حسان حيدر: يد النحس الإيرانيّة/زهير قصيباتي: أميركا والاندفاعة السعودية

169

 «يد النحس» الإيرانيّة
حسان حيدر/الحياة/14 نيسان/15

في كل مرة تمتد يد إيران الى دولة عربية، تقع تلك الدولة في الفوضى والحرب والتقاتل، ويتدهور اقتصادها، ويتهدّد التفتّت مكوناتها السياسية والاجتماعية، وتصاب مؤسساتها بالعجز، ونظامها بالشلل، ويهجّر سكانها ويجبرون على النزوح، كأنما اليد الإيرانية تجلب سوء الطالع وتُحِلّ «النحس» بكل ما تلمس أو تداني، أو كأنها «لعنة» سُلطت على كل من وما تقترب منه. وإذ نشاهد ما يحصل في العراق اليوم من تخبّط سياسي وأمني واجتماعي، ومن صراعات دينية وطائفية وعرقية، ومن حملات إقصاء وانتقام، واستشراء للفساد والمحسوبية، ونهب للمال العام، فضلاً عن التزلف للحامي الإيراني واستدرار تأييده لهذه الكتلة أو الوزير أو النائب أو حتى الموظف، ندرك الى أي مستوى انحدر وضع هذا البلد في ظل هيمنة إيران وتسلّطها على قراره. حتى صارت بلاد الرافدين الغنية بشعبها وحضارتها وثقافتها ونفطها، أقرب الى الدول الفاشلة، وسط انقسام حاد يعبّر عن نفسه بالإبعاد السياسي والطائفي، والتهجير وفقدان الأمن، وإذلال الأقليات، وتضييع الثروات، وحصار المدن وتجويعها، وتكاثر المرجعيات وتفريخها، والارتجال في القرارات.
كأن إيران تنتقم لتاريخها من العراق، فتختار الأسوأ لقيادته، وتدعم الأكثر فساداً وإفساداً، وتزرع الفتنة بين أبنائه، وتتفرج على اقتتالهم متلذِّذة بسقوط جدار طالما وقف في وجه أطماعها وتمدّدها.
والأمر نفسه ينطبق على سورية ولبنان منذ مدّت طهران جسور الإغراءات المادية والطائفية الى نظام حافظ الأسد، وابتكرت بمشاركته جهازاً عسكرياً – أمنياً في لبنان أسمته «حزب الله»، هدفه إيصال هذا البلد الى حال من التسيّب والانهيار يسهل معها ضمّه عملياً إذا تعذر ذلك قانونياً ودستورياً، وهي مهمة نجح فيها الحزب الذي يتفرغ الآن لرعاية «إنجازه» وتكريسه. وأدى تسليم الوريث بشار الأسد قراره بالكامل لطهران و «حرسها»، الى اندلاع ثورة تغيير سلمية لم يلبث أن قمعها بعنف شديد أدى الى عسكرتها دفاعاً عن النفس، ليباشر بعد ذلك بدعم من إيران وميليشياتها المتعددة أكبر سلسلة من الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ، بحيث قارب عدد ضحاياه نصف مليون قتيل وأربعة ملايين جريح وعشرة ملايين نازح ومهجر، إضافة الى مئات آلاف المعتقلين.
وبالطبع، لم يعد في سورية اقتصاد ولا استقرار ولا أمل بسلام قريب أو استعادة لوحدة جغرافية، بل نهب وفساد وانهيار وحروب متعددة وتقسيم عملي، بعدما اشتغل النظام الطائفي على إيقاظ العداوات بين مكونات شعبها الى حدودها القصوى، وبات يعتمد على جيوش وميليشيات أجنبية، يدافعون عنه وفق شروطهم وارتباطاتهم الإقليمية والدولية.
وكان اليمن آخر ما طاولته اليد الإيرانية. فبعدما صرفت طهران سنوات في تسليح إحدى طوائفه وتمويلها وأدلجتها، ثم أقحمتها في سلسلة حروب على الدولة وباقي اليمنيين، عادت فحرّضتها على نقض اتفاق سلام أبرم بالإجماع، والانقضاض عليه، وحاولت إعادة رسم خريطة البلاد السياسية والاجتماعية، فأنتجت حرباً أهلية جديدة، وعمّمت الخراب في سائر أنحائه، وألحقت به أضراراً على كل صعيد لن يسهل تعويضها.
وعلى رغم أن إيران تفرّق تماماً بين السياسة المعتمدة للخارج الذي لا يهمها سوى إخضاعه كيفما كان، وتلك التي تمارسها في الداخل، إلا أنها ليست في منأى عما تحدثه في الجوار الإقليمي. فتقسيم الولاءات والإمعان في تفتيت مراكز القرار وقمع المعارضين، سجناً وإعدامات، واللعب على التناقضات بين «متطرف» و «معتدل»، جزء من الأيديولوجية العامة التي يطبقها المرشد في الداخل الإيراني لإبقاء الخيوط كلها في يده، حائلاً دون أي تغيير. وهو استقرار هشّ لن يدوم، فطابخ السم آكله.

أميركا والاندفاعة السعودية
زهير قصيباتي/الحياة/14 نيسان/15

تعيد الاندفاعة الديبلوماسية السعودية في المنطقة رسم ملامح نظام إقليمي جديد، على قاعدة استعادة التوازن الذي فقده العالم العربي، منذ انهارت مناعته، خصوصاً نتيجة تداعيات الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وانقضاض إيران للهيمنة على عواصم كانت دائماً نقاط ارتكاز لتعزيز تلك المناعة.
والمفارقة قياساً إلى الأميركي الذي كان شريكاً في أمن المنطقة، أنه يعاني في عهد الرئيس باراك أوباما نحولاً في الذاكرة، وفيما يترك العرب «ليقلعوا أشواكهم بأيديهم»، قبل الاتفاق النووي مع إيران وبعده، لا يتوانى عن إعطاء «النصائح»، ولا يتردد في البحث عن تمويل خليجي للعجز المالي العراقي!
هوة ضخمة بين الواقعية السعودية التي تجسّدها خصوصاً زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز مصر وتركيا، والتي تنقل التعاون العربي الإسلامي إلى مرحلة التعاضد بدل التطاحن، والفعل بدل الشعارات، وبين محاولة إدارة أوباما استدراك أخطائها، في نهاية عهده.
حين ودّع أوباما قادة دول الخليج بعد قمة كامب ديفيد (14-5- 2015)، كانت نصيحته «حاوروا إيران وافتحوا صفحة جديدة معها». كرر بالطبع التزام واشنطن أمن الخليج، وما حصل منذ نحو سنة، لا يشير إلى أي رغبة لدى طهران في وقف سياسة استعداء دول الجوار والاستعلاء عليها، وترك مصير سورية للسوريين والعراق للعراقيين، واليمن لليمنيين. وكل ذلك بالطبع يترافق مع «ديبلوماسية» التطاول والتهجُّم التي لم تعد حكراً على «الحرس الثوري» أو المتشدّدين ممن يظنون أن مصير المنطقة بيد إيران وحدها، ولسان الولي الفقيه… أو أنه في جيب الذين يشتمون أميركا ليلاً ونهاراً، لكنهم يزرعون خلايا التجسس والتخريب والتفجير في دول عربية إسلامية.
وإذا كان إرسال طهران وحدات «كوماندوس» إلى سورية لدعم نظامها، وللإمعان في تحريضه على مزيد من القتال والقتل، يكفي للدلالة على أن إيران ليست في وارد تبديل موقفها من جهود الأمم المتحدة، ومسار جنيف ومرحلة الحكم الانتقالي، فالمفاوضات اليمنية المرتقبة في الكويت ستكون اختباراً آخر لقدرة الحوثيين على النأي بأنفسهم عن التحريض الإيراني.
الوجه الآخر للمأزق مع «الشراكة» الأميركية الذي كرّسه «حذر» أوباما وقوته «الناعمة»، أنه لم يتفهم المخاوف الأمنية والعسكرية الخليجية من النهج الإيراني الذي يراه أهل المنطقة مدمِّراً، ولا يقل خطورة عن كل ما ارتكبه «داعش». المأزق أبعد بكثير من وعود التسليح الأميركية وفواتير التسلُّح في عصر هبوط عائدات النفط. المعضلة أن سنوات طويلة من العقوبات الدولية على إيران، لم تبدّل نزوعها إلى الضغط على الجيران وترهيبهم، بذريعة حرصها على أمن الخليج وإبعاد القوى الأجنبية عنه.
وحين يفكر الأميركي في مطالبة الخليجي بتقديم مساعدات للعراق، لكي يتخطى أزمته المالية، يتناسى كم أهدر ساسة بغداد، حلفاء طهران ورعاة «الحشد الشعبي» المتهم بالتنكيل بعراقيين من السنّة. بصرف النظر عن الهوية المذهبية لهؤلاء وللمحاصرين في الفلوجة، يطلب الأميركي عملياً دعماً مالياً خليجياً لتعويم المحاصصة بين المتهمين بتكريس الهيمنة الإيرانية على قرار بغداد!
إنه وجه واحد للتهويم الأميركي والانفصال عن الواقع الذي تكرّس منذ حرص أوباما على إعلان انسحاب الولايات المتحدة من أزمات المنطقة، محرّضاً إيران على ملء الفراغ. والأكيد أن الارتباك الأميركي- الإيراني بدأ بالتدخُّل الخليجي لحماية استقرار البحرين، وتكرَّس مع قيادة السعودية التحالف العربي لمنع سقوط اليمن في الفلك الإيراني.
أما ذروة الاندفاعة السياسية السعودية التي وضعت خلال زيارة الملك سلمان مصر وتركيا، آليات جديدة للشراكة مع البلدين الكبيرين، فتفتح صفحة لنظام إقليمي شعاره الواقعية، واحتواء الأخطار الهائلة للإرهاب… التكامل في السلم والحرب، وسد نوافذ التخريب بتحصين اقتصادات دول كبرى، وخلق فرص عمل تقي الشباب من رياح التطرُّف.
وإلى حماية أمن اجتماعي لدول لا يمكن أن ينفعه أي دعم من الخارج، واضح أن أبرز مقتضيات تلك الواقعية، هو جهوزية عسكرية وطنية، تكون بمثابة ردع لأطماع الخارج.
منذ العام 2011، سقطت المنطقة رهينة، بين شلالات دم وحدود تتأرجح على حرائق الخرائط، وحملات تهويل إيرانية، وغزل أميركي لطهران يكاد أن يعتبرها ضحية لـ «عداء» خليجي. لم يتعلّم أوباما بعد، أن كل عاصمة عربية توهّمت إيران دخولها دخول الفاتحين، ضيّعت استقرارها إن لم يكن هويتها.
الاندفاعة السعودية حرب ديبلوماسية واقعية لاستعادة التوازن الباهظ وتنقية القرار العربي من شوائب الاختراقات، وكوارث سياسة الابتزاز بالتهويل بالفتن.