منى فياض: هل علينا نفي فكرة المؤامرة عما يحصل حولنا؟

143

هل علينا نفي فكرة المؤامرة عما يحصل حولنا؟
منى فياض/النهار/15 أيلول 2016

وجدت في ملفاتي مقالة بتاريخ 13 أيار 2011 عن أحد المواقع الالكترونية بعنوان “بعض تفاصيل المؤامرة على سوريا”. تبدو عند قراءتها كإجابة على القائلين لمروجي المؤامرة، ما دمتم عالمين ببواطنها فلم لا تكشفون عن تفاصيلها، أم عندها لا تعود مؤامرة؟ نشأنا محاطين بمعامل لفبركة “المؤامرات” والتنظير لها، من مؤامرة الصهيونية التي مهدت لمؤامرة “سايكس بيكو” إلى تآمر الغرب الذي لا يتوقف متسبباً لنا بالهزائم والكوارث المستمرة. حتى ما يقوم به الأكراد أو انفصال جنوب السودان أو الثورات العربية التي حركت الملايين، وصولاً الى الثورة السورية التي ظل أبطالها ما يقرب العام يرفعون شعارات سلمية، كلها مؤامرة. والمؤامرة مستمرة مع جميع التحذيرات التي لا تتوقف من أن “العرب يتعرضون لمؤامرة تهدف إلى تفتيتهم”. نظرية المؤامرة لا تزال أداة للتحليل و المقاربة. الأنظمة العربية أكثر من روّج لها، لكن أكثر من برع في استخدامها نظام الأسد الحالي؛ بما يجعلنا نسأل ألا يكون هو عنوان هذه المؤامرة وأداتها.

المدهش أن الأطراف المتقابلة والمتقاتلة تعلن جميعها الزعم بأنها ضحية مؤامرة. الثوار يرون أنها أداة الغرب للسيطرة على المنطقة كونها شكلت غطاء للحكام العرب للبقاء في السلطة. والممانعة، التي صار محورها إيران الشيعية، تجدها مؤامرة من الغرب لحماية أمن اسرائيل حليفة حليفها بوتين. الدول العربية السنية، التي صار محورها السعودية، تجدها مؤامرة لتمكين إيران وتفتيت العالم العربي. بينما تعلن الولايات المتحدة انسحابها وأوروبا عجزها.

سبق لفايز سارة في دفاعه ضد اعتبار للثورة السورية مؤامرة أن اتخذ من الموقف الدولي المتساهل دليلَ بطلان الفكرة. لكن الأحداث جعلتنا نستنتج أن هذين التساهل والتردد المفضيان إلى الخراب العميم وتفريغ مناطق استراتيجية تهيئ لمشروع دويلات مذهبية هو نفسه ما يمكن تسميته “مؤامرة”؛ لأن أفضل وصفة لتفتيت المنطقة حقاً تكمن في عدم اتخاذ أي موقف يمنع تعميق بؤر الصراع وتذكيتها. يجمع عدد من الباحثين والفلاسفة على ضرورة عدم إلغاء فكرة وجود مؤامرات في التاريخ. ففئة المؤامراتيين يمارسون الحق بالشك والنقد بحقيقة ما مفترضة؛ وهم بهذا يمارسون إحدى مميزات المناهج المعرفية. لكن المشكلة تكمن في استخدامهم المفرط لها وتعميمها. كما أنه من العبث استبعاد فرضية المكائد والدسائس لتفسير السياسة.

فما هي نظرية المؤامرة؟

المؤامرة نتيجة فعل مجموعة من الناس الأقوياء ينسقون سراً من أجل تنظيم وتنفيذ فعل غير شرعي مؤذ أو يؤثر على سير الأحداث؛ بوسائل قد تكون مدنية أو جرمية أو سياسية وهدفها الاحتفاظ بشكل من السلطة، السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، المطلقة.

بالمقابل تبرر نظرية المؤامرة دائماً أكثر الايديولوجيات تطرفاً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ من القومية إلى العنصرية إلى فوبيا المهاجرين إلى معاداة الشيوعية، إلى الاستبداد. كما ان الأصوليات، الدينية خصوصاً، ترتكز على فكرة المؤامرة. إنها الذريعة الفضلى لمحاربة الديموقراطية لأن هدفها الاحتفاظ بالسلطة السياسية او الاقتصادية أو الدينية بشكل مطلق. وبينت الدراسات أن عرض الأحداث من زاوية المؤامرة يستتبع تدني نسبة انخراط الجمهور في السياسة. إن افضل وصفة للاستبداد يأس الجماهير وشعورها بالعجز أمام ما ينفذ. والعكس صحيح، فمشاركة المواطن السياسية ومسؤوليته عما يحصل في بلده أحد اهم شروط الديموقراطية. اعتبار الثورات مؤامرة ليس حكراً على عالمنا، فحتى الثورة الفرنسية اعتبرت من البعض كمؤامرة ماسونية ضد المسيحية. لأن الجديد الذي حملته كان تفلت التاريخ من الخضوع لمشيئة الإلهي أو الغيب. وجد المجتمع نفسه متروكاً دون حقيقة عليا متفوقة يلجأ اليها؛ وهي تجربة هَلَعية تعتبر متعارضة مع النظام الطبيعي. من هنا لا يمكن ان تكون سوى ثمرة مؤامرة تامة محكمة مدبرة. أما المتآمرون فشديدو التنوع.

يرى بعض المختصين بالثقافة الشعبية أن اللجوء إلى التفسير المؤامراتي دليل أزمة عند الفرد المحبط العاجز والقلق تجاه تدحرج الأحداث وعنفها وتزامنها وكثرة اللاعبين. وهي علامة على الشعور بالدونية لدى الطرف الذي سحقته عقود الاستبداد والقمع وهربه من تحمل مسؤولية الخراب الحاصل. إنه التسليم لسلطةٍ ما عليا. وهو ما يدفع المتضررين من الثورات الإمعان بالنفخ في البوق المؤامراتي، فهذا من أسلحة الحرب النفسية التقليدية.

وإذا كان هذا ينطبق على العربي، فإنه ينطبق أيضاً على الغربي القلق من أفول المجتمع المدني التقليدي (البنى الوسيطة الكلاسيكية من نقابات وحركات سياسية) والمحبط من السلطة التكنوقراطية المتعاظمة والليبرالية الاقتصادية المتوحشة والإرهاب، فيفسر ما يحصل بالمؤامرة من أحداث ايلول 2001 إلى التفجيرات في فرنسا وغيرها. لكن، ومع أنه لا يمكن تفسير التاريخ إلا بعد حدوثه، هل يجب استبعاد فكرة المؤامرة بالمطلق؟بعض الابحاث الحديثة تلجأ الى التماس مختلف لتعريف المؤامرة، فلا تختصرها بفعل مجموعة تنسق سراً للقيام بأمر مؤذ او مؤثر في أحداث، بل كنوع من فيض (emergence) أو ناتج عن بيئة فوضوية توحي بأن كل ما يحصل وكأنه نتيجة مؤامرة دون وجود من يمسك الخيط بشكل واع.

أليس هذا ما يجري في العالم العربي بهذا المعنى؟

إن تفرج المجتمع الدولي على تدمير سوريا المتمادي دون تدخل بل مع حماية للقتلة مؤامرة بهذا المعنى. لكن إذا قبلنا هذا المعنى للمؤامرة، وإذا كان من مصلحة الخارج ترك تفاعل الصراعات على غاربها، يبقى أنه لا ينجح إلا بمقدار ما يسمح له به الداخل؛ وبهذا المعنى تصبح جميع الأطراف مسؤولة ومساهمة في تنفيذها. التلاعب بالخرائط ينجح كلما أمعنت دول المنطقة بسياساتها القمعية وبإهمال التربية والتنمية وبعدم الاعتراف بالتعدد ورفض الآخر المختلف وممارسة التعصب والإقصاء. تنجح سياسات الخارج التقسيمية بفعل تهيئة الداخل للأرضية القابلة للتنفيذ. أعداء الشعوب المتآمرين هم أعداء من الخارج يجدون أدوات منفذة داخلية. مع ملاحظة أخيرة، للرد على التوجه العنصري الذي يجد أن الثورات سمحت بـ”انكشاف” الصراعات بين السنة والشيعة وبين القوميات، بما يعطيها طابعاً جينياً ثابتاً، أذكر بأن إطالة العنف هو منبع بروز هذه الصراعات وليس العكس. وإلا كيف نفسّر التهديدات المتنوعة التي تطال وحدة الاتحاد الاوروبي وديموقراطيته نفسها جراء أزمة مئات آلاف اللاجئين اليها؟