أحمد عدنان: المستقبل السياسي للسنة في لبنان/خيرالله خيرالله: خروج من سوريا بعد الخروج من لبنان/محمد قواص: بوتين: عن مغامر لا يقامر

259

المستقبل السياسي للسنة في لبنان
أحمد عدنان/العرب/18 آذار/16

من قبيل التهويل على السنة وعلى قوى 14 آذار، يجري التلويح من قبل أبواق محور الممانعة بعقد مؤتمر تأسيسي ينسف اتفاق الطائف، والمضحك أن هذه الفزاعة يتم استخدامها أحيانا ضد المملكة العربية السعودية، وجانب الطرافة أن الطائف حل أزمة لبنانية لا سعودية، وبالتالي فإن إلغاء الطائف يعني العودة إلى ما قبله لبنانيا، أي أن تهديد المملكة بذلك في غير محله.
ولنفترض مثلا، أن المؤتمر التأسيسي المأمول أو المزعوم قد انعقد فعلا، هل سيشكل انتصارا لحلفاء محور الممانعة في لبنان؟ بالتأكيد لا. ونقيس على ذلك باتفاق الطائف نفسه الذي انعقد في ظل ظرفين يحضران اليوم، الميليشيا والفراغ، ونلاحظ أن قوى السلاح غير الشرعي والفراغ كانا مدعومين دوليا وإقليميا كما هو حال هذه القوى اليوم، لكن فواكه الطائف كانت من نصيب الآخرين، وهذا ما سيتكرر اليوم، لن يعطى أي امتياز لمن تسبب بالفراغ، ولن يفرح مرتزقة الميليشيا الذين وجهوا سلاحهم للداخل وللخارج بأي مكسب، خصوصا وهم مطلوبون دوليا في جرائم الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال، ومصنفون إقليميا كمنظمات إرهابية.
فكرة الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي ساقطة من أساسها، فمن تسبب في عقوبات أميركية مصرفية بسبب نشاطه الإجرامي في أميركا وأوروبا، إضافة إلى لائحة طويلة من ممارسات الإرهاب والإجرام في دول الخليج وعالم العرب، ومن تسبب في جفوة خليجية- لبنانية بسبب قيادته لوزارة الخارجية، ستكون فرصة المؤتمر التأسيسي وبالا عليه، ولو فكر في 7 أيار أخرى، سيثبت على نفسه الحصار ويضاعفه إضافة إلى التصادم مع المعطيات الديموغرافية الجديدة المفروضة بواقع اللاجئين، وكما أنتجت 7 أيار الأولى هزيمة سياسية لمحور الممانعة والميليشيا، ستنتج 7 أيار الثانية هزيمة سياسية أكبر. باختصار لن يسمح المجتمع الدولي بانتصار لإرهابي أو لمُعطل لعدم تشريع التعطيل والإرهاب وسيلة لتحقيق المكاسب السياسية حاضرا ومستقبلا في لبنان وفي غيره.
التحديات التي تواجه مستقبل السنة في لبنان وغيره داخلية وعضوية بالدرجة الأولى، فميليشيات إيران لن تشكل خطرا على المدى البعيد رغم ضررها الفادح راهنا، فإيران الشيعية والأعجمية لن تتمكن من إقامة آمنة ودائمة في عالم العرب السني، وقد فشلت تركيا قبلها بسبب أعجميتها، فما بالنا باختلاف اللسان والمذهب معا، والحديث عن التلاعب بتوازنات الحصص داخل الدولة اللبنانية في غير مكانه، فالكثرة والانتشار يكفلان إسقاط أي عبث بالوضع القائم، إضافة إلى ذلك، فالسنة للبنان لا غنى للدولة عنهم لأنهم سفراء الاتصال والاندماج بمحيطهم العربي اللصيق، كما أن المسيحيين هم سفراء الاتصال بالغرب البعيد.
أولى التحديات التي تواجه السنة هي ضرورة إحداث القطيعة مع السلفية والإسلاموية، فإذا تحدثنا عقديا وعلميا، فهناك فوارق لا يصح تجاهلها، فالإسلاموية تحمل في طياتها رواسب الناصبية والتجسيم اللذين يعتبران مروقا من وجهة النظر السنية، كما أنهم يثلثون التوحيد (ربوبية وألوهية وأسماء وصفات)، وأدى ذلك إلى كارثتين السنة منهما براء، الأولى كارثة الحاكمية التي تفرعت عن توحيد الألوهية وكفرت الدول والحكام، أما الثانية فهي بدعة توحيد الأسماء والصفات التي أتاحت للسلفية والإسلامية تكفير القسم الأكبر من السنة.
غياب هذه القطيعة وضع على السنة حملا ثقيلا، فأصبحت جماعات الإرهاب كداعش والقاعدة تصنف زورا جماعات سنية، بدلا من تصنيفها الصحيح الذي نطالب بالقطيعة معه، وكل جماعات الإرهاب في ذلك الفلك، وإذ نتابع وسائل الإعلام نشعر بدهشة بالغة، فالعويل والنحيب يطال ضحايا الإرهاب من المسيحيين واليزيديين وغيرهم، أما الضحايا السنة لذلك الإرهاب، وهم أكثر عددا بأضعاف مضاعفة على مساحة العالمين العربي والإسلامي، فلا بواكي لهم، وكأن الخطاب الإعلامي يقول إن السنة يقتلون بعضهم بعضا وبالتالي لا قيمة لأرواحهم وحياتهم ودمائهم، بل وهناك غض طرف عن استهدافهم الممنهج من الميليشيات الإيرانية الطائفية، وكأن المشهد يقول وحيث أن الإرهاب من السنة فلا بأس بضرب السنة، والمفارقة هنا ليست إعلامية فقط، ففي ظل غياب القطيعة مع من يحسبون أنفسهم سنة تصبح المشكلة ثقافية وفكرية كذلك.
ثاني التحديات هي شبح انهيار الدولة الذي يحوم على منطقتنا، وإذ ننظر إلى تاريخ المنطقة وسنتها، سنلحظ أن السنة هم السمك في حال كانت الدولة بحرا، لا حياة لنا في غير الدولة، على عكس الآخرين الذين يجدون في صحراء اللا دولة انطلاقهم، وربما نجح غيرنا إقليميا في بناء الأوطان، لكن بناء الدولة هو اختصاصنا ومهنتنا ولو بالحد الأدنى مهما كانت حصتنا في هذه الدولة، والملاحظ أن خروجنا من بحر الدولة أدى إلى موت السمك وتبخر البحر، ولنا في العراق وفي ليبيا المثال الناصع. وإنني إذ أرى الأخطار تتربص بفكرة الدولة وقيمتها، لا بد أن أتخوف من ثلاث بؤر، بؤرة الإرهاب الإسلاموي السلفي الذي سيبتلعنا وسيبتلع الدولة إذا لم نحدث معه القطيعة المعرفية والعقدية، وبؤرة إيران الطائفية، والبؤرة الإسرائيلية العنصرية.
كل التحولات التي عصفت بالمنطقة كان لها ارتباط بالصراع العربي- الإسرائيلي، فنؤرخ لحظة الصعود الإسلاموي بنكسة 1967 التي نخرت أو فضحت المشاريع القومية واليسارية، وتتسلل إيران إلى ساحتنا الداخلية بذريعة القضية الفلسطينية، ومضى حين من الدهر كان حكام العرب يسرقون شعوبهم ويستعبدونهم باسم فلسطين، وكانت أكثر المشاهد الكوميدية مؤخرا هي انقلاب الحوثيين على الشرعية اليمنية بذريعة مقاتلة إسرائيل، ولا يخفى على لبيب تلك الموازاة اللافتة؛ الصهاينة يريدون دولة يهودية، والإسلامويون يريدون دولة إسلامية.
ولا جدال بأنه لا حرب عسكرية مع إسرائيل من دون مصر، إلا أننا نلفت النظر بأن خيار السلام حرب أيضا، لكنها حرب حضارية ومدنية ربما تكون أصعب وأشمل من معارك العسكر، وفشل مشروع السلام لا يكفي أن نحيله إلى الصلف الإسرائيلي فقط، فهناك عيوب في صفوفنا، كالانقساميْن الفلسطيني والعربي، ومقاطعتنا لعرب 1948، وإهمال التواصل المباشر والشامل مع أرضنا وأهلنا في فلسطين بذريعة مغلوطة هي “عدم الاعتراف بالعدو”، والأهم من كل ذلك، هو عدم تأسيسنا لشبكة مصالح في الأراضي المحتلة تتيح لنا الضغط على إسرائيل واهمين بدعم أميركي مجاني لن ينصفنا حتى في الأحلام.
ونضع إيران وإسرائيل في مرتبة واحدة، لأن العدو فكرة وسلوك لا هوية، فإسرائيل ليست عدوا لمجرد أنها إسرائيل، بل بسبب احتلال أرضنا وعنصريتها، وهي صفات حاضرة في إيران راهنا، فاحتلال الأراضي العربية واستهداف دولها نراهما كل يوم وفي غير مكان، وعنصرية الطائفة والعرق لا ينكرها حتى الجهال، وللأسف، فإن الإجرام الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين فاق، أقله كمّا، جرائم إسرائيل، وهذه مذمة لإيران وليست مدحا لإسرائيل، لذلك فطرح معركة السلام مع إيران مبكر جدا، فالمطلوب أن يتراجع السوء الإيراني لدرجة السوء الإسرائيلي حتى نطرح مشروع السلام معها.
موضوعيا، هناك حلف إسلاموي- إسرائيلي من جهة، وهناك حلف إيراني- إسرائيلي من جهة أخرى، وحلف إيراني- إسلاموي من جهة ثالثة، فكل طرف يعزز ويدعم مشروعية الآخر ووجوده، وإيران فوق إرهابها المباشر من تطفلها على دول عربية، وحربها على السنة تحت غطاء الحرب على الإرهاب، وبث الفتنة الطائفية تحت عنوان العمل الخيري والدعوة، يتجلى خطرها على الدولة مزدوجا، فمن جهة هناك استهداف مباشر للكيان القائم، وهناك استهداف غير مباشر ربما يكون أشدّ وقعا، أي عدم الاعتراف بالكيان القائم، من أساسه، بإقامة العلاقة مع جماعات من دون المرور عبر الدولة.
وفي رأيي إننا نتحمل قسطا واسعا من مسؤولية التغول الإيراني، فالدول العربية التي في أغلبها تميل للمحافظة، لم تدرك أن المحافظة لم تعد عنوانا جاذبا في دنيا العرب، وهذا ما أتاح لإيران دغدغة أحلام بعض العوام، فارتفاع معدلات الفساد والبطالة، وغياب تداول السلطة، وانتهاك حقوق الإنسان، وانعدام حرية الرأي، واحتقار تجديد الخطاب الديني، وإهمال الدول العربية الكبيرة والمستقرة لبعض جيرانها خصوصا بعد الربيع العربي، بوابة عريضة لكل عدو كي يفعل ما فعلته إيران وأكثر.
في ظل كل ما سبق، إضافة إلى القرارات الخليجية والدولية التي طالت لبنان مؤخرا، نخرج بخلاصات واضحة، فالمصالحة السنية- السنية محمودة ومطلوبة، ولا بد من التأكيد على أن المصالحة والوحدة لا نعنيان التطابق، بل حفظ التنوع وإدارة الاختلافات على قاعدة القواسم المشتركة، ولعل أهم قاسم هو أننا رسل الدولة وحراسها، لكن هذا الحرص على الدولة لا يعني الاستسلام للميليشيات.
ونضيف أيضا، التأكيد على سقوط نظرية “قوة حزب الله من قوة لبنان”، ورأينا بأنفسنا أن قضم الميليشيا للدولة سيحول لبنان دولة مارقة ومحاصرة إقليميا ودوليا، وإذا استمرت جرائم الحزب الإلهي محليا وإقليميا ودوليا ستكون العواقب أفدح، قطعا سيأتي يوم يزول فيه سلاح حزب الله، ويوما ما سترحل إيران وإسرائيل، لكن رحيلهما اليوم أفضل من الغد، ورحيلهما بعد سنة أفضل من رحيلهما بعد قرن، لأن أضرار إطالة البقاء قد تؤدي إلى تشوهات ربما تستعصي على العلاج.
ونشير كذلك، إلى ضرورة التحلي ببعض التواضع، والإيمان بالمساواة والشراكة مع مختلف مكونات المنطقة، وهذا التفكير ينسف تحالف الأقليات الذي اعتمدت عليه إسرائيل وتعتمد عليه إيران لتدميرنا.
وأخيرا، الحذر من التشبه بأعدائنا، لا لعنصرية إسرائيل ولا لطائفية إيران وميليشياتها، ولا للإسلاموية كلها، فالأعداء لا يفرحون بانتصار مؤقت أو طويل في معركة عسكرية، لأن انتصارهم الأكبر هو أن يجعلونا نشبههم، وهذا أكثر ما أخافه.

خروج من سوريا بعد الخروج من لبنان
خيرالله خيرالله/العرب/18 آذار/16
بدأ الانسحاب الروسي من سوريا أم لم يبدأ… هل هو مناورة أم انسحاب حقيقي؟ الأكيد أن شيئا حصل يؤكد أنه لم يعد من أمل لدى موسكو في المراهنة على بشّار الأسد.
ليس سرّا أن الإعلان الروسي عن بدء الانسحاب من سوريا في الرابع عشر من آذار- مارس 2016 ليس حدثا عاديا. هل صدفة أنه يأتي بعد الرابع عشر من آذار اللبناني في العام 2005 الذي أخرج القوات السورية من لبنان؟ هل يُخرج الرابع عشر من آذار السوري بشّار من سوريا بعدما أخرجه الرابع عشر من آذار 2005 من لبنان؟
في أيلول ـ سبتمبر الماضي، بدأ التدخل الروسي المباشر في الحرب على الشعب السوري. تحدّثت موسكو، تحت غطاء محاربة “داعش”، عن ضرورة إنقاذ بشّار الأسد الذي صار نظامه في حال “موت سريري”. هل كان فلاديمير بوتين يريد إنقاذ بشّار الأسد أم المزايدة على رأسه من أجل ثمن تريد روسيا قبضه؟
استطاع فلاديمير بوتين توفير جرعة حياة جديدة لبشّار الأسد ونظامه، وذلك بعدما تبيّن أن الميليشيات المذهبية التي أرسلتها إيران إلى سوريا، في مقدّمتها ميليشيا “حزب الله” اللبنانية، لم تعد قادرة على تنفيذ المطلوب منها. تحرّك بوتين في الوقت المناسب بتنسيق مباشر مع إيران وإسرائيل في الوقت ذاته. من يتذكّر أن الجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني زار موسكو قبيل التدخل العسكري المباشر لروسيا؟
كذلك، لم يتأخّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عن المجيء إلى موسكو لتأكيد وجود تفاهم روسي- إسرائيلي في شأن كل ما له علاقة بالموضوع السوري من قريب أو بعيد. فعندما اكتشفت إسرائيل أن هناك من يحضّر لعمليات تستهدفها تنطلق من الجولان، سارعت إلى اغتيال سمير القنطار، وهو درزي لبناني كان في سجونها إثر تنفيذه عملية استهدفت سكّان إحدى المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود اللبنانية في سبعينات القرن الماضي. لم يكن سمير القنطار سوى أداة إيرانية انتهى مفعولها عندما صار واضحا أن لا شيء يعلو على التفاهم الروسي- الإسرائيلي في سوريا.
لم يكن استهداف القنطار بتلك الدقة سوى نتيجة للتنسيق الروسي- الإسرائيلي الذي يعكس رهانا على بشّار الأسد ونظامه في ظلّ شروط معيّنة ولأجل معيّن ومحدّد. بالنسبة إلى إسرائيل، ليس هناك أفضل من النظام السوري الذي يحترم كلّ الاتفاقات الشفهية بتفاصيل التفاصيل منذ توقيع اتفاق فصل القوّات بين البلدين في العام 1974، بإشراف هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركية وقتذاك، ورعايته.
ساد هدوء تام الجبهة بين سوريا وإسرائيل واتفق الجانبان، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على أن يكون جنوب لبنان هو الملعب أو على الأصحّ “الساحة” التي تصلح لتبادل الرسائل بين الجانبيْن على حساب لبنان واللبنانيين وأهل الجنوب على وجه التحديد.
يكمن جديد الإعلان الروسي عن بدء الانسحاب العسكري من سوريا في أنّ هناك تطورا طرأ على الأرض، في وقت بدأت في جنيف جولة جديدة من المفاوضات بين النظام والمعارضة بإشراف الأمم المتحدة.
ليس سرّا أنّ روسيا اكتشفت أن بشّار الأسد لم يعد يمتلك قوّات تستطيع الاستفادة من الغارات الجوية التي نفّذتها. وليس سرّا أيضا أنّ روسيا تبحث عن ثمن لرأس بشّار الأسد.
أكثر من ذلك، ليس سرّا أن إيران ما زالت متمسّكة ببشار الأسد وبإمكان إقامة دويلة تحت سيطرته، ذات امتداد في لبنان. مثل هذه الدويلة تؤمّن لإيران جسرا إلى “حزب الله” الذي يسيطر على مقدرات الدولة البنانية، والذي يظلّ، إلى إشعار آخر، كنزا ثمينا لا خيار آخر لدى طهران سوى المحافظة عليه. مثل هذا المشروع الإيراني قائم على وهم أكثر من أي شيء آخر لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أنه ليس في الإمكان إقامة دويلة في سوريا ليس فيها أكثرية سنّية مهما اشترت إيران من أراض، ومهما قامت بعمليات تطهير ذات طابع مذهبي.
هذا سبب أكثر من كاف لاقتناع موسكو بأن ليس في الإمكان الذهاب بعيدا في التنسيق مع إيران، بدل جني مكاسب تصب في خدمة المصالح الروسية بالاتفاق مع الإدارة الأميركية. في مقدّمة هذه المصالح الروسية إغلاق الساحل السوري في وجه أي أنابيب للغاز يمكن أن يكون مصدرها الخليج العربي، ووضع اليد على حقول الغاز السوري التي تشكّل ثروة كبيرة.
انسحب الروس أم لم ينسحبوا، بات مصير بشّار محسوما. كلّ ما فعله الرجل أنّه لعب الدور المطلوب منه أن يلعبه في تدمير سوريا وتفتيتها وتحويلها مرتعا للميليشيات المذهبية الآتية من لبنان والعراق وأفغانستان.
مهما تحدّث النظام السوري عن تنسيق مع موسكو في شأن الانسحاب العسكري الروسي، يظلّ السؤال المطروح هل اقتنع بوتين بأن لا مفرّ من قبض ثمن رأس بشّار قبل فوات الأوان؟
في غياب الأجوبة الواضحة والحاسمة عن مثل هذا السؤال، ما لا بدّ من ملاحظته أنّ هناك ارتفاعا لأسعار النفط في الأيام القليلة الماضية. مثل هذا الارتفاع للأسعار لا يمكن سوى أن يسرّ الرئيس الروسي الذي يمر بلده بأزمة اقتصادية عميقة، كما يعرف قبل غيره أنّ روسيا ليست دولة عظمى. يدرك بوتين أنّ كل ما تستطيع روسيا عمله يتمثّل في الاستفادة من تخاذل رئيس أميركي اسمه باراك أوباما يختزل مشاكل الشرق الأوسط وأزماته بالملفّ النووي الإيراني.
ما ثمن رأس بشار الأسد؟ هل قبض بوتين الثمن أو بعض الثمن سلفا؟ هل ارتفاع أسعار النفط دفعة أولى، على الحساب، أقنعت بوتين بأن الرهان على بشّار الأسد رهان خاسر… هذا إذا كان الرئيس الروسي قبِل يومًا الدخول في مثل هذا الرهان!
في كلّ الأحوال، قلب بوتين الطاولة على بشّار. لديه حسابات لا علاقة لها بحسابات النظام الذي سارع، مجددا، إلى الاستنجاد بإيران. هل نسي النظام أن إيران جرّبت حظها في سوريا ولم تجد في النهاية سوى الاستنجاد بسلاح الجو الروسي؟
للمرّة الألف، أنْ تعرف كيف تخسر في السياسة والحرب أهمّ بكثير من أن تعرف كيف تربح. تبيّن، بكل بساطة، أن الأسد الابن لا يعرف لا كيف يخسر ولا كيف يربح. لا يعرف من الربح سوى الانتصار على اللبنانيين والسوريين. آن أوان انتصار اللبنانيين والسوريين على نظام لم يجلب للبلدين سوى الدمار والتخلّف والغرائز المذهبية، مباشرة أو بالوكالة.

بوتين: عن مغامر لا يقامر
محمد قواص/العرب/18 آذار/16
سيُكتب الكثير في السعي إلى الاجتهاد في تفسير موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقراره بسحب “الجزء الأكبر” من قواته من سوريا. وسيسعى المحللون للاستعانة بعلوم السياسة وبيانات الاقتصاد، وربما بعلم النفس، لتحرّي رواية حقيقية تقف وراء قرار سيد الكرملين في قلب الطاولة على نحو مسرحيّ استدعى انبهار الجمهور العريض. حتى أن تأملا موضوعيا قد يفضي إلى التسليم بأن لا أحد يعرف ماذا دار في خلد الرئيس الروسي، تاركا للأقلام في العالم أن تبرع في إنتاج الأسباب والمسوغات.
لم ينسحب بوتين من سوريا، بل أعاد تموضعه الاستراتيجي، على النحو الذي أحاله، بمهارة، حاجة للتسوية السورية، بعد أن استباح الحلفاء والخصوم هجاء استراتيجياته في سوريا. يصطادُ الرجل بحجر واحد مجموعة من الطرائد، في مناورة تثبّته رقما أساسيا في المعادلة السورية، ومنها في المعادلات الدولية الأخرى.
أبلغت موسكو إسرائيل عزمها التدخل العسكري في سوريا، ونسّقت مع تل أبيب تفاصيل المسموح والمحظور، فيما لم يعلم الإسرائيليون بأمر الانسحاب الروسي إلا من خلال الإعلام. بدا واضحا أن موسكو تقصّدت الإعلان قبل هنيهة من توقيت كافة النشرات الإخبارية الرئيسية في العالم. أراد بوتين، بسادية مفرطة، التمتع بتأمل ما فعلته مفاجأته في المشهد الإعلامي الدولي، بدا أنه هاتف الأسد موبّخا صغيره، وهاتف أوباما مطالبا كبيره بدفع فواتير المهمة التي نفذها.
ذهب بوتين إلى سوريا بعد ساعات من اجتماعه بالرئيس الأميركي على هامش قمة العالم في نيويورك. كان واضحا أن ثقة الرئيس الروسي، لا سيما في مشهد استدعائه للرئيس السوري إلى موسكو، لا تستند فقط على كاريزما وطباع فقط، بل على وكالة دولية معطوفة على فترة سماح مُنحت لموسكو لترتيب الوضع السوري على هواها. وكان واضحا أن المجتمع الدولي أظهر جدية لافتة في دعم الوكالة الروسية، فتوّلت الرياض إعداد المعارضة، وتولت عمّان إعداد قوائم بالفصائل المعتبرة إرهابية، فيما عملت العواصم الكبرى على ترتيب قرار في مجلس الأمن يرفد الجهد الروسي ويرعاه.
في القول، في موسكو، إن روسيا نفّذت المهمة التي أعلنت عنها في بداية عملياتها في سوريا، لهو تضليل على منوال ما هو سائد هذه الأيام في كل عواصم العالم في مقاربة كوارث هذا العصر. أعاد بوتين عدّته وعديده دون أن يقضي على الإرهاب، ودون أن يردّٓ عن روسيا أخطار التطرف الإسلامي، ودون أن يصاب داعش بالهزيمة المنتظرة. بدا واضحا أن الجهد الأميركي ضد داعش في العراق أكثر جدية ونجاعة من ادعاءات الروس في سوريا.
وفي القول إن بوتين قد حقق ما يريد، ففي ذلك وجاهة لا لبس فيها. أعادت النيران الروسية صلابة عود النظام في دمشق بعد أن كان على وشك الانهيار، وأعادت قوات دمشق، بمواكبة جوية روسية، وحسب الإحصاءات الروسية أيضا، السيطرة على ما يقارب الـ10 آلاف كيلومتر مربع وعلى أكثر من 400 مدينة وقرية، كان النظام قد فقدها. وأعادت موسكو تنشيط عملية دبلوماسية أنتجت تفاهمات ميونيخ وما بعدها، وراحت، وفق إيقاعها العسكري، تفرض مع واشنطن وقفا عجائبيا لإطلاق النار.
استطاع بوتين أن ينتزع اعترافا دوليا بأنه بات يقود دولة عظمى في مناوراتها وأهدافها ووسائل حركتها، لدرجة أن الأوروبيين، الذين فرضوا العقوبات الأوكرانية على موسكو، راحوا يتحرّون لدى بوتين ترياقا لمأساة اللجوء السوري إلى أحضانهم. باتت أجندة بوتين طموحة تتّسق مع مصالح روسيا الاستراتيجية، بغضّ النظر عمن يريد أن يقتات في المنطقة من الهمّة الروسية في سبيل تحقيق أجندته المحلية. بدا أن جسارة الطرف الروسي قد أقلقت الحليف في دمشق كما الحليف في طهران، لدرجة أن يلتقي الإيرانيون والأتراك على رفض ظلال ثقيلة يرخيها “الدب” في حقولهما.
ولأن روسيا دولة عظمى في جهدها وخطابها وحراك عسكرها ومستقبل اقتصادها، تطوّرت علاقة موسكو مع الرياض على نحو لا يتّسق مع تناقض وتنافر موقف البلدين في الميدان السوري. اكتفى الطرفان بإعلان خلافهما واستمرا في تعبيد خارطة طريق نحو علاقات نوعية، وربما، استراتيجية بين البلدين، حتى أن قرار بوتين الأخير تواكب مع إشادة روسية بالدور السعودي لدفع المعارضة السورية نحو جنيف، كما الثناء على أداء تلك المعارضة وانفتاحها، فيما اعتبر ذلك غمزا مباشرا من قناة وفد النظام.
انسحب بوتين من سوريا بعد أيام على بثّ خبر صادر عن وزارة الدفاع الروسية، يعلن عن سقوط طائرة عسكرية روسية بصاروخ أرض جو أطلقه الخصوم. ربما تناهى إلى سمع الرجل أن “ستينغر”، ذلك الصاروخ الذي هزم جيش الاتحاد السوفييتي في أفغانستان قد بدأ يجول في الميادين السورية، بعد أن كشفت أجهزة المخابرات الغربية عن تجواله متسللا من مستودعات القذافي باتجاه دول شمال أفريقيا. بمعنى آخر، يشعر الرجل أنه حقق ما يريد من دون خسائر تذكر، مقارنة بحجم العمليات العسكرية (4 قتلى)، وأن الحكمة تقتضي حصد الأرباح قبل أن تتحوّل إلى كابوس شبيه بذلك الأفغاني، فأعلن عن “انسحاب جزئي” من سوريا وفق نفس صيغة “الانسحاب الجزئي” الذي أعلن من خلاله الاتحاد السوفياتي “إخلاءه” للأراضي الأفغانية.
لم يستطع غرور الرئيس الروسي أن يدفع عنه حقائق الأرقام. عام 2015 تراجع الاقتصاد الروسي بنسبة 3.7 بالمئة، فيما تقديرات هذا العام تستشرف الاستمرار السلبي في معدلات النمو. وصلت معدلات التضخم إلى 15.4 بالمئة، وهو ما أدى إلى اقتطاع 5 بالمئة من ميزانية وزارة الدفاع لهذا العام. أعلن بوتين، بزهو، أن العمليات العسكرية لا تكلّف الخزينة الروسية، بل هي جزء من ميزانية التدريب في الجيش الروسي. بيد أن صحف موسكو (أر بي كي) تكشف أن كلفة الجهد العسكري الروسي في روسيا تصل إلى 2.5 مليون دولار يوميا، بما لا تحتمله ميزانية التدريب المزعومة، ولا حتى اقتصاد روسيا الكلي الذي فقد رشاقته منذ تدهور أسعار النفط في العالم.
على أن سلوك فلاديمير بوتين في الذهاب، وأكثر في الإياب، لا يشبه سلوك الدول الكبرى في قراراتها الأولى. لا منطق في قرار بوتين النزق يتّسق مع الحنكة الدبلوماسية الدؤوبة التي يمارسها وزير خارجيته سيرجي لافروف، ولا منطق يتّسق مع اقتراح موسكو للفيدرالية حلا لسوريا قبل أيام، ولا منطق يتّسق مع “عجائبية” الهدنة في سوريا و”جدية” المفاوضات في جنيف. أيعقل أن زعيم الكرملين يمارس حرداً ضد دمشق التي حرّمت الكلام في الرئاسيات من دمشق (وليد المعلم)، وحرّمت الكلام في الهيئة الانتقالية في جنيف (بشار الجعفري)؟ ثم هل ما يزال لدمشق أن تقرر ما لم تُستشر فيه، أولم تكن رسائل فيتالي تشوركين، سفير موسكو في الأمم المتحدة، كافية لردع الحاكم في دمشق؟
من نفاق هذا العالم الإجماع الذي صدر تعليقا على قرار الانسحاب الروسي في اعتبار ذلك إيجابيا. حتى دمشق وطهران اللتان استبشرتا نصرا مبينا من خلال التدخل العسكري الروسي، اعتبرتا الأمر قرارا جيدا، موحيتين بأنه تمّ بالتنسيق الكامل معهما. الأوروبيون والأميركيون أشادوا بقرار موسكو، رغم اعترافهم بأنهم فوجئوا به، بما يشي ألا خطة “ب” لديهم. في ذلك فإن المراقبين يتساءلون عن مآلات العملية التفاوضية، كما عن مآلات الهدنة التي، ولئن اعتبرت “عجائبية” تحت وهج النيران الروسية الكامنة، فإن استمرارها بغياب ذلك الوهج، وفق ما يفرضه منطق الانسحاب الجزئي، سيحتاج إلى معجزات ربانية.
يمكن اعتبار أن روسيا أحدثت أمرا واقعا ميدانيا ودبلوماسيا بمواكبة دولية والتزام إقليمي لم يخترق التوافقات، وألا شيء يوحي بأنه من المسموح العبث بها. بمعنى آخر، لن يُحدث القرار الروسي فراغا يستدرج الطامحين لملئه. وربما في دعوة تركيا فصائل المعارضة المسلحة إلى التوحدة، ما يلبي حاجة معنوية تركية في موسم التوتر مع موسكو ورواج الميول الانفصالية للأكراد في سوريا، أكثر من كونه عزما على قلب الطاولة في سوريا.
الصحافة في روسيا تتحدث عن “انتصار” ولم يكن متوقعا التحدث بغير ذلك. انتصار أن بوتين تجنّب الغرق في المستنقع السوري (كومرسانت)، وانتصار لأن الحملة كانت تهدف أساسا إلى التقارب مع الغرب وإطلاق عملية سلام (فيدوموستي)، وانتصار لأن الانسحاب يعني أن الجيش السوري بات قادرا على مواجهة داعش (ايزفستيا)، وانتصار لأن موسكو لم تكن تسعى لإنقاذ نظام الأسد بل الخروج من العزلة الدولية (إذاعة بزنس أف أم). وباستطاعة الكيميائيين الروس أن يذهبوا أكثر فأكثر في استنباط معادلات الانتصار لبيعها للرأي العام الداخلي مبررا لحملة بوتين في سوريا.
يحتاج النظام السوري للدور الروسي الكامل صيانة لما حققه ميدانيا برعاية موسكو، ودفاعا عما كاد يسقط حين كان الدعم يأتي من إيران وميليشياتها الشيعية. توقفت دمشق عن إرسال مبعوثيها لطهران منذ أن أصبح القرار السوري روسيا، لكنها سارعت إلى إرسال نائب وزير خارجيتها فيصل المقداد إلى العاصمة الإيرانية تحريا لرعاية تعوّضها رعاية موسكو بالطبعة التي فرضتها النيران الروسية. تحتاج أوروبا والولايات المتحدة للدور الروسي لوقف تدفّق اللاجئين إلى قلب العالم الغربي، مع ما أحدثه ذلك من زلازل سياسية واجتماعية واقتصادية. تحتاج الدول الإقليمية إلى الدور الروسي الذي خبرته واعتادت عليه وامتهنت التموضع حوله، رغم تناقضها معه. وتحتاج إسرائيل إلى بقاء إدارة الصراع السوري في اليد الروسية التي أظهرت رعاية لمصالح تل أبيب وتفهما لهواجس الأمن في إسرائيل.
وفق تلك الحاجة، وبناء على الورقة المفاجئة التي أخرجها على طاولة اللعب، ينتظر بوتين حصد ما استثمره وما أنجزه. فالرجل مغامر عتيق وليس مقامرا أهوج. وكما راقب بوتين العالم بسادية بعد إعلانه المفاجئ، فإنه سيراقب مدى تطابق حسابات البيدر مع حسابات الحقل منذ أن أمر طائراته ببدء عملياتها في سوريا قبل أشهر.