نديم قطيش/حسّان دياب: الرجل الذي لا يعرف

122

حسّان دياب: الرجل الذي لا يعرف

نديم قطيش/موقع أساس ميديا/الجمعة 28 شباط 2020

الهيبة يصنعها الصمت. هكذا هندس بعض المقرّبين من رئيس الحكومة اللبنانية حسّان دياب، إستراتيجية الإقلال من الكلام، لبناء هالة للرجل.

اللبنانيون، الذين يميّزون السياسيين من أصواتهم، ونبراتهم، لا يحفظون صوت حسّان دياب. ولا يحفظون له لكنة محدّدة أو “محطّ كلام” ثابت في نصّه الشفهي. ولن يكون في وسع برامج الفكاهة السياسية أن تبتسر صورته إلى صوت محدّد، ينوب عنها، كما هي الحال مع من هم أقدم منه في ذاكرة الناس.

إختار الرجل الصمت سلاحاً. ربما يدافع به عن قلّة الأفكار التي بحوزته، أو يستعين، على ضيق العبارة، برهبة السكون. هذا حقّه.

غير أنّ دياب، وبلا سابق إنذار، قرر أنّ وقت الكلام قد حان، فكان بيانه الشهير، متّهماً مجهولين بمحاولة تعطيله وعرقلته، في الداخل وفي الخارج. إستعار من النصّ العوني “مظلومية” من لا يُراد له الإنجاز. واستعار منه أيضاً أكذوبة “الثلاثين سنة” التي باتت الاسم الحركي للتجربة الحريرية، في معرض إدانة غير مبرّرة.

هو يجلس اليوم في كرسي صاحب “الثلاثين سنة”، الذي لم يحكم في الواقع أكثر من خمس سنوات، بين العامين 1992و1997. ويرأس حكومة ساهم في تشكيلها، وضبطها، من كان، ولا يزال، شريكاً مكتمل النصاب في نصف هذه الولاية الوهمية، منذ العام 2005 وحتّى اليوم.

لا يجدر برئيس حكومة أن يكون جاهلاً بتاريخ تجربة من يجلس في كرسيه. لا يجدر به أن يستسهل الطعن بمن طعن، مستخدماً الخناجر المسمومة نفسها التي طُعن بها الرجل، حيّاً وشهيداً.

لا يجدر به أن يتناسى أن العام 1998 حمل رئيساً جديداً الى لبنان آتياً من مؤسسة الجيش، هو الرئيس الأسبق إميل لحود. أو الأصح رئيساً آتياً من “مؤسسة الجيشين”، اللبناني والسوري، كنتيجة موضوعية لصعود نخبة جديدة إلى دائرة القرار في سوريا، بشخص العقيد بشّار الأسد آنذاك، وتسلّمه الملف اللبناني.

كانت رهانات السلام في المنطقة قد خبت مع اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين عام 1995، وتسلّم اليمين الإسرائيلي الحكم مع بنيامين نتانياهو عام 1996.

إختارت “سوريا الجديدة” إعادة تشكيل المنظومة الحاكمة في لبنان وسوريا. دُفع بقادة الوحدات العسكرية إلى التقاعد في سياق عملية هندسة محكمة لبناء قاعدة ولاء للأسد داخل المؤسسة العسكرية. إختار حكمت الشهابي أن يكون أوّل المغادرين من مجموعة الحرس القديم، وتلاه كثر في السنوات التي تلت.

ما كان كافياً تفكيك “المنظومة السورية” هذه بلا تفكيك ما اعتبره العقيد الأسد يومها ذراعها اللبناني. أُخرج رفيق الحريري من الحكم عام 1998 ولم يعد إلا بعد فوزٍ كاسحٍ في انتخابات نيابية ارتدت كلّ طبائع المواجهة المضمرة مع سوريا، ولو بقانون غازي كنعان، الذي سيطاله التغيير عام 2002 ويحلّ مكانه رستم غزالة.

شهد الاقتصاد اللبناني خلال حكومة الرئيس سليم الحص بين العامين 1998 و2000، انكماشاً هو الأكبر منذ انتهاء الحرب الأهلية، ما أطاح عملياً بالمنجزات الطرية لرفيق الحريري، وأجبره بعدها، في ضوء تضخم المديوينة، على إجراء تعديلات كثيرة على مشروعه الاقتصادي. إنتقل الحريري من نظرية “تكبير الإقتصاد” عبر الاستدانة وتوسعة الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية، إلى سياسة الاستدانة لتعديل الاختلال الكبير في المالية العامة، عبر باريس 1 (شباط 2001) وباريس 2 (تشرين الثاني 2002).

ثم كانت حرب العراق 2003، وتلاها الاغتيال عام 2005.

هذه هي السيرة المختصرة لأكذوبة “السنوات الثلاثين” التي، حين قرّر الرئيس دياب أن يتكلم، لم يجد غيرها في قاموسه السياسي.

ربما لم ينتبه رئيس الحكومة أنّ كلامه جاء بعد 24 ساعة فقط من زيارة سفير نظام الأسد إلى السراي الحكومية، للمرّة الأولى منذ أن بات بين البلدين سفارات عام 2008. ولم يسبق هذا التاريخ أن زار مسؤول سوري رفيع السراي الحكومي بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

زيارة غير مسبوقة يليها بيان غير مسبوق! ونعم “التنسيق”!

كان حرياً بالرئيس دياب، قبل أن تستفزّه الأوهام حول سعي الساعين لتعطيله في الخارج، أن ينتبه أن لا خارج أصلاً يرغب بالوقوف إلى جانب حكومة، أوّل زوّارها هو رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني

لست ممن يتوهّمون كثيراً حول أدوار مستجدة لسوريا في لبنان. فسوريا التي في ذاكرة اللبنانيين خرجت من سوريا نفسها، دعك عن خروجها الأسبق من لبنان. لكنّ سوريا حكمت لبنان بالرموز والأوهام، وكان الأجدى عدم تزويد نظامها بسقط المتاع من الرموز والأوهام على حساب القليل القليل من آمال اللبنانيين بأن تنتج هذه الحكومة شيئاً يصبّ في مصلحتهم ويخفّف من سودواية ما ينتظرهم.

كان حرياً بالرئيس دياب، قبل أن تستفزّه الأوهام حول سعي الساعين لتعطيله في الخارج، أن ينتبه أن لا خارج أصلاً يرغب بالوقوف إلى جانب حكومة، أوّل زوّارها هو رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني. وكان حرياً به، قبل أن تُستثار شهيته للردّ والبيانات، أن تُستثار حميته على صلاحيات منصبه. فهل فاته أنّ وزيرة الإعلام في حكومته قرأت نصّاً مكتوباً يشير إلى “تفويض رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة التفاوض (مع صندوق النقد) استناداً إلى المادة 52 من الدستور”؟ وهل فاته أنّ معاليها وضعت هذا القرار في الإطار “الشكلي”؟

التذكير بصلاحيات المادة 52 من الدستور، يتجاوز الشكل بالتأكيد، وينطوى على تأكيد جديد لشهية رئيس الجمهورية الحارقة لتعديل إتفاق الطائف بالممارسة، حيث لا يتاح تعديل النصّ في الواقع. والتفويض بصدوره، قبل الاجتماع مع وفد صندوق النقد الدولي، لزوم ما لا يلزم. حيث أنّ الاجتماع مخصّص لطلب المشورة وليس للتفارض على توقيع معاهدات دولية، بل هو اجتماع يدخل في صلب العمل التنفيذي لرئيس الحكومة ومحكوم بصلاحياته الدستورية التي لا تنتظر تفويضاً أو إذناً أو “تمريكاً”.

أهون الشرور القول إنّ الرئيس دياب لا يعرف. بعض ما نُقل عن اجتماعه بالصناعيين يفيد أنّ الرجل لم يكن يعرف أن “الجمارك” تتبع، ضمن هيكلية الدولة، لوزارة المالية..

ثاني أهون الشرور أن يقول المرء في سره: “علّه استقبل السفير السوري ليشكو طغيان بعبدا على صلاحية السراي”، ساهياً أن الزمن تغيّر!

لكن مهلاً؟ ماذا يفعل المرء، إذذاك، باعتناق رئيس الحكومة للنصّ الباسيلي، وأسطورة الثلاثين سنة؟