يوسف ي.الخوري يرد على مغالطات تاريخية جاءت في كتاب للنائب ايلي الفرزلي: لولا مسيحيو زحلة، لتمّ القضاء على شيعة البقاع

457

رداً على مغالطات تاريخية جاءت في كتاب للنائب ايلي الفرزلي: “لولا مسيحيو زحلة، لتمّ القضاء على شيعة البقاع”
يوسف ي.الخوري/28 آذار/2020

راجت في أوساط اللبنانيين أخيرًا، لاسيّما المسيحيين منهم، إشاعةٌ تقول بأنّ الشيعة حموا الموارنة إبّان الحرب بينهم وبين الدروز أواسط القرن التاسع عشر، وما سألتُ أحدًا من حاملي هذه الإشاعة “الفايروس” عن مصدرها وكان عنده جواب، إلى أن وقعتُ على كتاب ضخم لنائب رئيس مجلس النواب اللبناني إيلي الفرزلي عنوانه: “أجمل التاريخ كان غدًا”، وتبيّن لي أنّ هذا الكتاب هو المصدر، وتقع الإشاعة في الصفحتين 104 و105 منه.

بالنظر إلى تاريخ الكاتب الفرزلي وعلاقته بالسوريين ومحور الممانعة، وإلى الأسلوب المموّه الذي اعتمده في تزوير التاريخ لتمرير إشاعته المشار إليها أعلاه، يتأكّد لنا بقليل من الجهد، أنّ الإشاعة مقصودة وهي تدخل في إطار الحملة المتّبعة منذ سنوات، لتشييع لبنان، والعبث بهويّته القوميّة، عن طريق إضعاف الموارنة تحديدًا وتشويه تاريخهم.

ممّا جاء في النصّ حرفيًّا: “خُذلت (زحلة) من الجحر ذاته مرتين: مرّة خلال مرحلة الفتنة الكبرى 1841 – 1860، ومرّة في زمن بشير الجميّل وحركته المتمرّدة على الوجود الفلسطيني… في الحرب الأهليّة الأولى، أدّت “الخديعة الكبرى” إلى قيام شبلي آغا العريان (الجدّ) بمحاصرتها وحرقها وإعمال السيف في رقاب أهلها. ومن المفارقات التي يرويها بعض قدامى البقاعيين أنّ النجدة الوحيدة التي لقيها الزحليون كانت من حرافشة بلاد بعلبك الشيعة بقيادة خنجر بن ملحم الحرفوشي، الذين لولاهم، حسب تلك الروايات، لاجتاحت القوّات الدرزية كل لبنان”.

فماذا عندي أقول بعد مقاربتي النصّ أعلاه؟!

قبل تفنيد النص والقراءة بين سطوره، تجدر الإشارة إلى أنّ النائب الفرزلي هو من طائفة الروم الأرثوذكس الكريمة التي، من المعروف، أنّ موقف أبنائها من الموارنة ينقسم إلى قسمين: الأوّل مناهض للموارنة ويؤيّده المنتمون إلى الحركات اليسارية العلمانيّة والناصريون أمثال؛ نجاح واكيم وجورج حاوي والياس خوري (الصحافي)… والثاني متحالف، لا بل مُزايد على الموارنة، في دفاعه عن لبنان مثل شارل مالك وغسّان تويني وفؤاد بطرس… النائب الفرزلي ينتمي إلى القسم الأوّل الذي ينادي بـ”التركي ولا بكركي”.

بالعودة إلى النصّ، يتضّح – بما لا يقبل الشك – أنّ كاتبه الفرزلي غير متجرّد، ويكره الموارنة. فهو نعت حركة بشير الجميّل بالـ “متمرّدة” لأنّها تصدّت للوجود الفلسطيني المُعتدي على السيادة اللبنانية! وكأنّ الفلسطيني هو صاحبُ البيت والمقاومين المسيحيين اعتدوا عليه!

النصّ مشوِّه للحقائق والتواريخ. فمَن يقرأه يعتقد أنّ “الفتنة الكبرى” هي حربٌ استمرت لعشرين سنة بين العامين 1841 و 1860، بينما الحقيقة هي أنّه، في هذه المدّة، حصلت ثلاث حروب بين الموارنة والدروز: 1841 و1845 و1860. ويقول الفرزلي إنّه “في الحرب الأهلية الأولى أدّت الخديعة الكبرى إلى قيام شبلي العريان بمحاصرتها…”؛ صحيح أن شبلي العريان شارك في الحرب الأهلية الأولى (1841) وكان يقود دروز وادي التيم في الهجوم على زحلة، لكن الدروز انكسروا في هذه المعركة، ما يعني أنّ العريان لم يدخل زحلة ولم يحرقها ولم يعمل سيفه برقاب أبنائها كما يدّعي الفرزلي.

أمّا ما أسماه الفرزلي “الخديعة الكبرى” باعتبار أنها مهّدت لبطش العريان بأهالي زحلة، فقد حصلت في العام 1860، أي في الحرب الثالثة، وعلى يد خطّار بك عماد، كما هو وارد في كتاب “نوادر الزمان…” (ص. 78 – 85) لإسكندر أبكاريوس.

إذًا، النص غير دقيق ويخلط بين أكثر من تاريخ ويجمع أحداث متفرّقة على مدى عشرين سنة، في رواية واحدة.

وما انتهاج الفرزلي هكذا نوع من الخلط والإسقاط للتواريخ الدقيقة، إلا لتسهيل رواج إشاعته المبالِغة في اعتبار أنّ “الشيعة حموا الموارنة”، مع العلم أنّ الشيعة تحالفوا مع أهالي زحلة في العام 1841، وحاربوا ضدّهم ونهبوا مدينتهم في العام 1860.

نصل إلى التزوير الأهم الذي يعنينا ألا وهو ادّعاء الفرزلي بأنّه لولا مناصرة الشيعة لأبناء زحلة “لاجتاح الدروز كل لبنان”.

دحضًا لمحاولات التزوير، سنتناول هذه النقطة من زاويتين:
01- طبيعة تحالف الحرافشة الشيعة مع أهل زحلة.
02- انتفاء نيّة الدروز باجتياح كل لبنان.

لم يكن تحالف الشيعة مع مسيحيي زحلة ضد الدروز، على أساس تحالف طائفة مع طائفة أخرى بوجه طائفة ثالثة، بل كان أكثر منه مبنيًّا على قواعد الجيرة والبيئة الواحدة والعلاقات التاريخية الوثيقة.

ففي العام 1791 مثلًا، ساعد الزحليّون جهجاه الحرفوشي لطرد عسكر والي الشام، أحمد باشا الجزّار، من بعلبك.

ولمّا ارتدّ الأخير بجيش جرّار على الحرافشة لمعاقبتهم، حصلت مواجهته معهم على أرض زحلة، حيث حارب أبناء المدينة ببسالة مع الشيعة وكسروا جيش الوالي، وأنا أستنتج هنا وأقول: “يعلم الله ما كان سيحلّ بالحرافشة الشيعة لو لم يُؤازرهم أبناء زحلة المسيحيين”.

أمّا بالنسبة للزعم بأنّه لولا الحرافشة “لاجتاحت القوّات الدرزية كل لبنان”، فهذا استنتاج غير معلّل ولم يذكره أحد من المؤرّخين الذين عايشوا الحرب حينذاك.

أنطون ضاهر العقيقي الماروني الذي وثّق الحقبة، اكتفى بذكر انكسار الدروز في زحلة صفحة 51 من كتابه “ثورة وفتنة في جبل لبنان”.
حسين أبو شقرا الدرزي، أقرّ في كتابه “الحركات في لبنان إلى المتصرّفية” (ص. 62)، بالهزيمة عام 1841 – كما أشرنا أعلاه – وسخّفها مدّعيًا أنّ المهاجمين أتتهم أوامر من سعيد بك جنبلاط تمنعهم من مهاجمة زحلة نزولًا عند رغبة قنصل انكلترة، ويزعم أبو شقرا أن الدروز انكسروا بسبب البلبلة التي سادت صفوفهم بين مَن أراد متابعة الهجوم ومَن أراد التراجع.

الكولونيل تشارلز تشرشل، في كتابه “الدروز والموارنة…” (ص. 34)، هو الوحيد الذي تكلّم عن شيء من قبيل توسيع رقعة المعارك، إذ قال أنّ بعض الدروز ابتغوا نقل الحرب إلى شمالي نهر الكلب، لكن نعمان بك جنبلاط، الشقيق البكر لسعيد بك، نهاهم حتّى عن التفكير في ذلك، ووصل به الأمر إلى تهديدهم بمهاجمة أيّ جماعة تتخطّى النهر.

في الخلاصة، كيف يكون الشيعة بوقوفهم مع أبناء زحلة قد قطعوا على الدروز اجتياح كل لبنان طالما أنّ الدروز أنفسهم لم تكن لديهم النيّة، لاجتياح كل لبنان؟!

نتأسف أن الإمعان في تزوير تاريخنا للنيل من هويّتنا اللبنانية، لا يزال قائمّا كما كانت الحال عليه في زمن الاحتلال السوري للبنان أرضًا وقرارًا، وأترك للقارئ تصنيف مَن ينتهجونه اليوم ما إذا كانوا: “عملاء” أم “مرتكبي خيانة عُظمى”؟

*مقتطعة من مبحث لي عن مدينة زحلة سوف تنشره المسيرة في عددها المقبل