شارل الياس شرتوني/ملاحظات حول إقرار الموازنة العامة والأزمة المالية وأبعادها

53

ملاحظات حول إقرار الموازنة العامة والأزمة المالية وأبعادها
شارل الياس شرتوني/29 كانون الثاني/2020

يحيلنا إقرار الموازنة العامة الى اعتبارات سياسية ومالية واقتصادية تتجاوز الحيثيات الآنية لهذا العمل الدستوري وتردداته على إمكانية استعادة نوع من السياق الطبيعي يخرجنا من حالة انعدام الوزن التي دخلناها بفعل غياب العمل الحكومي المسؤول، وتنازل حكومة سعد الحريري عن مسؤولياتها السيادية في مجال السياسة المالية لحساب جمعية المصارف وقطاع الصيرفة لجهة إدارة أزمة السيولة والملاءة المالية، والتسرب المالي الإرادي الذي يحصى بمليارات الدولارات، وازدواجية سعر صرف الدولار وما نشأ عنه من مبادلات مشبوهة وغير سوية بين القطاعين، وتزخيم التضخم المالي، وتحفيز الجشع والاحتكار والأرباح غير المشروعة، وتنامي الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

ناهيك ان هذا العمل يأتي بعد رصيد استنكافي لمجلس النواب أجاز فيه لنفسه إدارة الأموال العامة خارجًا عن مناقشة واقرار ميزانيات عامة لمدة ١٢ سنة، مما يعني ان الأزمة في أسبابها المنشئة لم تكن تقنية ام مالية عائدة لنقص في الأموال العامة، ام لعدم توافر القدرات العلمية والمهنية اللازمة من اجل معالجة هذه الملفات الأساسية، بقدر ما هي تعبير عن متابعة نهج الاستباحة للأموال العامة، والتسيب السيادي، والإسقاط المتعمد للحقوق المواطنية والمدنية من خلال سياسة الولاءات المسخرة التي عبرت عنها شبكات الزبانيات المستشرية والسياسات التمييزية على تنوع مندرجاتها، والطابع الريعي للسياسات المالية، التي أدت بحكم التراكم الى ديناميكية انهيارات متداخلة والى انسداد الأفق الذي نعيشه. يتطلب الخروج من هذا الواقع الخطير خريطة عمل تتمحور حول الاعتبارات التالية :

أ-: استعادة السيادة في المجال المالي بعد ان تنازلت الدولة عن حقها في الحوكمة والتحكيم في المجال المالي وإدارة سياسة الودائع لحساب جمعية المصارف وقطاع الصرافين، وكأن الشأن المالي خارج عن النطاق السيادي ولا علاقة للمواطنين في إقرار سياساته الا عملًا بمبدأ ” الأرباح خاصة والمخاطر عامة” *،فالمواطنون هم جزء من المعادلة الناظمة للعبة المالية عندما يقتضي توزيع الأخطار والخسائر، ولا شأن لهم عندما تجنى الأرباح أنى كانت مصادرها؛ يبدو ان الشؤون المصرفية تخرج عن دائرة الحقوق المواطنية حسب الرؤية التي تجعلها شأنًا اوليغارشيا خارجًا بالمبدأ عن دائرة الحقوق الأساسية. لا بد من الخروج من احكامات السياسات الاوليغارشية من خلال تأليف سلطة مالية ناظمة، تجمع ممثلين عن الدولة والمجلس النيابي والقطاعات المصرفية والاقتصادية والنقابية والجامعية والمجتمع المدني، لتطبيق ومراقبة إنفاذ المعايير الناظمة للمبادلات المالية وتطويرها على ضوء المستجدات المالية والسياسية العامة والاستثمارية، وتطوير تقسيم العمل المهني من خلال التواصل مع القطاعات الجامعية والبحثية من اجل خلق وتفعيل الحاضنات العلمية-المهنية ( Incubators ، على مثال ما عملته الجامعة اليسوعية من خلال خلق Berytech ). ان بدعة التفرد بوضع السياسات المالية من قبل حاكم المصرف المركزي والدوائر الاوليغارشية هي بأساس الأزمة الحاضرة، ومعلم أساسي من معالم المخارجات التي تحكم صياغة السياسات المالية وعلاقاتها مع الآليات الديموقراطية. ان إقرار سياسات الهندسة المالية خارجًا عن علاقتها العضوية بالسياسات الاقتصادية والاستقرار السياسي والتواصل مع القطاعات الجامعية والبحثية والمهنية وفاعليات المجتمع المدني، هو احد أسباب الأزمة الحاضرة ومؤشر أساسي لأزمة المؤسسات الديموقراطية في لبنان. ان كل الاقتراحات الإصلاحية تبقى في دائرة التمني ان لم ترتبط بخيارات وفاقية على المستويات الميثاقية والسياسية والاستراتيجية .

ب- لا بد من الانصراف الفوري لمعالجة أزمات السيولة والملاءة وضمان الودائع المصرفية وحماية سعر صرف الليرة انطلاقا من سياسات اعادة تعويم المصارف، من خلال إقرار سياسة الاستعادة الارادية والوفاقية للأموال التي هربت حديثًا من قبل الاوليغارشيات المتنوعة، ولأسباب غير موضوعية ظهرت غياب التزاماتهم الوطنية والمدنية، والجشع الذي يحكم اداءاهم، والتخريب الهادف الذي يفسر تصرفات البعض الآخر؛ والتفاهم مع المصارف حول سبل استرداد نسب من الأرباح التي جنوها على غير وجه حق من خلال سياسة الدين التفاضلية التي فرضتها سياسات رفيق الحريري، وما انطوت عليه من مصالح مشتركة انعقدت على خط التواصل بين الاوليغارشيات السياسية-المالية المحدثة والمالية القديمة وشراكاتها الاقليمية والاغترابية (السعودية والخليجية والإيرانية،) على مستوى ملكية المصارف (40 بالمئة من المصارف ممتلكة من الطبقة السياسية)، وشركات التطوير العقاري والاستثمارات التجارية الكبرى؛ اعادة هيكلة الديون العامة ( ٨٦ مليار دولار اميركي، كلفة تسديد الدين للعام ٢٠٢٠، تبلغ ٦،١ مليار دا، أي٣٦ /١٠٠ من مجمل النفقات، و٤٨ /١٠٠ من مجمل الإيرادات …،. ) باتجاهين: اعادة النظر بمعدلات الفوائد وعملة التسديد ومهل الاستحقاقات، واعتماد نظام المقايضات الخلاقة، عبر احالة مشروطة لقطاعات عامة الى القطاع الخاص من اجل ادارتها وتطويرها على قاعدة ال BOT، في مجالات البنيات التحتية، والمسائل البيئية والاستشفائية والتربوية … )، أو اللجوء الى نظام الالغاء التوافقي للدين ( Conciliatory Default )، أو الالغاء الاحادي الكامل لان المصارف قد استردت ديون المراباة والسلب الريعي والتهرب من الضرائب على الدخل ورأس المال على مدى ثلاثة عقود، و اخيرا لا آخرا، دفع الضرائب المتوجبة في السنة الحالية. كما لا بد من أعادة تنظيم القطاع المصرفي على قاعدة تقليصه عبر سياسات الدمج، وربط سياساته بالأولويات الانمائية والاستثمارية في القطاعات التنافسية عالميا وذات القيمة المضافة والاقتصاد الأخضر، والمحفزة لتقسيم العمل الخلاق، وتطوير بنية سوق العمل على أساس التكامل بين السياسات الاستثمارية والتدريب العلمي والمهني، ورفع المعدلات الضريبية لجهة التوظيفات الريعية والتضخمية؛ معالجة مسائل الكهرباء والاتصالات وأزماتها المديدة وكلفتها المرهقة ( ٥٥ /٣٥ مليار دولار ) على الخزينة والدين العام والمواطنين وتأثيراتها المدمرة على مستوى البنيات التحتية وشروط العمل الاقتصادي؛ اعادة الثقة المعدومة بالنظام المصرفي اللبناني من خلال الالتزام بالمعايير الناظمة وانظمة المراقبة الضنينة، من خلال تطبيق قانون النقد والتسليف والحرص على تحديثه، وإشراف وتنزيه عمل هيئة الرقابة على المصارف كشرط مسبق لاستعادة الثقة وعودة الاستثمارات الخارجية من إقليمية ودولية واغترابية، خارجًا عن سياسة المراباة الفاسدة والمضللة التي حفزت الممارسات المنحرفة (Ponzi Scheme)؛ استرداد الأموال المنهوبة من قبل الاوليغارشيات السياسية وشركائها من خلال المقاضاة أمام المحاكم الدولية واللبنانية ( مع التحفظ الشديد تجاه القضاء اللبناني الفاسد واجهزة الملاحقة الجنائية التي تجاريه) ومصادرة الحسابات المصرفية المعلنة والمستترة والمبيضة بعد اتمام عمليات التدقيق المالي بالتعاون مع المؤسسات الدولية العاملة في مجال تقصي الفساد، والدول الديموقراطية…،.

ج-١/ تبني سياسات اصلاحية بنيوية تهدف الى اعادة هيكلة السياسة المالية على المرتكزات التالية : أ- اعتماد سياسات تخفيف العجز العام، واعادة برمجة ومراقبة المصاريف العامة على قاعدة أولويات متحركة، واستئصال سياسات الهدر واستباحة الأموال العامة وشبكات المحسوبيات التي أقامتها سياسات النفوذ السنية والشيعية والدرزية وملحقاتها الذيلية في الأوساط المسيحية على مدى ثلاثين عاما. ٢/ اعادة تصويب المصاريف العامة باتجاه تطوير البنيات التحتية، والسياسات الصحية والتربوية، بعد اعادة تنظيمها على قاعدة السلطات التدبيرية الناظمة ( Regulatory Authorities ) والتصدي لمحاولة استبعادها بداعي سياسات التقشف؛ ٣/ إصلاح الأنظمة الضريبية باتجاه استحداث ضرائب الدخل التصاعدية، والضريبة على رأس المال، وتفعيل الوظائف التحفيزية والرادعة للنظم الضريبية وتوسيع قواعدها التطبيقية ؛٤/ ربط معدلات الفوائد بحركة السوق ؛ ٥/ حماية القدرة التنافسية لتشجيع التصدير وإعادة التوازن الى ميزان المدفوعات والميزان التجاري ؛ ٦/ تحفيز الصادرات ذات القيمة المضافة والعالية عبر الإعفاءات الضريبية، وتحسين وتعزيز أعمال البنية التحتية، والتشريعات الضامنة، والاداء الإداري العام المتماسك والمنزه، وتعزيز اتفاقيات التبادل التجاري ؛ ٧/ تعزيز التعاون مع المؤسسات الدولية والدول المانحة لجهة جلب الرساميل الاستثمارية، ونقل التكنولوجيا وتطوير المهارات المهنية؛ ٨/ وضع آليات لخصخصة القطاعات العامة المتهاوية وغير المنتجة، وتنويع تطبيقاتها بحسب القطاعات الإنتاجية والخدمية المعنية؛ ٩/ تعزيز السياسة التنافسية من اجل تشجيع الاستثمارات والمبادرات الاقتصادية على تنوع قطاعاتها؛ ١٠ / تعزيز الضمانات القانونية التي تشجع الاستثمارات المحلية والدولية؛ ١١/ وضع استراتيجيا عامة ومبرمجة للقضاء على الثقافة والاداءات والأسباب البنيوية المسببة للفساد عبر تركيز ثقافة ومؤسسات دولة القانون، ومبادئ وآليات المحاسبة الديموقراطية، وسياسات الإدانة والتشهير والعقوبات الجزائية؛ ١٢/ أصلاح القضاء والإدارات العامة كمدخل أساس لأي عمل اصلاحي مؤسسي وتراكمي.

كل الاعتبارات التي راجعت تبقى دون أية فعالية ما لم تترافق برؤية سياسية تخرجنا من الأزمات البنيوية المتوالية التي تعبر عنها أزمة الخيارات الوطنية والسياسية التي حولت الدولة اللبنانية الى كيان صوري تستخدمه سياسات النفوذ ببعديها الداخلي والإقليمي، واداة تصريف للمصالح الريعية والحيازية للاوليغارشيات الحاكمة منذ بدايات حكم الطائف .الفساد بنيوي ومرتبط بجمهورية الطائف والديناميكيات السياسية التي أنشأتها، ولا سبيل للخروج منها الا من خلال شرعية ديموقراطية متجددة يعبر عنها عقد اجتماعي ومؤسسات دستورية وثقافة سياسية جديدة، تنهي هذا الإرث النزاعي والفاسد لحساب خيارات اصلاحية تتمحور حول مفاهيم دولة القانون وتطبيقاتها، واستعادة السيادة الدولاتية والعمل الحكومي على أسس فدرالية، والعمل المهني المضاد لسياسات النفوذ بمترتباتها النزاعية والتمييزية والمفسدة.

ان عدم النجاح في ربط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالإصلاح والاستقرار السياسيين ( الداخلي والخارجي )، هو علامة مقلقة تنحو باتجاه استغراقات نزاعية وتحللية تلحقنا بما تبقى من نظام إقليمي متهاو ومنطقة فاقدة لنقاط ارتكاز معنوية وجيوبوليتكية ناظمة، تحكمها إرادات نزاعية وصراعات نهيلية مفتوحة تؤكد مقولة ا. جفمن، ” وسوف يكون الموت إلهكم “.