أحمد عدنان/اتفاقية 17 أيار “بين لبنان وإسرائيل” المظلومة

318

اتفاقية أيار المظلومة
أحمد عدنان/العرب/22 أيار/16

مرّت قبل أيام ذكرى هامة من التاريخ اللبناني الحديث، مثلت نموذجا للفرص التي أضاعها لبنان وأضاعها العرب، إنها ذكرى اتفاقية 17 أيار التي حرّرها لبنان مع إسرائيل.

عقدت الاتفاقية في لحظة متلاطمة لبنانيا وإقليميا، انسحب الفلسطينيون من لبنان في ظلّ تواجد عسكري إسرائيلي وسوري، تم انتخاب الشيخ أمين الجميّل رئيسا للجمهورية بعد اغتيال شقيقه الرئيس بشير الجميّل، وقابل العرب توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل بمقاطعة عربية شاملة.

وفي ظل هذه الأجواء الملتهبة، اتخذ الرئيس أمين الجميل قرارا تاريخيا بالتفاوض مع إسرائيل فكانت اتفاقية 17 أيار 1983. هذه الاتفاقية هي أهم وأروع انتصارات الجميّل الدبلوماسية والسياسية. أعلن الجميّل أن تفاوضه مع إسرائيل محض ضرورة بحكم حضور جيشها في لبنان، وأن الاتفاقية “ليست معاهدة سلام وليست اتفاقا سياسيا، إنما هي اتفاقية تقنية”. نسّق الجميّل مفاوضاته مع الدول العربية المحافظة مؤمّنا بذلك غطاء سنيا وعربيا لمشروعه، وبعد إعلان الاتفاقية أعلنت دول مجلس التعاون “أنها تقف مع لبنان وتتفهمه”.

نال الجميّل بعد ذلك موافقة الزعماء التقليديين سنة وشيعة على الاتفاقية لتنال شبه إجماع داخل الحكومة والبرلمان، وفي ذروة انتصاره لم يصادق عليها، وتفسير ذلك مرده إلى عاملين، الأول هو التفاعل العنيف من بعض الميليشيات “الإسلامية” على الاتفاقية بإيعاز من حافظ الأسد، وتحديدا الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط وحركة أمل الشيعية بزعامة نبيه بري، وكان معهما الرئيس سليمان فرنجية وقوى يسارية، أما العامل الثاني هو ما بينته الأحداث لاحقا، إذ بدا أن الجميّل سار في خيار التفاوض في إطار مناورة معقدة تستهدف التحالف مع الأسد، فاعتبرت الاتفاقية جزءا من الماضي يوم صرح الرئيس اللبناني “لن يكتب التاريخ أن شخصا من آل الجميّل قد وقّع اتفاقية سلام مع إسرائيل”. وإذ ننظر إلى بنود الاتفاقية اليوم، نجدها قد حوت نصوصا متقدمة قياسا بتجارب السلام بين إسرائيل وبين مصر والأردن وحتى مع السلطة الفلسطينية، فلا يمكن لأيّ منصف اتهام الاتفاقية بخدش السيادة اللبنانية بما في ذلك التفاصيل العسكرية والأمنية، وهنا لا بد من الإشادة بجهد المفاوض اللبناني المحنك (الدبلوماسي أنطوان فتال) وقدراته الفذة، ومن يطالع شهادات الإسرائيليين ووثائقهم عن تلك المرحلة يلمس مشاعر الإعجاب والتذمر من فتال “هذا الرجل جدار ثلجي أصمّ لا يمكن النفاذ إليه أو التأثير عليه”.

إسقاط اتفاقية أيار، من الجانب السوري وحلفائه تحديدا، حلقة من سلسلة طويلة، أولى تجلّياتها تجسّدت في اتفاقية القاهرة سنة 1969، التي شرعت الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان على حساب السيادة اللبنانية عموما وعلى حساب الوجود اللبناني من أساسه خصوصا، وقد قام حافظ الأسد بكل مجهود لتمرير الاتفاق بصيغته التي خرج بها لغير سبب، إذ كان المهم والأهم عنده تحويل لبنان من دولة مساندة إلى دولة مواجهة.

منذ وقّع لبنان اتفاق القاهرة تحوّل رسميا إلى ساحة عسكرية لحروب الآخرين، ووصلت التناقضات الداخلية إلى أوجها وانفجرت حربا أهلية، والمستفيد الأول من هذين النتيجتين هو نظام البعث في دمشق، تمكن الأسد من التسلل عسكريا وسياسيا إلى لبنان، واستطاع أن ينقل بعض حروبه المحلية والإقليمية إليه، وليس هناك خاسر أكبر إلا اللبنانيون، وما زالت الدولة اللبنانية تدفع ثمن توقيعها لاتفاق القاهرة رغم إلغائه عام 1987، وما زالت تدفع ثمن إلغاء اتفاقية أيار رغم أنها “ولدت ميتة” على حد وصف الرئيس نبيه بري. ورثت إيران خامنئي الوصاية السورية، بفضل سلاح الميليشيا المسماة “حزب الله”، وقدر اللبنانيين أن يواجهوا الاحتلال الإيراني كما جابهوا الاحتلالين السوري والإسرائيلي، ومنعهم الأسد، بسبب مصالحه الخاصة، من تحقيق انسحاب إسرائيلي 17 سنة، وليس غريبا أن تأتي وفاة الأسد الأب بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000 بأسابيع.

لماذا تريد بعض القوى الإقليمية أن يدفع لبنان منفردا ضريبة الصراع العربي-الإسرائيلي؟ لقد وقّعت مصر والأردن اتفاقية سلام ناجحة مع إسرائيل، وسوريا في حال سلام فعلي معها منذ احتلال هضبة الجولان عام 1967، باستثناء مناوشات كارثية خلال حرب أكتوبر سنة 1973، حيث ساهمت سوريا الأسد في إضعاف الموقف المصري، وضحّت بخيرة الجنود السوريين من دون إنجاز لائق، والوثائق التي تغطي مشاركة سوريا في حرب أكتوبر محزنة جدا، وهذا أقل كلام عن رداءة القيادة العسكرية والسياسية سوريّا.

والأدهى أن الجيش السوري منذ اندلاع الثورة السورية المجيدة فضّل قتل السوريين وتهجيرهم على مقاتلة المحتل وتحرير الأرض، ولم أتعجب من ذلك من خلال متابعة المفاوضات السورية-الإسرائيلية في عهد الأسد أبا وابنا رغم الرعاية الأميركية ثم التركية، وكأن هضبة الجولان وأهلها لا تعني لحكم البعث شيئا، وهذا هو الواقع الذي شجّع إسرائيل على اعتبار الجولان أرضا إسرائيلية إلى الأبد وكلنا تابع تصريح نتنياهو الأخير منها وفيها على رأس اجتماع حكومته، وهنا يجدر التذكير بأن سقوط الجولان تم وحافظ الأسد على رأس وزارة الدفاع من دون صعوبات تذكر في وجه إسرائيل.

وكان المؤسف لبنانيا، أن قوى 14 آذار، حين تفاوض بشار الأسد مع إسرائيل في تركيا، أصدرت بيانا ضد المفاوضات ذكرنا ببيانات جبهة الصمود والتصدي، مع أن تلك المفاوضات كانت فرصة لبنانية لاستكمال السيادة لو شارك فيها اللبنانيون.

الإيرانيون اليوم يكملون مشوار حافظ الأسد، قضم السيادة اللبنانية لتدمير الهوية العربية ولتوسيع نفوذ إيران ولاعتماد لبنان ساحة لحروبها المحلية والإقليمية، وبعض اللبنانيين من خصومها، بسوء التدبير، ومن حلفائها، بالعمالة، يدعم غاياتها.

يطرح حزب الكتائب، حزب آل الجميّل، مشروع حياد لبنان، وهذا المشروع يصعب تحقيقه في المدى المنظور بحكم استعار الصراع العربي-الإيراني وخفوت خيار السلام بين العرب وإسرائيل، لكن عاجلا أم آجلا لن يستريح لبنان من دون نزع السلاح غير الشرعي ووأد الميليشيات، وستجد الدولة اللبنانية في اتفاقية أيار حلا وضرورة، وربما لا نجدها كذلك بعد زوال الميليشيا، وهذا هو السيناريو الأفضل الذي نتمناه جميعا. على حزب الكتائب وعلى اللبنانيين أن يفخروا بتلك التجربة، فاتفاقيات السلام لا تعني توقف الدعم الاقتصادي والسياسي للقضية الفلسطينية، بل ربما أتاحت دعما أنجع للقضية كما شاهدنا في تجارب مصر والأردن، ومن المهم أن نتساءل هنا: كم وفّر لبنان من الدماء ومن الفوضى لو مضى قدما في اتفاقية أيار؟

ملاحظة/الصورة المرفقة هي للرئيس أمين الجميل والرئيس شفيق الوزان والرئيس كامل الأسعد عام 1983