د. ماجد السامرائ: روسيا وإيران حصانان خاسران في العراق والمنطقة/جورج سمعان: أسلحة أوروبا لمواجهة ذئاب داعش/غسان شربل: لقد فشلنا

232

«أسلحة» أوروبا لمواجهة «ذئاب داعش»
جورج سمعان/الحياة/29 آذار/16

«اليوم الأسود» في بروكسيل لن يكون الأخير في أوروبا. هذا ما تشي به حملات المطاردة لخلايا نائمة ومشبوهين في عواصم القارة ومدنها. وهذا ما حذرت منه أجهزة الأمن الغربية. بل إن رفع وتيرة الحرب على «دولة الخلافة» في العراق وسورية ستدفع الحركات الإرهابية كلها إلى توسيع دائرة عملياتها الخارجية في قلب الاتحاد وخارجه. ولا يحتاج «داعش» إلى إرسال مقاتلين من الخارج. في القارة العجوز ما يكفي ويفيض. أكثر من خمسة آلاف خرجوا من مدنها إلى سورية والعراق، إلى جانب آخرين من كل أنحاء العالم. وقد عاد منهم المئات، فيما يعيش مئات في ضواحي هذه المدن وشوارعها. أن يضرب الإرهاب قلب أوروبا أمر يختلف عن عملياته التي وزعها في كثير من الدول والقارات، من إندونسيا وباكستان إلى تركيا ومصر ودول أفريقية أخرى وحتى الولايات المتحدة. بعض تلك العمليات اتخذ طابع المنافسة مع «القاعدة». وبعضها الآخر ثأراً وانتقاماً من حكومات بعينها، أو تعزيزاً لبروباغندا تستهدف الترويج لأفكار التنظيم وتجنيد مزيد من العناصر «الجهادية». جاءت الضربات الإرهابية في بروكسيل فيما كانت أوروبا تحاول معالجة تداعيات الجرائم التي ارتكبت في باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. كانت تجهد للحفاظ على حدودها المفتوحة، وللحد من تدفق اللاجئين. وهذان الهدفان هما اليوم أسهل الضحايا. ستزداد الضغوط على هذه الحدود. وسيدفع اقتصاد القارة والاقتصاد الدولي ثمناً باهظاً، إذا غلبت أجواء الرعب والخوف من الخلايا النائمة و «الذئاب المنفردة». وقد تتبدد آمال المجلس الأوروبي الذي أقر أخيراً خطة طارئة للحفاظ على «فضاء شنغن» وإزالة كل القيود بين الدول الـ 26 مع نهاية السنة الحالية، وإذا اكتفت حكومات الاتحاد بسياسة ترف البحث عن حلول آنية. أو إذا رضخت واستسلمت أمام قيام جدران وإقفال معابر في إطار جبهة رفض بعض دولها التزام سياسة واحدة حيال توزيع أو استقبال اللاجئين ودمجهم في مجتمعاتها. ففي مثل هذا الرضوخ شيء من التخلي عن مفهوم الوحدة، ما يهدد الاتحاد ومستقبله. أو إذا صمّت آذانها عن نفخ قوى وأحزاب في المشاعر القومية، وتعزيز الكراهية للجاليات العربية والإسلامية، على حساب الانفتاح والتعددية والحرية وقبول الآخر وإن كان من خارج القارة. فليس أسهل من مسايرة النخب الحاكمة لهذه القوى ومغازلة جمهورها ذي النزعة الانعزالية لئلا نقول العنصرية الفجة.
أوروبا أمام خيارين: إما العودة إلى الوراء، إلى الدولة القومية. وإما إعلاء شأن الاتحاد ومؤسساته، السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية، تمهيداً لاعتماد استراتيجية تواجه التحديات الداخلية والخارجية. وهذه كثيرة وعلى رأسها هذا الوحش الإرهابي الذي يزرع الرعب والفوضى في كل مكان. بالطبع ثمة مبالغة في الحديث عن «حرب أهلية» قد تنجرف إليها القارة. مثلما ثمة مبالغة في إلقاء النخب والأحزاب الحاكمة اللوم على الخارج، للحفاظ على قواعدها من هجمة اليمين القومي المتطرف الذي بدأ يستغل هذه الأحداث، من دول أوروبا الشرقية إلى بريطانيا. لقد كشفت العمليات الإرهابية في فرنسا وبروكسيل عجز الاتحاد عن مواجهة تهديدات خارجية وداخلية. ورفع التحدي لا ينفع فيه تعزيز الميل إلى تقييد الحريات. ولا رفع وتيرة النزعة المعادية للجاليات الأجنبية، من أفريقيا وآسيا والعالم العربي أو الإسلامي. ولا الدعوات إلى رفض الهاربين من الجحيم السوري أو غيره من نيران الشرق الأوسط والشمال الأفريقي. هذه النزعة والدعوات تخدم الإرهابيين الساعين إلى الصدام بين الإسلام والغرب. فلو صح أن الإرهابيين يأتون فقط من خارج الحدود لكان منطقياً أن يسعى الغرب إلى حماية حدوده. لكن هؤلاء القتلة مواطنون من أوروبا وروسيا ومن كل قارات الأرض توجهوا إلى «دولة الخلافة» ليعززوا قواعد التنظيم الإرهابي. وبعضهم يعود بعدما اكتسب خبرات قتالية حقيقية. المهم ألا تنساق حكومات الاتحاد وراء ما ينشده «داعش» الذي يعمل على تقديم الجاليات الإسلامية «ضحية العنصرية» الغربية ليقدم نفسه الحامي الوحيد لها. فيسهل عندئذ تجنيد المزيد من الخائفين أو «المضطهدين» والمهمشين واليائسين…
ورفع التحدي ليس بإقامة الحدود والجدران بين دول القارة. أو بالدعوة إلى التقوقع والخروج من الاتحاد. مثل هذه التدابير والإجراءات لا يجعل أوروبا أكثر أمناً. ولا يحميها من هذه الذئاب القاتلة. والإجرام الذي ضرب بروكسيل قد يتكرر في أي عاصمة أو مدينة أوروبية، إذا لم تبدل هذه العواصم في سياساتها وإجراءاتها. وإذا لم تعزز من أدوات التنسيق وتبادل المعلومات الأمنية. وإذا لم تنخرط جدياً في الحرب على الإرهاب. والأهم من كل ذلك إذا لم تتقدم لأداء دورها في معالجة أسباب نمو الإرهاب، سواء في ضواحيها التي تحول بعضها غيتوات لا علاقة لها بالمجتمعات الغربية وقيمها وطرق عيشها وعملها، أو بعيداً خارج حدود القارة. أي في ليبيا وسورية والعراق وغيرها من الساحات التي تعصف بها أزمات تغذي التطرف وتشكل بيئات حاضنة له. الخلايا الناشطة وتلك النائمة لا تسمح بترف مواصلة الجدل عن تنسيق أو تراخ هنا، أو إلقاء اللوم على المهاجرين هرباً من جحيم الحروب في الشرق الأوسط. هناك نقص فاضح في تبادل المعلومات والتنسيق، باعتراف كبار المسؤولين الأوروبيين. هناك انعدام ثقة. وحتى منظمة «يوروبول» تحتاج إلى تفعيل حقيقي، إذ لا يمكن دولة بمفردها ضمان أمنها. المطلوب عمل مشترك. لا بد من توحيد بنوك معلوماتها والتعاون الدقيق والعميق في كل ما يتعلق بالأمن وحركة العناصر المشبوهة. وإن اضطرها الأمر لتعديل بعض القوانين القضائية المتعلقة بالتوقيف والاحتجاز. مع ما في ذلك من عودة عن قوانين ترسخ مفاهيم الحرية الفردية.
كان الرئيس باراك أوباما مصيباً في مقابلته مع «ذي أتلانتيك». أخذ على الأوروبيين إفادتهم من القوة الأميركية. وحضهم على الاعتماد على أنفسهم في حماية مصالحهم الأمنية للحفاظ على الاستقرار في القارة والليبرالية والديموقراطية. لم يعد من معنى لأن يلوم القادة الأوروبيون واشنطن على تخليها وعزوفها عن التدخل الميداني في الشرق الأوسط. أوروبا هي ساحة المواجهة مع «داعش» والإرهاب عموماً، وعليها إذاً أن ترد على التحدي بقدراتها الذاتية وليس بانتظار أميركا أو روسيا، أو بإلقاء اللوم على الشركاء في «الناتو» أو بعض قوى الاتحاد. أي أن على دول الاتحاد أن تنخرط جدياً في مواجهة الإرهاب، في كل ميادين المواجهة العسكرية وغيرها. والذهاب إلى البحث عن حلول سياسية عاجلة للأزمات التي تدمر دولاً ومجتمعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشكل مرتعاً وقبلة للجهاديين والتكفيريين. فهل يعقل أن تعجز دول جنوب أوروبا المطلّة على ليبيا وتلك التي تجاورها حدوداً، أو أن تتردد في فرض حكومة في طرابلس يمكنها التعامل مع المجتمع الدولي لتسهيل انخراط أممي في محاربة «داعش» الليبي ومثيلاته؟ لم يعد مفيداً للاتحاد الأوروبي أن يترك الأمر للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «الدولة الإسلامية». عليه أن يتبنى استراتيجة خاصة به، وأن ينخرط في أزمات المنطقة كلها. إنها فرصة لأداء دور فاعل في السياسة الدولية. لو بادرت أوروبا وأميركا وروسيا والقوى الإقليمية المعنية إلى تسوية النزاع السياسي في العراق. وساهمت في وقف الحرب السورية لما كان العالم شهد ولادة «داعش» وأمثاله في هذين البلدين. ولو كان التدخل في ليبيا استمر حتى قيام نظام جديد لما وجدت قوى التطرف مرتعاً لها في الشمال الأفريقي. والحق أن مسؤولية الاتحاد الأوروبي كبيرة ومفصلية. لكنها يجب ألا تحجب مسؤولية الآخرين. ولا شك في أن انعدام التوافق على استراتيجية واحدة بين كل المشاركين في الحرب على «دولة الخلافة»، وانعدام الرؤية الواحدة لما بعد القضاء عليها، ليسا السببين الوحيدين اللذين يمدان بعمر الدولة. بين أبرز العقبات أن التنظيم يفيد من تعثر التسويات، خصوصاً في العراق وسورية وليبيا واليمن. تضارب الأهداف بين أبرز الأسباب. ويعول «أبو بكر البغدادي» على تغذية النزاع المذهبي في الإقليم، ومن الحضور الإيراني الطاغي عبر القوى والميليشيات الشيعية. لذا، لا بد من أن يظهر المجتمع الدولي تصميماً مشتركاً على شن حملة واحدة على «داعش». وأن يلاقي التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده السعودية. أو أن يلاقي «المجلس الأميركي – الخليجي» للتنسيق في محاربة الإرهاب. فلا يصح أن يكتفي بعض القوى العربية والإسلامية بالتلطي وراء نظرية «المؤامرة» الأجنبية أو «الصليبية» على العرب أو المسلمين. مثل هذا الشعار وقود لتجنيد المزيد من المقاتلين في صفوف حاملي رايات القتل والذبح والهدم.
إن الاستعداد العسكري لتحرير نينوى وما بقي من الأنبار، وتحرير تدمر ودير الزور ثم الرقة بداية ليست كافية، ما لم تقترن بتحرك سياسي. على إيران أن تكف عن دفع «حشدها الشعبي» في العراق إلى تهديد قوات «المارينز» التي تساعد القوات الحكومية. وأن تساهم في تسوية ترفع الظلم عن أهل السنّة. وعلى روسيا ألا تتوقف عند حدود ما قدمت إلى النظام في دمشق. عليها أن تساهم في تسوية للأزمة السورية ترضي أطياف المعارضة وتحقق التغيير الحقيقي المطلوب بدل التلويح بدولة اتحادية تشعر معها الغالبية بالحيف والظلم… وحدها القوة العسكرية ليست كافية للقضاء على الإرهاب. منذ «غزوتي نيويورك وواشنطن» والعالم ينادي بأن الحل لمواجهة الإرهاب والقضاء عليه لا يقتصر على الجانب العسكري، على رغم أنه اليوم أولوية لتفكيك دولة «الخلافة في العراق والشام». لكن شيئاً من هذا لم يحصل. فلا غزو أفغانستان اقتلع الإرهاب من هذا البلد ودول الجوار. ولا القضاء على «دولة أبي مصعب الزرقاوي» حال دون إعلان «دولة الخلافة» الأعتى والأقسى في فنون القتل والتدمير.

 

لقد فشلنا
غسان شربل/الحياة/29 آذار/16
هل نحن مجرد جزء من هذا العالم أم نحن عبوة ناسفة مزروعة في أحشائه؟ هل نحن حي طبيعي من «القرية الكونية» أم أننا حي الانتحاريين فيها؟ وهل الغرض من هذه المذابح الجوالة إلحاق الجاليات العربية والإسلامية في الغرب بقاموس النحر والانتحار؟ هل نحن جزء من حاضر العالم ومستقبله أم أننا عاصفة ظلام تحاول إعادته إلى الكهوف التي غادرها حين اختار طريق التقدم وكرامة الإنسان؟ هل نريد الدفاع عن لوننا وهويتنا أم نريد فرض هذا اللون على الآخرين؟ وهل الخيار الذي نعرضه على الآخر هو أن يشبهنا أو ننفجر به لتختلط أشلاؤه بأشلائنا؟ وهل صحيح أننا لا نشعر بالطمأنينة إلا إذا رأينا شوارع العالم الآخر متعثرة بالجثث والزجاج المطحون؟ ومن الذي أجاز لمتعصبين قتل تركي في شوارع إسطنبول وفرنسي في شوارع باريس وسائح في شوارع بروكسيل؟ هل يحق لمن وفد إلى دولة واستقبلته وعثر فيها على سقف وعنوان ومساعدة اجتماعية ورعاية طبية، أن ينفجر في شوارعها لأنها لم تعتنق لونه وقراءته وأسلوب تفكيره ومعيشته؟ وهل يخفف من الإثم الحديث عن البطالة وتعثر الاندماج؟ وهل يحق لمَوْتور قتل الآخر لأنه لا يشرب معه من النبع نفسه؟ وهل يحق لنا أن نواصل الحفر في مناجم التاريخ لنتكئ على ظلم لحق بنا في حقبة سابقة فنبرر به مجزرة بحق أبرياء في دولة فررنا إليها هربا من مستبد أو حرب أهلية؟ ومن أعطانا الحق في أن نملي على آخرين شكل أنظمتهم وقيمهم وأسلوب حياتهم؟
لقد فشلنا.هذه هي الحقيقة التي لم يعد ممكناً إخفاؤها أو التستر عليها. فشلنا في بناء دولة طبيعية. دولة تعيش ضمن حدودها. دولة مؤسسات تنهمك بتحقيق التقدم والتنمية وتوفير فرص العمل وفرص المشاركة لأبنائها. دولة تتعاون مع جيرانها ومع العالم من دون أن يكتسحها الرعب أو يأسرها الحقد. وفشلنا أيضا في بناء مواطن طبيعي ينتمي إلى اللحظة الحاضرة من عمر العالم وتطوره المتسارع الوتائر.
لقد فشلنا.أخذتنا الغفلة لعقود وقرون. خفنا وانغلقنا. عاقبنا المعترض، وشطبنا المشكك، واعتبرنا حامل السؤال خائناً. اعتقلنا الحناجر والأصابع والأحلام. وهكذا تعفنت مؤسساتنا، هذا إذا وجدت. تعفنت مدارسنا وجامعاتنا ومناهجنا. تخرج الأطفال من مدارسنا بمخيلات مريضة ومشاعر مسنونة. عمقت جامعاتنا الكئيبة إقامتنا في قبور أجدادنا. تحول الطالب رقماً وتحول صدى وتحول لغماً. وقفنا على رصيف العالم وكان يتقدم. ازداد تقدماً فازددنا حسرة وغضباً. ولازمنا شعور بأن العالم يُصنع من دوننا وفي غيابنا. ويصنع ضدنا. وهكذا أعددنا أجسادنا والعبوات وانفجرنا.
لقد فشلنا. استولى علي هذا الشعور حين استمعت إلى سوريين في برلين يروون كيف تزاحموا على قوارب الموت طمعاً بإلقاء أنفسهم وأولادهم في حضن دولة أوروبية. وحين استمعت إلى عراقيين تنكروا في جوازات سوريين. وحين قرأت الفجيعة في عيون إيزيديين هاربين من جحيم دولة البغدادي. هذا مخيف. كم قرأنا عن أوطاننا وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ. لا نحلم الآن بغير الفرار منها وتركها تتلوى على الأناشيد المذهبية وفتوحات الميليشيات. وكم توهمنا أننا شعب واحد. ثم ذبحنا على يد أبناء شعبنا الواحد. ولم يبق لنا إلا قوارب الموت لنبتعد من بلادنا الغارقة في أعراس الخرائط الصغيرة.
لقد فشلنا.ها هو العالم يبحث عن أفضل السبل للتهرب من أنهار اللاجئين التي نطلقها، وأمواج الانتحاريين الوافدين من أرضنا أو ثقافتنا. يعاملنا العالم اليوم بوصفنا منابع الخطر على أمنه، وتقدمه، وديموقراطيته، واستقراره. لا حل أمامنا غير الاعتراف بهذا الفشل الشامل والمدوي. بهذا الانهيار المريع. علينا أن نبدأ من الصفر كمدينة هدمها زلزال ماحق. استمرار التلطي خلف الأكاذيب والأوهام يجعل إقامتنا في الكهوف مديدة. لا نستطيع السفر إلى المستقبل بأفكارنا القديمة وثيابنا البالية. لا نستطيع الصعود إلى القطار من دون أن ندفع ثمن البطاقة من جمودنا وأوهامنا وتكلس أفكارنا.

روسيا وإيران حصانان خاسران في العراق والمنطقة
د. ماجد السامرائ/العرب/29 آذار/16
التدخل العسكري الروسي في سوريا لم يكن حدثا عرضيا وليد ردود الفعل العاجلة لإنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط، رغم أنه كان واحدا من بين الأهداف اللوجستية الروسية المهمة، لكنه نتاج اعتبارات المصالح الاستراتيجية التي نمت بسرعة على طاولة فلاديمير بوتين الذي استفاد من الفراغ الجيوسياسي الذي أحدثته سياسة باراك أوباما في كل من سوريا والعراق لصالح من يتمكن من ملء الفراغ (إيران وروسيا وإسرائيل)، ورغم جميع التعقيدات والتشابكات في مصالح الكبار والصغار في المنطقة، فإن التدخل العسكري الروسي والانسحاب المفاجئ أثارا العديد من التساؤلات خصوصا في تأثير ذلك على النفوذ الإيراني في كل من سوريا والعراق. هناك أولا مشتركات الضحية للشعبين السوري والعراقي، فكلاهما يتعرض للتجريف من الأرض والجغرافيا والتاريخ. كلاهما يواجه برنامج محو ذاكرته التاريخية تحت وقع الدم والتشرد. كلاهما يقع تحت النفوذ الإيراني الذي يتجاوز في مخاطره أساليب الاستعمار التقليدي. إيران تعتقد أنها جعلت العراق تابعا لمحميتها ليس على مستوى قمة الهرم السياسي، وإنما على مستوى جغرافية الأرض بعد محاولات محو تاريخها، وقد زرعت في العراق أدوات تشتغل لديها لقاء المال والجاه لتنفيذ هذا المشروع من دون ضجيج، وأحيانا بضجيج الناس المهجّرين من مساكنهم وأراضيهم التي يمتلكونها منذ آلاف السنين بطريقة أبشع مما قام به الكيان الإسرائيلي في فلسطين وفي مناطق مختارة بدقة في العاصمة بغداد وفق التقسيمات الطائفية السريعة، وصولا إلى رسم خرائط جديدة تشمل العطيفية والمنصور والدورة واليرموك والعامرية، امتدادا إلى أطراف ديالى وتشابكاتها مع الأكراد. وكذلك صلاح الدين وبالذات في مدينة سامراء لاعتبارات وجود مرقدي الإماميْن العسكرييْن رغم أن أهالي سامراء، وجميعهم من العرب السنة، احتضنوا هذين المرقدين، وقد نفذ مخطط شراء العقارات المحيطة بالمرقدين من قبل بعض الشيعة الموالين لإيران، زحفا نحو دائرة أوسع إلا أن العشائر السامرائية تقف بقوة بوجه هذا البرنامج للتغيير الديموغرافي، وهناك مشروع إداري لنقل قضاء سامراء إلى محافظة بغداد. إيران تعلم بأنها لم تقدم شيئا للشيعة العرب في العراق بل هي تحتقرهم، ولهذا رأينا المتظاهرين في محافظات الجنوب يطالبون إيران بالرحيل عن العراق.
وإيران (الفارسية الصفوية) حينما احتلت العراق قبل خمسمئة عام وبطشت بالسنة، أجبرت الشيعة العرب في النجف على تدوين الوثائق الصفوية في مواثيقهم لكنها لم تتمكن من قتل الروح العراقية عندهم. واليوم تمارس إيران شكلا عصريا من الوصاية، وفرمان ولي الفقيه هو النافذ على السياسيين “الشيعة” في بغداد وليس على المواطنين، ورغم قدرة السفارة الأميركية على تعطيله، لكنها تأتمر بسياسة البيت الأبيض والرئيس (الأسود ابن الحاج حسين) وتكتفي بالمراقبة، والسفير الأميركي يكثر من اللقاءات لإعداد التقارير وإرسالها إلى واشنطن.
النفوذ الإيراني في العراق لم يتحقق بهذا الشكل لولا سياسة واشنطن خلال اجتياحها العسكري للعراق عام 2003 حيث تعرضت لخديعة إيران بأنها ستساعدها على احتلاله، وأن واشنطن ستواجه المصاعب إن دخلت بمفردها من دون طهران وقد يتعرض جيشها إلى الكوارث، وكان السفير زلماي خليل زادة من أبرز العاملين في التعاون الإيراني الأميركي إلى جانب العراقي الراحل أحمد الجلبي في احتلال العراق. عمقت النفوذ الإيراني سياسة أوباما المتخاذلة الذي وصل به الحال إلى أن يدعو السعودية من خلال تصريحاته الأخيرة لصحيفة آتلانتيك إلى عقد اتفاقية خضوع للنفوذ الإيراني.
الحصانان الجامحان الروسي والإيراني غير متوافقين في ما بينهما إضافة إلى النفور العام من قبل أهل المنطقة تجاههما؛ فهناك تضارب في المصالح الاستراتيجية الروسية والإيرانية في كل من سوريا والعراق أكثر من الانسجام والتوافق. إيران رحبت بالتدخل العسكري الروسي في سوريا، لكون روسيا طرفا دوليا قويا قادرا على استخدام سلاحه الجوي الفعال، ومن المفارقات أن إيران لم تستخدم، إلى حدّ اليوم، طيرانها لا في العراق ولا في سوريا.
التدخل العسكري الروسي حافظ إلى حدّ بعيد على بقاء بشار الأسد في الحكم وتلك مصلحة روسية إيرانية مشتركة، ودخول طرف دولي مهم كروسيا يخدم إيران مرحليا. رغم أن الأهداف اللوجستية الروسية سعت إلى تقليص النفوذ الإيراني وتحجيم دور الميليشيات التي كان لها الدور القيادي في العمليات العسكرية في الأراضي السورية. روسيا تدعم المؤسسات الرسمية الحكومية السورية، أما إيران فتعمل بين صفوف المؤسسات الشعبية “الشيعية” وهي تمهد لاستنساخ تجربة الحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق. وقد دعت إلى تأسيس سرايا “الدفاع الوطني” بعد تراجع نظام بشار عن التجنيد النظامي. مثلما شجعت بناء الحشد الشعبي في العراق، كبديل لمؤسسة الجيش العراقي، وتعطيل قيام “الحرس الوطني” المدعوم أميركيا، كما أن الاتحاد السوفييتي الأب الروحي لروسيا بوتين كان قد وقف إلى جانب العراق ضد إيران في حرب الثماني سنوات. ولقد صُعقت إيران من احتمالات التدخل العسكري الروسي في العراق على وقع الحرب على داعش، رغم الصعوبات اللوجستية لروسيا غير القادرة على شن الحرب على جبهتيْ العراق وسوريا في وقت واحد، بل إن من جملة أسباب الانسحاب العسكري من سوريا هي التكاليف الباهظة لتلك الحرب، وقد استبشرت إيران بالخلاف الروسي التركي، وعملت من طرف خفي على تصعيده لأنه يضعف تركيا في العراق التي ترى فيه إيران محمية لها، ولا تفرط فيه حتى لو خسرت سوريا، لأسباب تتعلق بجوهر الأمن القومي الإيراني الذي جعل من الأراضي العراقية السياج الحديدي لحماية المصالح الإيرانية.
إيران خصم اقتصادي متصاعد لروسيا في المستقبل القريب بعد الاتفاق النووي وانفتاحها على الغرب وخشيتها من خسارة مشروعها المنتظر لتصدير الغاز الإيراني عبر الأراضي السورية كبديل للخط الروسي الذي من المحتمل أن تخسره روسيا فيما إذا أزيح بشار الأسد عن الحكم وسقطت سوريا بيد أميركا، واحتمال استحواذ قطر على خط الغاز الاستراتيجي عبر تركيا وسوريا. ولعل من أبرز الأمثلة على انزعاج إيران من روسيا هي سياسة بوتين في الانفتاح على السعودية ودول الخليج والزيارات المتبادلة والإغراءات الكثيرة لموسكو، ليضمن مصالحه، ولهذا ساندت روسيا ودعمت القرار الدولي 2216 بشأن حرب اليمن وإدانة الحوثيين. وهنا لعبت إسرائيل، بمهارة، في شأن التدخل الروسي العسكري بسوريا حيث جرى تنسيق استخباري روسي إسرائيلي قوي قبيل الاجتياح العسكري الروسي لسوريا. وقد نشر مركز أبحاث الأمن الإسرائيلي أخيرا خطة استراتيجية أفادت بضرورة استخدام التدخل الروسي لإزالة خطر إيران وحزب الله على إسرائيل، وهناك مشتركات إسرائيلية روسية إسرائيلية؛ فروسيا لا تريد لإيران أن تثير القلاقل على حدودها الجنوبية، وإسرائيل لا تريد لحزب الله أن يقوى في سوريا ويهدد أمن إسرائيل. بالمقابل هناك حديث خفي عن صفقة إيرانية تسعى من خلالها طهران إلى ضمان أمن إسرائيل مقابل السيطرة على القرار في بلاد الشام والعراق. إن لم يتحقق ذلك بوحدة سوريا فبتقسيمها إلى ما يسمى بـ”سوريا المفيدة”، أي سوريا العلوية مقابل سوريا السنية وسوريا الكردية، أما العراق فتريده إيران كله، والمقصود بالكل النفوذ الكامل في الوسط العربي والجنوب، والنفوذ غير المباشر من خلال الأكراد، ومع ذلك كله لو أرادت واشنطن لأخرجت إيران من العراق ولوجدت غالبية العراقيين معها رغم المظاهر المخادعة على المسرح السياسي، كما أن روسيا ليس لديها أيّ نفوذ في العراق والمنطقة ما عدا نفوذها اليتيم في سوريا بسبب وجود بشار الأسد الذي لن يبقى خالدا. كلا الحصانين الروسي والإيراني خاسران في العراق والمنطقة.