعلوماته ومخطوطاته، استغرق انجازه نحو 10 سنوات. وثائق يخرجها الاب حليم نجيم الماروني الفرنسيسكاني(1) من صناديقها، واحداها تتعلق بالراهبة “هندية” التي شغلت الكنيسة المارونية ولبنان والفاتيكان باخبارها في القرن الثامن عشر، و”تُنشَر للمرة الاولى”. مراسلات ينفض عنها الغبار للإضاءة على قضايا ملحة في حقبات زمنية غابرة. خلال حديثه الى “النهار” 20-04-2018 | 15:28.

“الموارنة في القرن الثامن عشر”. الرحلة مع نجيم تغوص اكثر في احداث اخرى “هزّت” الكنيسة المارونية و”زعزعتها”، والدور الاساسي الذي لعبه الرهبان الفرنسيسكان “لاعادة الامور الى مجاريها، بتكليف من الكرسي الرسولي”: اقالة مطارنة موارنة البطريرك يعقوب عواد، ثم اعادته الى كرسيه (1713)، بعد تكليف الفاتيكان حارس الاراضي المقدسة المهمّة. انقعاد المجمع الماروني (1736)، “لوضع حد لبعض التجاوزات في الكنيسة”، في حضور الحارس.

تبقى الخضّة الاكبر الراهبة حنة العجيمي المعروفة بـ”هندية في كتابه، ينشر نجيم صفحات عديدة من يوميات دير الفرنسيسكان في حريصا، تتكلم على هذه الراهبة التي “اسست رهبانية خاصة بها، وادعت انها متحدة بالمسيح كأنه يتكلم بلسانها. وقام حولها جدل كبير كاد يتسبب بانشقاق كبير في الكنيسة يدكّ اساسها”، على ما يفيد، وأجبر الفاتيكان على التدخل مجددا.

في كتاب وثائق رهبانية الجزء الثاني. يتحدّث عن حقبات مهمّة في تاريخ الموارنة أهمّها تأسيس أديارهم ورسالتهم في الشرق، خصوصا عن رهبنة قلب يسوع ومؤسستها الراهبة هندية حنة عجيمي.

مع “هندية”، اصبحت الاجواء مشحونة جدا. “لقد اقامت الدنيا في زمانها ولم تقعدها”، بتعبيره. يستحضر شخصيتها الغامضة، القوية، “وكان تأثيرها كبيرا، خصوصا على البطريرك يوسف اسطفان”، على قوله. يعرض ايضا “بعض آرائها ومعتقداتها ورؤاها وتصرفاتها الغريبة”. ما يكشفه من يوميات ديرية فرنسيسكانية شريط مهم من الوقائع الآسرة، بتعقيدها وتفاصيلها وتصاعدها الدراماتيكي الوخيم. وكان الفرنسيسكان على الخط مجددا، مع تعيين البابا بندكتس الرابع عشر راهبا فرنسيسكانيا مندوبا له في هذه القضية الخطيرة جدا.

الاحداث الجسيمة تستوجب القراءة حتى آخر حرف. كل معلومة مهمة، وكل تفصيل ضروري. التاريخ هنا له ثقله. “لعل التذكير بمثل هذه الاحداث يكون لنا عبرة ودرسا وامثولة لحسن التصرف في الحاضر والمستقبل”، على قول نجيم. ختاما، “علينا الا نستغرب شيئا، لاننا نسمع في هذه الايام ايضا اشخاصا يرددون بافتخار ما كانت هندية تقوله في تلك الفترة من الزمن، مُدَّعية انه من وحي المسيح لها”.

وكتاب المطران مارون ناصر (اسقف باريس) يتضمّن 72 وثيقة جديدة عن هندية، تُعتَبَر من أهمّ المراجع العلمية عن سيرة هذه الراهبة التي شغلت تاريخ الكنيسة المارونية وروما في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وما بعده. ثمّ استعرض سيرة هندية عجيمي وتحدّث عن “قانون رهبنة قلب يسوع الأقدس” الذي وضعته هذه الراهبة التي أسّست رهبنة قلب يسوع والتي اشتهرت بأنّها قدّيسة لأنّها استطاعت ضَمّ 77 راهبة إلى رهبنتها من العام 1750 حتّى العام 1775.

تعتبر الراهبة هندية قضية، وهي أكبر المشاكل التي واجهها البطريرك يوسف اسطفان (1729 – 1793) ، والتي أدت إلى ربطه عن ممارسة أعماله البطريركية. وقضية الراهبة الحلبيّة الأصل، التي أسست رهبنة نسائية معروفة باسم “رهبنة قلب يسوع الأقدس” في بكركي القريبة من غوسطا، ونالت شهرة وتكاثرت الراهبات من حولها، فثبتها البطريرك ورهبنتها بقوانين رسمية عام 1771، وإذ كانت الرهبنة تنمو، منحها ديرين إضافيين إلى جانب دير بكركي.

في عام 1777 اعترض عدد من الأساقفة على الراهبة هندية أمام المجمع المقدس والبابا بيوس السادس، غير أن البطريرك دافع عنها بهوادة. بنتيجة المحاججة “المغرضة”، أرسل البابا قاصدًا رسوليًا إلى لبنان للتحقق في صحة القضية، غير أنّ القاصد برَّأ ساحتها، ما جعل البطريرك أكثر تمسكًا بها في وجوه مناوئيه. غير أن استمرار الجدل في قضيتها، دفعت المجمع المقدس في روما إرسال موفد آخر عام 1778، وإذ وجد بنتيجة تحقيقاته هرطقة ومخالفة لتعاليم الكنيسة فيما تلقنه الراهبة هندية ضمن أحد كتبها الذي أسمته “اللاهوت السرّي” ففي أحد بنود الكتاب تذكر أن اتحاد المسيحي في المسيح عن طريق القربان كاتحاد لاهوته بناسوته.

نتيجة التحقيق، أصدر البابا بيوس السادس قرارًا مؤرخًا في 25 يونيو 1779 يقضي بإلغاء رهبنتها، وتوزيع راهباتها على سائر الرهبنات، وتحديد إقامتها في أحد الأديار. كما أرسل خطاب توبيخ للبطريرك. كما طلب القاصد الرسولي في لبنان من البطريرك توقيع مرسوم يتراجع به عن الإنعامات والامتيازات التي سبق أن منح البطريرك إياها للرهبنة، غير أن البطريرك رفض؛ فلما علم الكرسي الرسولي بالأمر أصدر البابا قرارًا بربطه عن ممارسة سلطاته البطريركية؛ وأقام مطران قيصرية ميخائيل الخازن ليكون مدبرًا بطريركيًا للطائفة طالما كان البطريرك مربوطًا عن التصرف.

نتيجة الربط، اتجه البطريرك إلى عكا ليسافر منها إلى روما، غير أن مرضًا أصابه هناك منعه في السفر، في حين سادت حالة من البلبلة الطائفة، وكتب قنصل فرنسا في بيروت غندور سعد الخوري، وكذلك حاكم جبل لبنان يوسف الشهابي، إلى البابا بيوس السادس في مدح البطريرك، وطلب القنصل من رؤساء الأساقفة والرهبانيات القيام بالأمر ذاته، نشرت جميع هذه الرسائل في كتاب سلسلة البطاركة الموارنة لرشيد الشرتوني في القرن التاسع عشر. الرد البابوي كان في 18 سبتمبر 1884 موجهًا إلى قنصل فرنسا في بيروت غندور سعد الخوري برسالة من البابا بيوس السادس، يعيد فيها البطريرك إلى ممارسة سلطاته البطريركية ويبدي حرصه على استقرار الطائفة المارونية.

ونفذت عمليات تفتيش جديدة للخروج من خلال فاليريانو دي براتو حارس الأراضي المقدسة في عام 1773، وأخيراً اتخذ بيترو كرافيري من موريتا في 1775 موقفا ضد مذاهب هندية. تلقت قضية هندية من قبل معارضي يوسف اسطفان من شيوخ آل الخازن والأساقفة ميخائيل فاضل الخازن وميخائيل فاضل، ربما هناك تزاحم على خلفيات سياسية لا مجال لذكرها. وأخيراً في عام 1779 أصدر البابا بيوس السادس مرسوماً ينص على أن هندية مخادعة والعقيدة التي روَّجت لها باطلة، وعلاوة على ذلك، سحب منها وسام القلب المقدس وعلق البطريرك يوسف اسطفان من جميع وظائفه وعين ميخائيل الخازن نائباً له. أعيد البطريرك يوسف اسطفان إلى السلطة في عام 1784، في حين عاشت هندية بقية حياتها كراهبة محصورة في مختلف الأديرة محظورة أعمالها، وتوفيت في 13 فبراير 1798 في دير سيدة الحقلة.

في اعتقادي وارجح الظن ظلمها زمن مشحون بالخلافات والتهافت على كراسي السلطة