روزيت فاضل/كلام عن موريس عواد في ذكرى رحيله الثانية… المتمرد على التخلف والغربة عن الوطن والحرية

78

كلام عن موريس عواد في ذكرى رحيله الثانية… المتمرد على التخلف والغربة عن الوطن والحرية
روزيت فاضل/النهار العربي/12 كانون الأول/2020

إذا كان الراحل موريس عواد يعيش اليوم في واحة الشعراء، فهو بقي في الذكرى الثانية لرحيله عن “لبنان الموجوع”، لا سيما  لمن يقرأ مخزونه الثقافي والأدبي والوطني، صاحب كلمة ناقدة للتخلف، ومدافعاً عن الوطن والحرية…

رحل موريس عواد قبل عامين ونحن في غربة مع الفكر والرؤى، نعيش رهائن لعالم بائس بالسياسية، على قياس مصالح الذات الأنانية… موريس عواد الكوني، الذي تركنا بخفر الى المقلب الآخر، لم يشهد في 4 آب (أغسطس) على اغتيال مدينة بيروت وناسها، لا بل على اغتيال الوطن كله. لكنه ربما يشعر هناك أننا نعاني من وجع شديد ومعاناة يومية من غياب ضمير ما زال “مستتراً” لدى طبقة حاكمة لطالما نبذها بكلماته.

بفضل جهود ولديه ملكار وأدون، أطلقت مؤسسة موريس عواد سلسلة نشاطات افتراضية يتم من خلالها تعريف الجيل الحالم بوطن بموريس عواد، عاشق لبنان والمدمن على الحرية…

شارك موقع “النهار العربي” في تكريم ذكرى موريس عواد من خلال كلمة لكل من عضوي مجلس أمناء المؤسسة التي تحمل اسمه، هما الدكتور ربيعة أبي فاضل والدكتور جوزف شهدا، رفيقا درب عواد والشاهدان على أهمية مخزونه الثقافي والفكري والوطني العابر للبنان، لا بل لكل الأوطان.

القلب الشاعر العارف
في كلمة الدكتور ربيعة أبي فاضل عنوان لافت للوجه الآخر “موريس عواد: القلب الشاعر العارف!” وهذا نصها الكامل:

أُحدّثُ القارئ في هذه الكلمة، عن موريس عوّاد إنساناً وشاعراً. كان يودّ قبل العشرين، أنّ ينذر حياته للسّماء، ويترك العالم، لكنّ صراعاً هزّ كيانه الدّاخلي إلى حدّ الاحتراق، جعله يؤثر بخور الشّعر على بخور الهيكل. فعنى له ميشال طراد وسعيد عقل، ويوسف الخال، وإميل مبارك، الكثير، كما تعاطف مع شعراء فرنسيّين، أمثال فيكتور هوغو، وبول كلوديل، وبودلير، وبقي يقرأ ما تيّسر له حتى السّاعة الأخيرة من عمره، بعد الثّمانين.

وترجم موريس لماترلينك، ولهنري بارّو، وأنطوان دي سانت إكزوبري، وترجمَ له، في المقابل، إدوار طربيه كتابه اللُّقيا: “حكي غير شكل” إلى الفرنسيّة، كما كتب عنه أركاديوس بلونكا بالفرنسيّة، كتاباً موجزاً شاملاً، وقُبيلَ رحيله عن الدّنيا، منذ عامين، أصدر الدكتوران ربيعة أبي فاضل وجورج زكي الحاج كتابين عنه: “موريس  عواد الشاعر الأسطورة”، و”موريس عواد شاعر الرؤى”، وقد أمضى حياته لا يعمل سوى رسالة واحدة وهي البحث عن الحقيقة، من خلال الكلمة، فكانت المطالعة دأبه اليوميّ، وتليها الكتابة، ولم يسعَ، كما المعلّم سعيد عقل، لأن يجعل نصوصه تدرُّ عليه المنّ والسّلوى.

لماذا بقي موريس عواد الإنسان، الشّاعر، فقيراً، عِلماً أنّه كتب الأناشيد الوطنية وكان صاحب كاريزما … واستعان به مسرحيّون، وموسيقيون، وإعلاميّون، وآخرون، كي ينضوي إلى طرقهم، ويُصفّق معهم، ويُرنّم لأسياد الدّهر؟ الجواب بسيط جدّاً، لم يكن المال، ومعه الجاهُ والسّلطة، من أولويّاته، على عكس سعيد عقل، فتمسّك بمبادئه الرّوحيّة، والأدبيّة، والوطنيّة، وصمد بوجه المُغريات، والتحدّيات، وقاوم كلّ فكر أو سياسة أو استراتيجيّة تُضعف لبنانه أو تُبدّل في هويّته، وماهيته. كان سعيد عقل براغماتيّاً، يُدخل على نظريته ما يمكن أن يناقضها، لكنّ موريس لا يبدّل أيّ تبديل في ما يعتقده حقّاً.

كثيرون لم يفهموا طبيعة هذا الطّفل الدائم التمرّد، فلبنان لعبته البهيّة، بجباله والثّلوج، وبأرزه والعنفوان، وببحره والانفتاح، وبالثقافة والحريّة، وبالتاريخ العريق، من الآراميّين حتى هذا الحين. ولعل من أسباب غضب هذا الطّفل، منذ 1934، أنّ جهات متعدّدة خرّبت هذه اللّعبة الجميلة، وفكّكت وحدتها، وبناءَها البهيّ، وباتت كلّ جهة تصوغ لبنانها كما تريد، وبكلّ الأساليب المشوّهة والمتاجرة، والفاسدة، والتي تفتقر إلى الأمانة، والرقيّ، والأصالة.

بناءً عليه، أَدركنا من عناوين دواونيه، مدى غضبه، وثورته، وشعوره بالمأسويّة، ورغبته في إيجاد حلول ممكنة لأزمات مستحيلة، من “قنديل السّفر” إلى “آخ”، إلى “حكي غير شكل”، إلى كلّ ما كتب، كان شعوره بأنّ الميتة الأصعب هي التي نعايشها ونحن أحياء. ومن أقواله وهو يعاني آلام لبنان الوطن: “ما بقا عندي دموع، بْكيتُن كلّن … وبعد عندي بكي كتير عا لبنان” ولجأ، عدا البكاء، إلى السّخرية، يتعالى بوساطتها على كلّ مَن نافق في التعاطي مع الشّعر أو مع لبنان أو مع الحريّة!

ونتيجة هذا القهر الذي شعر به اللّبناني المقيم، واللّبناني المُهاجر، تحوّل الأنقياء إلى مجانين، لاعتقادهم، كما قال جبران، إنّ المجنون تلتهب نفسه بمحبّة الشّمس، ولا يضع أقنعة على وجهه، وهو أقرب الناس إلى الله. قال صاحب “النبيّ”: “يَحسبونني مجنوناً لأنّني لا أبيع أيّامي بدنانيرهم، وأحسبهم مجانين لأنّهم يظنّون أنّ أيّامي تُباع بالدّنانير”. وفي قصيدة له بعنوان: “المجنون التاني” قال موريس: “اكتبوا إسمي عَ الحيطان / بالأحمر، إسمي المجنون / اجرحوني، قلبي متلان / بدّي إلعب دقّ جنون / … (آخ). فالجنون الجبراني، والعوّادي، إنّما هو منتهى الحكمة والوعي، بخاصّة في مراحل، يموت معها الأهل، ويتشدّد الاستبداد، وينقطع الهواء عن الأجيال.

هذا المجنون موريس، الذي تعرّى من أعباء المادّة، تحرّر أيضاً، من سعيد عقل بعد صداقة، وتخلّى عن شخصيّات رمزيّة تخيّلها هي المخلّصة، وتخلّى عن بعض الأناشيد، بعد موت البطل المنتظر، وبقي ربع قرن في عزلته، غير مُبالٍ بفقر أو جوع أو بهدلة. وبِصمته، وبصموده، وبجوعه، وبدموعه، قال لسعيد عقل: “مش رح خلّيك/ تِتْسعقلني، خلّيك بْ وهجك. وخلّيني بْ حالي”. وقال عن علاقته بلبنان: “وفي إبن كفرغربي/ الـ ما بيعرف يخبّي / وأنا ال ما زَعبرت / ولا بعمل شي علْ اللّسّ / وكرمالو افتقرت من بطن إمّي” / وقبل أن يرحلا، منذ بضع سنوات، تعمّقت الهوّة، خصوصاً بعد قول موريس، مُشيراً إلى عامل المادّة المؤثّرة في مواقف عقل: “ما بعرف رشرش عطر / ت غطّي اللّي ضرب / ضربي عالحافر / ضربي عالمسمار!” (إن ما موريام 2014) وقد طالب موريس عقل بجنون القلب وليس بجنون العقل!.

بعض الشّعراء يظلّون أوفياء لفنّهم، ولحياتهم، ولوطنهم، وأرضهم. وبعضهم لا يكترثون لقيم فنيّة أو وطنيّة، فيتاجرون، ويستغلّون المناسبات، والخطابات والمنابر، ولو في ظلّ التناقضات، والتباس المواقف. وموريس عوّاد غريب في طبعه، وفي خياله، وفي غنائه، وفي مزاجه، وحياته، وهو صعب، وقاسٍ تُجاه نفسه، فكيف يرحم من يخرج على التقاليد، والأصول، والجذور، وحلاوة النّور!؟ إنّه الشّاعر الوحيد الذي لم يمتهن مهنة، ولم يحصل على معاش شهري من أحد أو من أي مؤسّسة، ولم يتقاعد مرّةً، ليشعر بالاطمئنان، ولم يعطَ فرصة ترك قرشه الأبيض ليومه الأسود. ولولا عزاء الإبداع، وحنان الشّعر، ووقوف الشاعرة نجاة إلى جانبه، لرحل في الأربعين، وحيداً، في قريته بصاليم، وقد هجرها مقرّراً ألاّ تطأها قدماه، لا حيّاً ولا ميّتاً، فعاش غريباً، ولا يزال بعد موته أيضاً!

بقيت لي، في هذه الكلمة الموجزة، الإشارة إلى أنّ هذا الإنسان الشاعر الذي وقف حياته على الشّعر، استمرّ طوال حياته، يتفكّر في الماوراء، ويحسب أنّ جذوره لاهوتية، وليست مجرّد حياة تعبر السّطح، وتتجاهل الأعماق. وأكثر ما بدأ ذلك يتجلّى في “قنديل السّفر”، الذي حصد جائزة سعيد عقل، عام 1970، وأبدع الغلاف الأب الملهَم يوحنّا صادر. بعد أغنار 1963، وعلى مدى حياة موريس الشعريّة، لم أقرأ له ما يوازي حرارة الحوار بينه وبين الخالق، بخاصّة حول الكمال الإلهي، والغربة على الأرض، والحبّ الإلهي، والعنف على الأرض، فعانى موريس الحيرة، وطلب من إلهه، قال:

“… أشلحلي إلاهة شعر ع مَيل الشّمال
اهديني الاهة حُبّ ع مَيل اليمين
اعطيني تَ هَدّي العاصفة وإنقل جبال
وإجمع سنينك كلّها بنتفة سنين … (ص 24)
ووصف موريس تجربته الميتافيزيقيّة هذه بكونها تجربة شاعر وليست من منطلق لاهوتي
لذلك، رحل ولم تنتهِ الأسئلة، ولم تنتهِ التّجربة:
“… دقّات قلبي حروف عم بيفرفرو
وريشي تلملم هَـ الدّني بْكمشي
كلّن غفوا، وشاعر غِفي عا دفترو
والدّفتر بْ ها الكون عم يِمشي” (ص 53)

“هون موريس عواد”
أما الدكتور جوزف شهدا فغرف في كلمة مقتضبة في أبجديته، لا بل في عالم خاص حمل عنواناً “هون موريس عواد”، وهنا نص الكلمة:

الدّخول إلى عالم موريس عوّاد، هو انتقال من العام إلى الخاص في تكوينه المتنوّع، وفي قراءته كإنسان ومفكّر وشاعر. هو انتقال من اللّغة العربيّة العامّة إلى عامّيّة اللّغة اللّبنانيّة الخاصّة، حيث أبرع شعراً ونثراً بتطويع اللّغة العامّيّة خدمة لجوهر الكلمة وجماليّة المعنى.

لغته خاصّة به لا تشبه لغة شاعر آخر، “مَوْرَس” على طريقته، فكان متمرّداً شرساً حتّى على لهجات اللّغة المحكيّة، وكيف وهو القائل: “هيدي اللّغة اللّي تعلّمتا بحضن إمّي”. حتّى هذه “اللّغة الأمّ” انكبّ على تطويرها، مخالفاً شعراء العامّيّة كافّة، ألغى ال التّعريف واستبدلها بـ “ل” فقط. والوحيد الّذي تجرّأ وألغى حرف القاف واستبدل به الهمزة على كرسيّ الياء، وأعاد النّظر بنتاجه القديم واعداً بتوحيد الكتابة الّتي تطوّرت إلى ما صارت عليه في مؤلّفاته الأخيرة.

أضاف عوّاد إلى اللّغة العامّيّة جماليّة السّهل الممتنع، كتب ببساطة محمّلة اللّعب بالكلمات، وكأنّها مدماك بنى عليه نصّاً متماسكاً شعراً ونثراً.

غرف موريس من مخزونه الثّقافيّ الفنّيّ من قراءاته المتعدّدة والمتنوّعة، فزاوج بين العالميّ والمحلّيّ، بين الحضارة العامّة والتّراث اللّبنانيّ، بين اللّاهوت والنّاسوت، وما ميّزه في كلّ هذا، “عنفوانه الممتلئ على كرامته، النّابض بتمرّده والثّائر بمواقفه، وعلى عزّة نفس قهرت التّرغيب والتّرهيب”.

أحبّ لبنان على طريقته كما أحبّ اللّه على طريقته، لا وسيط بينه ومن يُحبّ. انتقد العادات والتّقاليد البالية، وعاب على أغلبيّة المسؤولين، لا وطنيّتهم، ونعتهم بالسّماسرة وبعضهم مأجورين.

كان جريئاً في وقوفه إلى جانب الحقّ وفي مواجهته الباطل ولا يهاون حتّى أقرب النّاس إليه إذا أخطأ. كان متطرّفاً في حبّه للبنان، وكان مهووساً بالحرّيّة.

لبنان والحرّيّة استوطنا في مؤلّفاته، على عرش يليق بحبّه وعشقه.

موريس عوّاد في رحلته الطّويلة، كان يتنفّس شعراً، ويشرب شعراً، ويأكل شعراً، ويقلق شعراً، ويبكي شعراً، ويثور شعراً. كان صاحب رؤية يبصر بعينيه وقلبه. وكان إنساناً مجبولاً بالأحاسيس، استطاع أن يسكبها بانسياب هيولي، وكان موته آخر قصيدة كتبها في طريقه إلى الله.

يبقى أخيراً أن نعتذر من موريس عواد لأننا كتبنا بلغة لم يحبها راجين أن يسامحنا…

ونودعه قائلين: “بخاطرك موريس…”.