منى فياض: من أجل دحض خرافتين

273

من أجل دحض خرافتين
منى فياض/النهار/31 أيار 2016

سجلت صحيفة “السفير” عن انتخابات بلديات الجنوب أنها “لم تكن عرساً للديموقرطية” بالرغم من انها “عرس للمقاومة”، مع تقديم النصح لـ”الثنائي المقاوم” بضرورة اجراء مراجعة نقدية تساعدهما على “إنضاج تعاملهما مع باقي أطياف المشهد الجنوبي التي لا تشكل خطرا عليهما”، أو ضرورة “كسر المعايير العائلية لإضفاء الطابع السياسي على الانتخابات كما اشار السيد نصرالله”. يعترف محرر الصحيفة ان العلاقة بين الديموقراطية ومن يصرّ على مصادرة المقاومة – رغم تحوله عنها لقتل الاشقاء والدفاع عن المستبد- ليست على ما يرام. وفيها انكار ان ما كان ينقص هذه الانتخابات هو البعد الانمائي تحديداً عبر تحويلها مبايعة للحلف الثنائي ولتغطية حرب الحزب على السوريين. هذا مع ملاحظة ان العكس حصل في بيروت العاصمة، حيث التشديد اقتصر على البعد الانمائي في استبعاد قسري للسياسي. السؤال هنا كيف يمكن فصل الانمائي عن السياسي؟ لقد انزلت الانتخابات البلدية السياسيين الى الارض وحملتهم على بذل اقصى ما في استطاعتهم لتعبئة الجمهور وحشده؛ كما تحالفت الاضداد واجتمعت القوى السياسية المتنافرة بشكل غير مسبوق بحيث لم يعد المواطن يعرف من مع من؟ ومن ضد من؟ هذا دون ان نغفل التحالفات المتبدلة (كما جلد الحرباء) من منطقة الى اخرى وبحسب المصلحة.

هل يجب ان نذكّر أن التنموي هو شأن سياسي؟ أليست السياسة تعريفاً هي فن إدارة المدينة؟ أي ادارة الشأن العام وتأمين حاجات الناس؟ وهؤلاء أليسوا أفرادا ومنتمين الى عائلات أو عشائر ومناطق وأحياء؟ الا تتسابق الاحزاب على كسب ود هذه العائلات وهذه العشائر؟ ثم ألم يكن فشل حكومات المنطقة ودولها، تحديداً في تحقيق الكرامة والرفاه والحقوق العادلة لمواطنيها ومنحهم ثقة بالمستقبل هو محرك الثورات العربية؟ وهذا يعني بتعبير آخر فشلها أولاً في سياستها التنموية؟

اما القاعدة التي تغفلها الصحافة المتسرعة عندما تجد “ان القديم ظل على قدمه”، فهي أن قراءة أي ظاهرة لا تستقيم الا عند مقارنتها بما سبقها وما سيليها بالتفاصيل الدقيقة للوصول الى استنتاجات معقولة. ومن هذا المنظار نورد الاستنتاجات السريعة التالية:

اثبتت هذه الانتخابات فشلا نسبيا لبروباغندا احتكار المقاومة من “حزب الله” ولفكرة التخوين لكل من لا ينتخب ممثليها. كما سقوط الاحتكار عبر التزكية (طاولت فقط 43 بلدة وقرية من اصل 178)، وايضاً النجاح بخلخلة فكرة الزعامة المطلقة لجهة معينة عبر المنافسة ورفض الاستئثار وإسقاط الاوامر الحزبية او التكليف الشرعي في بعض الاحيان. وهذا علامة رفض سياسي ربما خجول الآن لكنه يدل على بدايات بروز لاعب جدي على مستوى لبنان بما فيه الجنوب. هذا اللاعب هو المواطن الفرد الذي ينتمي الى المجتمع المدني في بيروت كما في كل مكان.

حصل هذا في الجنوب بالرغم من سطوة الحزب والانتهاكات المتعددة التي سجلتها الجمعية اللبنانية لديموقراطية الانتخابات قبل الانتخابات وشملت “الدعاية الانتخابية المبنية على شعارات تخوينية، استخدام دور العبادة لإطلاق اللوائح أو إعلانها، ممارسة ضغوط على المرشحين للانسحاب حتى بعد انقضاء مهلة سحب الترشيح لتشجيع التزكية، خرق الصمت الانتخابي من جانب وسائل الإعلام المرئي والمسموع التي تبث الدعاية الانتخابية للعديد من اللوائح والمرشحين”. وتحدثت عن “تراخ متماد للقوى الأمنية “. كما سمت حالات ضغط شديد على الناخبين، منها حجز بطاقات الهوية، وتركيب كاميرات مراقبة في مركز اقتراع وضغوط على المرشحين. واوردت “النهار”، وغيرها، شكاوى من الغش والتهديدات بعد الانتخابات ومن اطلاق رصاص في المراكز التي لم تنصع للأوامر الحزبية الى ما هنالك من انتهاكات موثقة في الاعلام. هذا ناهيك عن طرق الفرز البدائية والصناديق المتحركة المساعدة على الغش واستبدال الصناديق، بالرغم من المال الممنوح للسلطات لتجديد هذه الادوات. هذا ناهيك عن عدم امتلاك معظم المرشحين الجدد لما يسمى ماكينة انتخابية والجميع يعرف أهميتها على نتائج عملية الاقتراع، وقد ظهرت فاعليتها في دير انطار حيث ساعد متمول محلي على مواجهة ماكنة الثنائية.

وإذا كانت الطبقة السياسية جادة في تغليب مصلحة الدولة اللبنانية وسيادتها، على حساب مصالحها، في عدم التسليم لـ”حزب الله” وسياساته الانتحارية، فذلك يتطلب تظهير المكون الشيعي المستقل الذي أطل برأسه بقوة في هذه المناسبة، وغيرها، والاعتراف به جدياً من أجل حل مشكلة “الاستعصاء أو المسألة الشيعية” المشكو منهما إثر مساعدتهم لـ”حزب الله” على مصادرته الطائفة بقضها وقضيضها، وذلك بالخروج على الاشكالية المطروحة منذ 2005 والتي تمثلت بالتحالف الرباعي الشهير وبتأييد رئاسة المجلس.

آن أوان الكف عن تقديم التغطيات القانونية من ناحية الحكومة والقشرة المواطنية من ناحية الجمهور لـ”حزب الله”. لقد شكلت تجربة “بيروت مدينتي” انطلاق الباراديغم الجديد او النموذج الارشادي في تحرك المجتمع المدني لاسترجاع الوطن من أيدي الاحتكارات السياسية الكبرى للطبقة الحاكمة المتحالفة في السراء والضراء. ازعم منذ اعوام عدة ، من خلال اطلاعي على انواع من الاستقصاءات الاحصائية، وجود كتلة وازنة من المواطنين غير الملتحقين بالتيارات الطائفية بجميع مسمياتها تتعدى الثلاثين في المئة. ظهّرت الانتخابات ذلك مبرهنة على أنها اكبر الكتل الانتخابية فلقد نجحت في مواجهة مجموع التحالفات العشوائية التي تصدت لها. لا بد هنا من استذكار مقولة لوغوف:”إن تاريخ الذهنيات هو تاريخ البطء في التاريخ”. التغيير آت ولو على مهل. يمر العالم في مرحلة جديدة تكون فيها المنظمات اقوى من الدول وعابرة للحدود. في مثل هذا العالم علينا التفكير في طرق جديدة.

ما يجري في العالم العربي وفي لبنان يعبر عن تحول ذهني عميق. وعي وتحول ثقافي يساهم في ميلاد زمن جديد لا يزال يتفاعل ولم تظهر نتائجه بعد. نحن ننتقل من طور الى طور. تغيرت العلاقات بين الناس فهي لم تعد عمودية بل افقية وتبادلية. وبفضل العصر الرقمي الذي نعيشه لم تعد الطبقات هي المتحكمة بل الثقافة والتواصل والتشابك. تعقدت الهويات واصبحت عابرة للقارات. فيا مواطني لبنان اتحدوا. الهدف التالي هو النضال لإلزامهم باعتماد قانون انتخاب نسبي وكوتا نسائية.