شارل الياس شرتوني/الدولة الصورية ومفارقات الإصلاح المالي واستحالاته

77

الدولة الصورية ومفارقات الإصلاح المالي واستحالاته
شارل الياس شرتوني/04 أيار/2020

ان مهزلة التصريح عن سعر صرف الدولار من قبل مصرف لبنان تتواتر مع تنامي اسواق الصرف غير الشرعي بمعدلاتها الاستنسابية، وإلاحالات المفخخة للصيارفة المخالفين، كافية لانبائنا عن التسكع البنيوي الذي يحكم اداء هذه الحكومة ويفقدها الصدقية المطلوبة، ويعيدنا الى المعادلة الناظمة لأي عمل اصلاحي التي تفترض تلازمًا بين الإصلاح المالي والاقتصادي والإصلاح والاستقرار السياسيين.

ان حالة المراوحة والمواربة في مقاربة اشكاليات الإصلاح المالي تحجب واقع التجاذب بين أطراف الاوليغارشيات السياسية-المالية على تنوع انتماءاتها، ومتابعة حزب الله ومراكز النفوذ الشيعية سياسة القضم التدرجية لمواقع القرار السياسي في البلاد، وعدم الاكتراث لأولوية تخريج مفكرة اصلاحية جامعة في المجالات المالية والاقتصادية.

اما الحكومة الحاضرة فتقيم على تخوم مبهمة تترنح بين الإملاءات المهنية للعمل الاصلاحي وانتفاء الوفاق السياسي بحدوده الدنيا من اجل العبور باتجاه السياسات الإصلاحية الفعلية، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول إمكانية الوصول الى مرحلة اصلاحية فعلية.

نحن في دائرة الإستحالات الدائمة والإحالات المفتوحة نحو آجال لا نعرف شيئًا عن طبيعتها وآمادها، في حين ان المتغيرات والإشكاليات المهنية التي نحن بصدد معالجتها لا تخرج عن التعريفات والأصول العلمية والتقنية المعتمدة دوليًا:

أ- لا إمكانية لأي عمل اصلاحي خارجا عن توحيد مفكرات الإصلاح بين مختلف الاتجاهات والرؤى السياسية والتقنية والخروج من منطق التجاذبات التي تحكم اداء سياسة النفوذ القائمة. ان سياسة تبادل الاتهامات وإزاحة الشبهات التي يعتمدها كل من أطراف اوليغارشيات الطائف هي جزء من نهج تضليلي يظهر واقع المسارات السياسية المزدوجة والمفكرة الانقلابية لحزب الله ومضاداتها، وبالتالي لا إمكانية لإجراء أي عمل اصلاحي في ظل مناخات غير آبهة لأولوية الأزمات البنيوية القاتلة وتردداتها على ديناميكيات النزاع المفتوحة المنعقدة على خطوط التداخل بين الداخل والخارج.

لا إمكانية لأي إصلاح بنيوي خارجا عن الاستقرار السياسي واعادة صياغة آليات الحوكمة والتدبير في السياسات العامة، وبنية الدولة المركزية لحساب توزع الحوكمة بين الحكم المركزي والحكم المحلي، وفصل مترتبات العمل الحكومي والإداري والتدبيري عن سياسات النفوذ. ان الطلاق القائم بين عمل الحوكمة الرشيدة ومواقع القرار السياسي الفعلي ليس بالأمر الطارئ، بل هو ملازم للحياة السياسية في البلاد ولطبيعة ازماتها المتكررة.

ب- تنعقد معالجة الأزمة المالية البنيوية على خطين متقاطعين، خط معالجة أزمة المديونية العامة، وخط اعادة تفعيل الحياة الاقتصادية على قاعدة التلازم بين الاثنين، اذ لا إمكانية لإعادة الحركة الاقتصادية دون الخروج عن واقع الإفلاس المالي والسياسات الارادية التي اودت اليه على قاعدة تمويل الريوع والحيازات السياسية على حساب الاستثمارات الاقتصادية الفعلية، وتحرير القرار المالي والاقتصادي من دائرة الاقفالات الاوليغارشية التي تحكم حركته.

ان غياب معطيات احصائية موحدة تخرجنا من حيز التخمينات المتضاربة هو جزء أساسي من الأزمة يتوخى إشاعة اجواء من البلبلة الارادية التي تستثمر في ترفيد النزاعات القائمة، وإزاحة المسؤوليات، وإخفاء الوقائع، والمناورة في ظل غياب القاعدة الإحصائية الجامعة. ان عملية تشريح الدين العام وتحديد قطاعاته  (وزارات، ادارات عامة، آليات النهب والإهدار والتهرب الضريبي، والتسرب في الجبايات الجمركية والعقارية وتقديراتها الكمية، وتوزع وتنسيب المسؤوليات، الشبكات الزبائنية وشبكات الجريمة المنظمة على تنوع نشاطاتها …) أساسية في مجال إقرار سياسة تعويم الأسواق المالية، واعادة هيكلة القطاع المصرفي ورسملته، واستعادة الاموال المهربة والمنهوبة ومقاضاة المسؤولين على تنوع توزعاتهم المهنية والسياسية.

ان الاقتراح الذي تقدمت به استشارة ” لازارد” بناء على رصدها الدقيق لعملية التسيب المالي الإرادي الذي تولد عن ٣٠ سنةً من السياسات المالية المشبوهة والفاسدة، والقاضي بتوزيع الخسائر على المساهمين والمودعين والإداريين المصرفيين الكبار والمصرف المركزي، قد اخطأ لجهة تنسيب المسؤوليات. لقد انطلقت سياسة اقراض أموال المودعين من قرارات إرادية متقاطعة بين المصرف المركزي والمصارف، ومراكز النفوذ السياسي الضابطة على مختلف تدرجات القرارات المالية والسياسية العامة، وعلى قاعدة سياسة الدين العام البغيض ( Odious Debt )،واستغلال المعلومات المالية، ( Délit d’initié, Insider Trading )، ونهج ” الأرباح خاصة والمخاطر عامة ”
( Private gains and Socialized Risks) .

هذا الاستنتاج يعني بالتالي ضرورة اعتماد سياسة مضادة تقوم على مبدأ توزيع الخسائر على الذين جنوا الأرباح الريعية على مدى الثلاثين سنة الماضية ( ٨٤ مليار دا للقطاع المصرفي الذي تملك منه الاوليغارشية السياسية ١٨ /٢٠ ،من الالفا بنك ) ومقاضاة كل الذين وضعوا هذه السياسة ونفذوها على مدى ثلاثة عقود على أساس إرادي وهادف ومتناسب مع مصالحهم الشخصية والسياسية، وبالتالي لا بد من شطب الديون الداخلية البالغة ٨٠ مليار دولارا وتقسيط ال٢١ مليار دين خارجي على ٢٠ سنةً بمعدل فائدة ١/١٠،الأمر الذي يسقط الدين من ٦ مليارات / ١ مليار سنويًا (سامر سلامة، دان قزي … ).

ان اعادة تمويل القطاع المصرفي غير قابلة للتحقيق الا عبر اعادة هيكلة المصارف المستحيلة في ظل التضخم السرطاني الناشىء عن السياسات الريعية، ودون مقاضاة أطراف الاوليغارشيات السياسية- المالية، والمسؤولين المصرفيين الكبار من مساهمين وإداريين كبار وتنسيب مسؤولياتهم، وإلغاء قانون السرية المصرفية المخالف للقوانين المالية الدولية والمستخدم في مجال تبييض الاموال وحجب هوية المودعين (الأمر الذي يحول دون رصد هوية المودعين ومصادر ثرواتهم، وتطبيق قانون من أين لك هذا؟ )، واعادة تنظيم القطاع المصرفي على قاعدة تطبيق اتفاقيات بازل (٣،٢،١) لجهة متطلبات رأس المال، وإدارة المخاطر، وتوحيد المعايير الناظمة، ودون سحب القطاع المصرفي من دائرة المحاصصات الاوليغارشية، وربط اعادة الهيكلة بالاستقرار السياسي وخطة اصلاحية متكاملة تتمفصل على خطوط التواصل السياسية والمالية ( بما فيها دولرة الاقتصاد وإلغاء واقع الازدواج بين الإصدارات التضخمية بالليرة اللبنانية /Seignoriage وواقع التعامل بالدولار، سركيس-جو خوري، جامعة كاليفورنيا ) والاقتصادية والتجهيزية ( ملفات الكهرباء، والخليوي والبنية التحتية وتردداتها المالية الكارثية… ) والإدارية والقضائية والاجتماعية والتربوية والبيئية.

ان إمكانية التفاوض مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة مرتبطة بشكل عضوي بالاستقرار السياسي والخطة الإصلاحية، وإلا فنحن أمام استحالات غير قابلة للحلحلة. ان الإبقاء على الاقفالات الاوليغارشية على مختلف مستويات السياسات العامة وروافع العمل الاقتصادي، كما ان إطباق حزب الله على القرار السياسي والاستراتيجي في البلاد، ومتابعته رعاية وحماية سياسة الاقتصاد المنحرف بكل أشكاله، سوف يدخلنا في متاهات نزاعية، داخلية واقليمية ودولية، ويحول دون التواصل مع المؤسسات الدولية والدول المانحة، واستقطاب التوظيفات الاقتصادية والمالية، الاغترابية والعربية والدولية، وبالتالي سوف يضعنا مرة أخرى أمام المفارقات المدمرة التي تغذت منها النزاعات المديدة على ارضنا، والتي دمرت الميزات التفاضلية التي جعلت من لبنان نموذجًا للحداثة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه المنطقة من العالم.