الكولونيل شربل بركات/(01 من 04) مجزرة بلدة عين إبل 05 أيار سنة 1920 والتي كان من نتائجها سقوط حكم فيصل واعلان دولة لبنان الكبير

1263

مجزرة بلدة عين إبل 05 أيار سنة 1920 والتي كان من نتائجها سقوط حكم فيصل واعلان دولة لبنان الكبير
الكولونيل شربل بركات/28 نيسان/2020
الحلقة الأولى

منذ مئة عام خلت وقبل أن يرسم لبنان الكبير الذي نعرفه اليوم جرت في المنطقة حركات وأحداث حاولت تغيير حلم اللبنانيين بوطن حر مستقل فاعتقد البعض بأن تبديل السلطنة العثمانية بمملكة عربية قد يكون الحل الأمثل بينما كان آخرون يحلمون بضم الجنوب اللبناني حتى الليطاني إلى الحماية الانكليزية بدل الفرنسية ليصبح بالتالي جزءً من فلسطين. ولكن اصرار اللبنانيين على وحدة الارض الجغرافية والتاريخية حقق الحلم باعادة ضم الاجزاء المسلوخة إلى المتصرفية لتشكل دولة لبنان الكبير.

كانت عين إبل في تلك الفترة واحدة من القرى النشيطة والمنتجة التي زينت “بلاد البشارة” وجنوب لبنان وقد شكلت مركزا لقوافل التجارة بين حوران وصور ايام الدولة العثمانية. ومع بداية الحرب العالمية الأولى تأثرت كغيرها من سياسة التجنيد الاجباري الذي فرضه العثمانيون فهاجر الكثير من أهاليها إلى الأمريكيتين وخسرت عددا كبيرا من أبنائها الذين فرض عليهم التجنيد. وبنفس الوقت تقلصت سبل العيش فتوقفت التجارة والانتاج الزراعي بسبب الحرب وغياب اليد العاملة ومطالب العثمانيين المتشددة. وما أن بدأ انحسار الحرب وذيولها، وقبل أن تستعيد البلدة أنفاسها، كانت غيوم جديدة لأحداث مصيرية تتلبد في الأفق.

كان اللبنانيون أول من أدخل الطباعة إلى الشرق منذ 1585 في مطبعة دير مار انطونيوس قزحيا والتي كانت تطبع بالحرف السرياني ومن ثم مطبعة دير مار يوحنا الخنشارة (1734) التي كانت تطبع بالحرف العربي. وبعد الانفتاح الماروني على المحيط، الذي أقرّه المجمع اللبناني المنعقد في دير سيدة اللويزة سنة 1736 والذي أوصى باعتماد اللغة العربية وفرض التعليم الالزامي للصغار صبيانا وبنات، بدأت الحركة الثقافية تتزايد وتضيء أكثر فاكثر على التراث العربي. ويوم حاول العثمانيون فرض التتريك على البلاد شكل المثقفون اللبنانيون نواة مقاومة هذه العملية ورفعوا لواء العروبة وتغنوا بها.

بدأت الثورة العربية ضد الاتراك في الحجاز بمساندة الانكليز وقد قام “الشريف حسين” ورجاله بعمليات محدودة ساهمت بتقليص انتشار القوات العثمانية هناك ومن ثم انسحابها. وقد شاركت قوة بقيادة الامير “فيصل” ابن الشريف حسين في عملية احتلال العقبة جنوب الاردن. وبعد خسائر الجيش العثماني المتتالية في فلسطين أمام قوات الجنرال “اللنبي” وانسحابهم السريع إلى شمال سوريا سارع الامير “فيصل” إلى دخول دمشق.

ولكن وقبل المضي في مزيد من التفاصيل سنلقي الضوء قليلا على جبل عامل، الذي كان دوما معقلا للخيالة اللبنانية المحلية، كغيره من المناطق الجبلية اللبنانية، منذ التنظيم الروماني في الدفاع عن المدن الساحلية ضد غزوات البدو، وكان أثبت قدرته على الحكم الذاتي وحماية السكان والارض بعد انحسار سلطة المعنيين وقيام الشيخ ضاهر العمر بالسيطرة على الجليل من طبريا إلى عكا ومن ثم محاولته السيطرة على جنوب لبنان. ولكن الشيخ “ناصيف النصار” وفرسانه كانوا له بالمرصاد وأعادوا رسم حدود لبنان الجنوبية في ثلاث مواقع متتالية وهي: موقعة طربيخا، ومارون، والبصة.

ومن ثم بعد التفاهم مع ضاهر العمر وعند محاولة والي الشام عثمان باشا، بأمر من الاستانة، الهجوم على جنوب لبنان من الجهة الشرقية، أي منطقة الحولة، قام “ناصيف” وفرسانه بالقضاء على حملة الباشا واعادة رسم حدود لبنان الجنوبية الشرقية كما هي اليوم. وقد أحب الاهالي في عين إبل الشيخ “ناصيف” وحاربوا ضمن قواته (يقول الرحالة الفرنسي “فولني” بأن المسيحيين كانوا يحاربون مع قوات “ناصيف النصار”) ويظهر هذا التقدير للشيخ “ناصيف” ومحبته من قبل الأهالي بافتخارهم به لدرجة تسمية أولادهم باسمه ما يبدو جليا في سلسلة العائلات العينبلية حيث يظهر اسم “ناصيف” في جيل واحد وبأكثر من عائلة. فقد سمى بركات ابن مخايل بن جريس دياب ابنه الثاني ناصيف وسمى يوسف بن جريس بن عبدالله خريش ابنه الثالث ايضا ناصيف كما سمى جريس بن حنا عتمه ابنه الثاني ناصيف وهي ظاهرة غريبة إذا ما قيست بالتسميات العادية المتبعة والتي عادة ما يتكرر فيها أسماء الاقارب والجدود دون غيرهم ضمن العائلة وأغلب الأسماء المعتمدة في العائلات العينبلية تعود لقديسين.

أما بعد “ناصيف” واحتلال “الجزار” لجنوب لبنان وفرضه السخرة أو “السرولي” (أي التجنيد الاجباري) فقد كثر “الطياحة” وساد الظلم والاستبداد. وما أن مات “الجزار” حتى عادت شيئا فشيئا السلطة المحلية مع “بشير الثاني” ووهرته لتضبط الأمور وتحسن الأوضاع فرفعت السخرة عن المواطنين. ولم تظهر أزمة حقيقية في المنطقة أثناء الهجوم المصري المدعوم من قبل “بشير الثاني” والذي وصل إلى كيليكيا. ولكن نهاية هذه الحرب أدت الى عودة سلطة الزعماء المحليين، حيث التحق “حمد البيك” بصفوف العثمانيين وناوش فلول المصريين.

ولم تحدث مشكلات حقيقية في الحرب الأهلية في 1860 في هذه المنطقة كما حصل في حاصبيا مثلا. ولكن حادثا فرديا بين رعاة ونواطير في 1865 أدى الى هجمة من بنت جبيل جعلت الأهالي يهربون تاركين البلدة عرضة لبعض النهب. وبعد مراجعات وشكاوى قام الأتراك بنفي عشرين من زعماء بنت جبيل الى قلعة الحصن في بلاد العلويين وتغريمهم ببعض التعويضات. وقد ظهرت فيما بعد هذه الحادثة خاصة، وكانت الأولى من نوعها، مجموعات من “القبضايات” أخذت “تغزو” الجوار وترد على التعدي بالتعدي فزاع سيطها في المنطقة بأثرها. وفي 1873 عندما حدث أن أحد هؤلاء خطف فتاة من حداثا (وتزوجها وسكنا في بيروت فيما بعد) أشاع أهالي هذه البلدة أنه قتل قتيل وتنادوا الى أخذ الثأر. فهوجم الرعاة والفلاحون ووصلت أخبار الهجوم الى البلدة. فحاول البعض الهرب.

ولكن الأب “سارفيم”، الذي كان يخدم في الدير يومها، أوقفهم ومنعهم من الهرب قائلا أنه سيرد الهجوم وهو مستعد لقتل كل من يدخل البلدة “بالطبنجة” التي يمتلكها. وهكذا فقد توقف الهلع ووقف الأهالي وقفة شجاعة ردت الهجوم قبل مداخل البلدة، ولم يحدث أي قتل يومها. وهنا نلاحظ في المرتين أن الخوف مما جرى في الجبل قد قلل من معنويات الأهالي خوفا من المذابح كما حدث هناك وهذه المناوشات كلها سوف تؤثر فيما بعد على تصرفات البلدة في أزمة 1920 ومواقفها تجاهها.

بالعودة إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، فبعد الانسحاب التركي إلى شمال سوريا وتوقيع اتفاقية “مدروس” 30 تشرين أول 1918 التي قبلت فيها السلطنة بوقف النار وانسحاب الألمان والنمساويين، ومن ثم دخول قوات الحلفاء إلى نقاط محددة من اسطنبول، اندفعت القوات الفرنسية لتثبت أقدامها في جنوب تركيا وخاصة كيليكيا. وكان الهم الأكبر لقوات الحلفاء السيطرة على الممرات المائية وسواحل البحر المتوسط والبحر الأسود بينما بقي للجيش العثماني قوات كبيرة تمركزت في انقرة والجبهة الشرقية والداخل.

كانت المواجهة في جنوب تركيا تتطلب الكثير من القوات الفرنسية ولذا لم يكن في منطقة صور حتى حزيران 1920 أي وحدة قتالية فرنسية ولو لضبط الأمن. من هنا خطورة الموقف بالنسبة للسكان العزل من السلاح في حال حدوث أي فوضى. وبينما كان “مصطفى كمال أتاتورك”، الذي عين فور توقيع وقف النار قائدا للقوات العثمانية في جنوب تركيا، يوزع السلاح على المدنيين لتامين عملية انسحاب الجيش العثماني، كانت بقايا المخابرات العثمانية (تشكيلات محسوسة) تحاول الهاء القوات الفرنسية باختلاق مشاكل في سوريا. وقد كان هذا الجهاز عمل في كثير من الأماكن داخل الدول المحيطة بالسلطنة عدى عن جمع المعلومات. مثالا على ذلك ارسال مجموعة إلى اسبانيا للعمل مع المخابرات الألمانية على تنظيم عمليات في المغرب ضد القوات الفرنسية لمنعها من ارسال المزيد من الدعم إلى جبهات القتال. كما ارسلت مجموعات إلى العديد من الدول “المعادية” للسلطنة أو التي تقف على الحياد مثل ايران وافغانستان والعربية ومصر والسودان والهند لتشجيع السكان المحليين على العصيان والتمرد وخلق المشكلات الأمنية فيها.

وقد كلف “عمر ناسي” بخلق وحدات “مقاومة” في ايران كما أرسل “سليمان شفيق” و”حسين رؤوف اوربي” و”محمد عبيدالله” إلى افغانستان من أجل خلق حالة تمرد في الهند. ومن المعروف أن هذه المخابرات كانت وراء تشكيل مجموعة متطوعين من دروز جبل لبنان بلغ عديدها 110 رجال بقيادة الأمير “شكيب ارسلان” للعمل مع قوات حملة الحجاز. ومن الجدير بالذكر أن “عمر فخر الدين باشا” تمكن من الدفاع عن المدينة المنورة ضد قوات “الشريف حسين” حتى كانون الثاني 1919 أي بعد التوقيع على وقف النار بين السلطنة والحلفاء وبالرغم من الحصار الذي دام 30 شهرا. ويعتبر أهم انجاز للمخابرات العثمانية ما جرى في ليبيا فلم تقتصر العمليات على خلق المشاكل للأيطاليين واثارة القلاقل داخل ليبيا ولكن تمكن ضابط المخابرات “نوري كيليجيل” باشا والماجور “جعفر العسكري” من التفاهم مع “سيد أحمد الشريف السنوسي” على تشكيل فرق عسكرية من القبائل الليبية لمحاولة خلق تمرد في مصر.

وقد قامت هذه الفرق بعمليات احتلال لمناطق على الحدود الليبية المصرية ما أدى إلى بعض حالات الفرار المحدودة من الجيش المصري. وفي العراق قام “سليمان العسكري” بقيادة مجموعة من المتطوعين ألبت بعض رجال القبائل ضد القوات البريطانية التي كانت تتألف من “قوات الاستطلاع الهندية” وصل عديدها إلى نحو 17000 مقاتل من عرب وأكراد. إذاً كان للمخابرات العثمانية خبرة كبيرة في خلق أنواع من الفوصى أو التمرد داخل الدول “العدوة” لاشغال قوات هذه الدول بضبط الأمن الداخلي ما يؤثر على عملياتها العسكرية على الحدود.

فكيف إذا كانت البلاد التي لم تخرج عن السيطرة العثمانية منذ مئات السنين ولهم فيها من الخبرة والصداقات ما يكفي لقلب الأوضاع راسا على عقب. من هنا وبالرغم من التوقيع على وقف النار بين السلطنة والحلفاء كان الجيش العثماني لا يزال يحلم باستعادة السلطة على البلاد التي خسرها، وخاصة سوريا التي تعتبر الأقرب. وقد تمكن “أتاتورك” فيما بعد من القيام بما سمي “حرب التحرير” بالفعل والتي بقيت مستمرة حتى اعاد السيطرة على كامل ما يعرف بتركيا اليوم. ومن ثم فلم يتم توقيع معاهدة الصلح النهائية قبل 24 تموز 1923.

بعد هذه الوقائع التاريخية يمكننا فهم الوضع في جنوب لبنان بشكل افضل وأوضح وبالتالي عدم التسرع في توزيع الاتهامات يمنة ويسرى بدون محاولة التحقق من الاسباب والنتائج التي ترتبت عليها وبذلك قد نجد بعض الأجوبة على سؤالنا: لماذا هوجمت عين إبل ووقعت فيها تلك المجذرة الرهيبة؟
يتبع –

*اضغط هنا لقراءة الحلقة الأولي من الدراسة التي في أعلى
*أضغط هنا لقراءة الحلقة الثانية من الدراسة التي في أعلى
*أضغط هنا لقراءة الحلقة الثالثة من الدراسة التي في أعلى
*أضغط هنا لقراءة الحلقة الرابعة من الدراسة التي في أعلى

الأمير فيصل ابن الشريف حسين
 
صورة لعائلة من عين إبل في بداية القرن العشرين