شارل الياس شرتوني/ملاحظات سريعة حول مسألة” الدين البغيض” (Dette Odieuse) ومصادرة الاموال المنهوبة

82

ملاحظات سريعة حول مسألة “الدين البغيض” (Dette Odieuse) ومصادرة الاموال المنهوبة
شارل الياس شرتوني/29 شباط/2020

استحقاقات الدين الداهمة تطرح أسئلة عديدة ليس فقط حول اداء الحكومة الحاضرة الملتبس والمفتقد الخبرة والقدرة والاستقلال المعنوي، بل حول اداء تراكمي عمره من عمر جمهورية الطائف، ثلاثون سنة من السياسات الفاسدة، وغير المسؤولة، وغير الرشيدة على أي مستوى من مستويات صياغة السياسات العامة وبلورة أهدافها وآلياتها وتقدير نتائجها.

هذا الإفلاس المالي العميم هو نتيجة لتراكمات أدت اليها سياسات الاستدانة العامة المشبوهة والمضللة والمستندة الى فرضيات إرادية كاذبة، تضع اداء المسؤولين عنها موضع المساءلة الجرمية والأخلاقية، في ما يعود لعمليات النهب الطوعية للأموال المستدانة بحجة سياسات اعادة الإعمار، ذات الكلفة المضخمة، والأولويات الخاطئة، والمترتبات المفارقة والكارثية، والمؤديات التمييزية على كل المستويات.

المقلق في الأمر هو اصرار هذه الطبقة السياسية متابعة سياسة الاستدانة لتغطية السياسات العامة الفاشلة والفاسدة والزبانيات، ودون أي تعديل في معاشاتها ومخصصاتها، ومتابعة تحميل المواطنين نتائج سياساتهم الكارثية، بغياب أي خطة لإعادة النظر بمسألة الدين العام على ضوء رؤية اصلاحية شاملة وتوافقية وخارجة عن إملاءاتها.

هذه الملاحظات تؤدي بنا الى ضرورة اعادة النظر بمقاربة الدين العام المعتمدة في النقاشات القائمة، وإعادة توصيفها وتحديد سبل التعاطي مع نتائجها العينية والجزائية. يصنف الدين التراكمي الذي بني على مدى ثلاثة عقود ” بالدين البغيض “حسب مفهوم القانون الدولي الذي يعرفه كدين عقد على أسس مضللة تدعي استعماله من اجل أهداف تخدم الخير العام، في حين ان استعماله الفعلي يرمي خدمة سياسات واداءات نافية لحقوق المواطنين ومصالحهم ومصالح الدولة، لحساب الطبقة السياسية، وبالتواطؤ مع الدائنين الذين نفذوا العقد وهم على علم بالحيثيات المضللة لهذه السياسات. هذا العقد هو باطل بحكم ثغرات قانونية ثلاث:

أ- انتفاء التوافق حول سياسات القروض المعتمدة،
ب- عدم إثبات جدواها من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية … ؛ ج- المعرفة المسبقة بالنوايا غير المستقيمة التي تظلل سياسة الاستدانة. ان مجمل المؤشرات المعتمدة في هذه المقاربة القانونية لمسألة الدين العام تنطبق في أحوالنا، وتصلح ان تكون قاعدة في مجال مقارعة الديون الجارية لجهة استرداد الاموال المستلبة، والتمنع عن عقد ديون جديدة خارجا عن خطة إصلاح مالي واقتصادي واجتماعي وبيئي وتربوي واستشفائي متكامل.

ان سياسات التفرد بالقرار الاقتصادي من قبل الرئيس رفيق الحريري، واقرار سياسة الاستدانة عبر الاكتتابات بسندات الخزينة وفوائدها المبالغة (Vulture Funds)، وعلى قاعدة المشاركة مع الأوليغارشيات المالية المحلية والإقليمية، والتفاهم مع سلطة الاحتلال السورية التي أتت به، وإسقاط كل البدائل لجهة القروض الميسرة وذات الآجال الطويلة والمعدلات الرمزية، والهبات العينية، وتحفيز سياسات الاستثمارات المباشرة من خلال سياسات اعادة الإعمار المتماسكة والخطط الانمائية التداخلية وتثبيت الاستقرار السياسي، أسست لنهج اعتمدته الطبقة السياسية، بمختلف أجنحتها، من بعده.

ان الحركة التصاعدية للديون العامة وما رافقها من هندسات مالية مضللة (Ponzi Scheme)، بنيت على قاعدة ريعية، وليس على أساس اعادة بناء اقتصاد ما بعد الحرب على مرتكزات إنمائية توازن القطاعات، والتحولات التكنولوجية المفصلية وتبدلات تقسيم العمل. الديون الحالية (٩٠ مليار دولار/١٥٠ بالمئة من الناتج المحلي، مقارنة مع ال ٤٠٠ مليون دولار /١-٣ بالمئة من الناتج المحلي في مرحلة ما قبل الحرب، و٤،٢ مليار دولار في ال ١٩٨١ /٤ بالمئة من الناتج العام، ومع معدل زيادة ٣ مليارات دولار سنويا منذ بداية التسعينات) صرفت بمعظمها على تغطية فوائد الاكتتابات بسندات الخزينة، وعلى سياسات إعمار مشبوهة في أولوياتها، وقواعد التعاقد والتلزيم، وصياغة المشاريع وتقويمها، ومن خلال كلفة مضخمة، ومواصفات مهنية غير سوية.

سياسة الاقتراض هذه تمت بالتواطؤ التام بين المصرف المركزي واقطاب الاوليغارشيات السياسية-المالية وشركائهم في الأوساط المالية المحلية والإقليمية، الذين استعادوا سياسة التفرد في القرارين المالي والاقتصادي من رفيق الحريري على قاعدة المحاصصة في اقتسام الريوع الناشئة عن سياسة الدين التفاضلية المعتمدة، والقبض على مفاصل سياسة اعادة الإعمار، الذي تختصره مقولة، السياسيون مقاولون والمقاولون سياسيون، دون اي اكتراث لمبادىء تعارض المصالح، والتلزيمات الشفافة والتدقيق المالي والمهني الملازم للتعاقد والتلزيم والتسليم والتقييم.

ان عناصر تعريف “الدين البغيض” متوافرة كلها في اوضاعنا الحاضرة، وتملي علينا مقاربة مسألة الدين العام من هذه الزاوية لجهة التفاوض بشأنه أو التمنع عن دفعه، والحؤول دون متابعة السياسات التي أدت اليه، ودراسة حيثيات وسبل المقاضاة لاسترداد ومصادرة الاموال العامة على اساسها، محليًا ودوليًا، بالتعاون مع الدول المعنية، والمؤسسات المالية الدولية والمنظمات غير الحكومية.

يتطلب التعاطي مع مسألة الدين العام مقاربة شاملة لآليات القرار السياسي والمالي الذي انتظمت على اساسه السياسات العامة في جمهورية الطائف، التي انعقدت على خطوط تقاطع سياسات النفوذ السنية والشيعية ومحاور انتظاماتها الإقليمية، ودوائر شراكاتها في الأوساط المالية الداخلية والخارجية، وتبعياتها في الأوساط المسيحية.

ان اي مقاربة مواربة او تسطيحية للإشكاليات العائدة لهذا الشأن هي مضيعة لوقت لم نعد نملكه، ولهوامش حراكات ضاق مداها.