سام منسى: مسيحيو لبنان ثلاثةُ تياراتٍ وجودية

159

مسيحيو لبنان  ثلاثةُ تياراتٍ وجودية
سام منسى – صحافي/النهار/1 أيلول 2016

العالم والمنطقة يشهدان تطورات تاريخية نادرة على غرار نتائج الاستفتاء في بريطانيا وانسحابها من الاتحاد الأوروبي. وفي المقلب الآخر من الأطلسي يبدو أن هناك إمكانية، ولو لا تزال صعبة، وأمامها عوائق كثيرة، أن يفوز دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون، وما قد يكون لهذه النتيجة من متغيرات في الداخل الأميركي وتداعيات على علاقات أميركا الخارجية. كما تستمر الحروب المشتعلة في الإقليم، ومعها طفرة “داعش” الإرهابية المتنقلة. وعلى ضوء هذا الواقع، هل من مساحة متبقية للكلام أو التعليق، سواء على خطب الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الأخيرة والتي تُشهر طلاق هذا الحزب مع الدولة بخاصة، ومع بقية الاطراف اللبنانية بعامة، وإمعانه في عملية خطف لبنان واللبنانيين. أم على حال التخبط والغموض التي تعيشها القوى والأحزاب التي كانت منضوية تحت مظلة حراك 14 آذار، حيث أقل ما توصف به أنها مشهد سوريالي، “القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل” يتقاتلان على ترشيح الخصوم لتولي رئاسة الجمهورية، والخصوم يعطلون جلسات الانتخاب! نبدأ بهذه السطور بمقاربة الخيارات المتاحة امام المسيحيين. لا بد من طرح مجموعة من الأسئلة: هل نستطيع تصنيف المسيحيين كجماعة على غرار الجماعات الإثنية أو القومية؟ هل بإمكاننا القول إنهم جماعة واحدة تربطها أهداف واحدة وأحاسيس واحدة وتتحرك على موجة واحدة؟ أم أن المسيحية بالحقيقة فعل إيمان يربط الفرد بالله؟ عندما نتحدث عن المسيحيين، هل نقصد المؤمنين منهم فقط أم غير المؤمنين أيضاً؟ هل المسيحية دينٌ وفلسفة حياة أم أنها هوية تضع كل من يحملها في بوتقة واحدة؟

من البديهي أن يتأثر المسيحيون في لبنان بما يحصل للمسيحيين في بقية الدول التي عانت من النزاعات، لا سيما في العراق وسوريا. فالمسيحي يعي أن مستقبله ووجوده ودوره في لبنان وفي المنطقة مرتبط إلى حد كبير بما ستؤول عليه التسوية في سوريا، وطبعاً السؤال الأساس عن أي سوريا نتكلم، سوريا المتعارف عليها بحدودها التي رسمتها اتفاقية سايكس – بيكو منذ مئة عام، أم جزر “سوريات” جديدة. ويبقى الهاجس الرئيس هو ما رست عليه نتائج الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد أكثر من ستة عشر عاماً وضمور الدور السياسي للمسيحيين في لبنان منذ وضعت أوزارها، أي منذ عام 1990.

يعزو البعض ضمور هذا الدور:

أولاً، إلى اتفاق الطائف الذي قضَمَ من صلاحيات رئيس الجمهورية وعدم تطبيق بنود أخرى منه بشكل متلازم.

ثانياً، التأثير السلبي للاحتلال السوري للبنان الذي كرّس غلبة فريق على آخر.

ثالثاً، تنامي سيطرة “حزب الله” كقوة طائفية مسلحة ذات انتماء خارجي تتحكم بزمام السياسة الداخلية والخارجية للبلاد وتسعى بشكل بات جلياً إلى تغيير النظام السياسي الذي قام عليه لبنان منذ استقلاله.

رابعاً، ما رافق الحرب الأهلية من موجات هجرة من كل الطوائف اللبنانية طبعاً، ولكن كان للمسيحيين النصيب الأكبر منها.

إن ضمور الدور السياسي وحتى الاقتصادي – الاجتماعي للمسيحيين في لبنان بات مصدر قلق لهم بالدرجة الأولى، كما يقلق أيضاً المسلمين أو قسماً كبيراً منهم باعتبار أنهم مقتنعون أن لبنان لن يبقى لبنان من دون دور مسيحي أساسي في حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حتى أن بعض الأصوات تعالت مطالبة بضرورة التشبث بالطائفية السياسية عوض المطالبة بإلغائها ضماناً لوجود المسيحيين في لبنان.

إنما هل للمسيحيين كما المسلمين أجوبة على سيناريوات محتملة قد يواجهها لبنان جراء ما يجري من حوله لجهة مصيرهم ودورهم؟ وما هو المطلوب من المسيحيين اليوم؟

المشكلة أن المسيحيين في المنطقة عاشوا تحت ظل السلطنة العثمانية كأهل ذمة، ومنذ أن حصلت دولها على الاستقلال عاشوا في ظل أنظمة سياسية يعتمد أغلبها الشريعة الإسلامية كمصدر للدستور وللتشريعات، واعتُبروا، وإن بشكل غير معلن، مواطنين من الدرجة الثانية. أما الأنظمة التي صنفت نفسها علمانية وتقدمية فكانت استبدادية ضربت حقوق الفرد وحرياته من مسلم ومسيحي بعرض الحائط.

اليوم، وفي ظل انتشار الفكر الديني المتطرف السني والشيعي على حد سواء، بات الفكر الجماعي المسيحي على قناعة أنه مهما فعل المسيحيون سيبقون عاجزين عن تغيير نظرة المتشددين إليهم وتهديدهم لوجودهم. وبمعزل عن صحة خطورة “فزاعة” الدولة الإسلامية في لبنان من عدمه، لا نستطيع إزالة الخوف من نفوس المسيحيين وهم يشهدون ما يشهدون من قتل لأقرانهم في المنطقة. المسيحيون يهاجرون، ويتم ذلك ببطء، كنوع من نزيف داخلي خفيف.

جراء كل ذلك، تتنازع الساحة المسيحية في لبنان ثلاثة تيارات لمواجهة هذه المشكلة الوجودية:

التيار الأول والأكثر شيوعاً هو فكرة تحالف الأقليات أي التحالف مع الشيعة، وبشكل خاص مع القوة الأكبر ضمن هذه الطائفة، أي “حزب الله”. فهم يعتبرون أن الخطر المحدق بهم حقيقي، وهم مجبرون تالياً على العمل بالوسائل كافة حتى لا يتعرضوا للمصير نفسه الذي تعرض له المسيحيون في الجوار. وهذا ما يفسر إلى حد ما حال التسامح غير المفهومة وغير المبررة تجاه نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، على الرغم من الجرائم التي يرتكبها اليوم بحق الشعب السوري والجرائم والممارسات التي سبق ومارسها على اللبنانيين بعامة والمسيحيين بخاصة على مدى أكثر من ثلاثين سنة متواصلة من الاحتلال.

لهذا الخيار مخاطر عدة. فإذا قدر لهذا النظام بما يتلقاه من دعم إيراني وروسي أن يحكم منطقة معينة في سوريا يُصطلح اليوم على تسميتها بسوريا المفيدة تضم علويين ومسيحيين وسُنة متعاطفين معه، وإذا قُدر لأصحاب هذا الخيار الإمساك بزمام السلطة في لبنان، سيتحالف مسيحيو لبنان مع نظام سوريا المفيدة هذه على حساب مجمل القوى السنية في سوريا والمنطقة. وهذا يؤذن على المدى المتوسط والبعيد بحرب المئة عام في الداخل اللبناني مع مجمل السنة والمسيحيين الذين ليسوا على الموجة نفسها، وبين لبنان والمحيط العربي السني. ويؤذن على المدى القصير بأن يصبح لبنان هدفاً مُركزا للإسلام السني المتشدد العنيف. فتصبح نهاية الحرب في سوريا، بداية للحرب في لبنان.

التيار الثاني يقول بالعلمنة ويعتبر أن المواطنة في ظل أنظمة علمانية هي الحل لكل الأقليات في المنطقة. فالمطلوب إذن هو تخلي المسيحيين عن مسيحيتهم كهوية، والدخول في بوتقة المواطَنة الجامعة التي تعطي للجميع الحقوق نفسها وتفرض عليهم الواجبات نفسها.

الرد على هذا التيار يأتي من بعض المشككين بإمكانية أن يتخلى المسلمون بدورهم، المسلمون بعامة وليس المتشددون منهم فقط، عن إسلاميتهم كهوية على غرار المسيحيين ليدخلوا سياسياً واجتماعياً، لا سيما في مجال الأحوال الشخصية، في بوتقة المواطنة. يعتمد هؤلاء في الدفاع عن وجهة نظرهم بفشل محاولة المسيحيين في العالم العربي بعامة ولبنان بخاصة بعد أفول السلطنة العثمانية في العشرينات من القرن الماضي، في حملِ لواء العروبة كانتماء يستند عليه لقيام أنظمة سياسية تساوي بين مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم. يضاف إلى ذلك تنامي الفكر الديني المتطرف والذي ألقى بظلاله على بعض المجتمعات اللبنانية لا سيما المهمشة منها، ما يجعل خيار العلمنة وفكرة المواطنة الشاملة بعيد المنال في الوقت الراهن.

أما التيار الثالث، فتعبر عنه الرؤية المسيحية التي تستلهم وتؤمن بدولة المواطنة، إنما تعتبرها مرحلة متقدمة ينبغي النضال لتحقيقها. وعليه، ينادي هذا التيار بضرورة الإبقاء على الطائفية السياسية في لبنان في ظل الظروف الداخلية والإقليمية ليحافظ المسيحيون على وجودهم فيه وعلى امتيازاتهم. الهاجس الأكبر اليوم هو المحافظة على الوجود أولا بانتظار تغير الظروف مستقبلاً للمشاركة بشكل فعال في طرح قضية المواطنة. والمحافظة على الوجود لا يتم إلا عبر تكتل المسيحيين ضمن جماعة واحدة لها رؤية واحدة. لعل تراجع حماسة “القوات البنانية” لتفعيل قوى حركة “14 آذار” ودورها والتفاهم مع التيار العوني مؤشر ينبغي الالتفات اليه. وأمام هذا الرأي مخاطر وعقبات عدة، أولها الانزلاق مجدداً نحو هاوية الإنعزال المسيحي الذي حصل مراراً بدءاً بأحداث عام 1958 وصولاً إلى الحرب الأهلية.

خلاصة القول، المشهد سوداوي. المنطقة تعرضت لزلزال يفوق كل الزلازل الطبيعية وستبقى تردداته لعقود وعقود. وفي مصارحة ذاتية مع عقلنا الباطني ومع كل مكتسباتنا من قيم إنسانية، نقول ما نفع الوجود المسيحي في المنطقة إذا تحالف مع الاستبداد والقتلة، وما نفع وجود المنطقة برمتها إذا لم يع مسلموها ضرورة المباشرة بإصلاحات جذرية تدخلها إلى المجتمع الإنساني من بابه العريض.