محمد علي مقلد: السعودية وإيران/خالد الدخيل: السعودية ولبنان: انتهى زمن الضبابية والتكاذب

253

السعودية وإيران
محمد علي مقلد/المدن/السبت 27/02/2016

كنت في الستين، حين أغاظني، في إحدى محاضراتي الجامعية، طالب متحزب متعصب، وأخرجني من صوابي، فقفزت عن المنصة وأمسكته من رقبته وأخرجته من القاعة عنوة بعد أن امتنع عن الخروج طوعاً، وكلفني ذلك اعتذاراً من طلابي. كلما ذكرت الحادثة أبرر لنفسي سورة الغضب، وما أكثر الأحداث والأقوال والتعليقات والتصريحات التي تشبه ذلك المراهق السياسي المبتدئ، والتي يحفزني كل منها لأمسك برقبة صاحبها. لكن! في حالتنا الراهنة، ليسوا هم المهددين بالخروج من قاعات التعبير عن الرأي.كان موضوع المحاضرة عن المدى الجغرافي السياسي لتأثير الحضارات وانتشار وهجها. والأمثلة من تاريخنا القديم كثيرة، الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والعربية، ومن التاريخ الحديث الحضارة الرأسمالية التي تجاوزت سابقاتها وبلغ مدى انتشارها الكون كله بأرضه وفضائه وأعماق محيطاته. كل ذلك متوقف على ما تقدمه الحضارة من إنجازات وإبداعات وما تتركه من آثار. يشذ عن ذلك ما يحسب من باب الغزو والاحتلال للنهب، باعتباره باباً من أبواب الرزق وتحصيل الثروة ومن باب السيطرة والطغيان.أعجب الطلاب بالفكرة وراحوا يطبقونها على ما يعرفونه أو يعاينونه أو يقرأون عنه في كتب التاريخ، واستوقفتهم أمثلة شاذة كالاحتلال الصهيوني والجشع الأميركي، وأمثلة براقة كالعرب في الأندلس أو اليونان والرومان وما تركوه من آثار ضخمة في بلادنا. بيد أن بعضهم راح يغمز من قناة التدخل السوري والايراني في لبنان.كنت أنصح طلابي بعدم الخلط بين السياسة والعلم، لأن السياسة انحياز وتعصب، بينما ينشد العلم الموضوعية . إذن هما على طرفي نقيض، ولا يمكن للمتحزب أن يكون باحثاً، لأن تعصبه لأفكاره يمنعه من رؤية الحقيقة خارج قوالبه الجاهزة. ذلك الطالب المتعصب لم يرض بأن يطبق على التدخل الإيراني ما ينطبق على سواه من التدخلات، اعتقاداً يقينياً منه بأن إيران فوق الشبهات وأنها خارج قوانين التاريخ. لم يغضبني رأيه، فقد كنت أقدم الدليل لطلابي على كيفية احترام الرأي الآخر. لكنه أخرجني عن طوري حين لم يترك لأصحاب الرأي المختلف، من زملائه الطلاب، في قاعة تغص بأكثر من مئتي طالب، فرصة للتعبير عن وجهة نظرهم. وكان ما كان. وقد شكلت تلك الحادثة دليلاً إضافياً، في نظري، على أن بعض كليات الجامعة اللبنانية لم تعد محلاً لتحصيل العلم.

تسيطر اليوم على جامعاتنا وصحفنا وتلفزيوناتنا أعداد كبيرة من شبه هذا الطالب المتعصب. إيران والمملكة السعودية ليستا مسؤولتين عن نزق اللبنانيين الكثيرين ورعونتهم. إيران والسعودية كلاهما على حق، كل منهما يعمل لما يرى فيه مصلحة لبلاده، بمعزل عن رأينا بتلك المصالح. كل منهما يمسك طرف حضارة مزعومة أو موهومة، ويحاول أن ينشر وهجها على بقعة متخيلة. بعض اللبنانيين مسؤول عن ابتياع الأوهام وعن تحويل الاعجاب إلى تبعية والتبعية إلى عمالة. وبعضهم مسؤول عن بيع سيادة بلاده بأرخص الأثمان.

تخيلوا لو أن الأميركيين انقسموا بين موالٍ لروسيا ومعارض، أو لو أن الفرنسيين أو البريطانيين انقسموا في مواجهة قوة خارجية. تخيلوا لو أن نصف اليابانيين هللوا لقصف بلادهم بالقنابل النووية. نعم إنهم لبنانيون، استدرجوا الخارج واستخدموا سلاحه وأطلقوا منه النار على أبناء وطنهم. إستسهلوا أن يتوزعوا على جبهات الحروب الخارجية، وأن يكونوا وقوداً لها، وأن يكونوا مطية لمشاريع سواهم.نعم، إنهم لبنانيون، أقلية من شعب، لكنها أقلية حاكمة. اللبنانيون، كشعب، مفخرة شعوب الكرة الأرضية، برعوا منذ أصولهم الفينيقية حتى آخر الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال والفنانين المنتشرين في أربع أرجاء الأرض. اللبنانيون، كشعب، انتصروا على الغزاة الصهاينة وأخرجوهم ودحروهم، وانتصروا على نظام الوصاية السوري وأخرجوه ذليلاً. السياسيون هم الذين يقطفون ثمرة النصر ويبتاعون بثمنها انصياعاً لأول أجنبي يصادفونه على الحدود أو يبحثون عنه في خزائن المال أو على خرائط الأوهام السياسية.

لم يعرف لبنان، قبل أن يصير وطناً ولا بعد أن صار، ساسة بصغارة الممسكين بزمام الأمور اليوم، القابضين على حروف الأبجدية السياسية، سين سين وسين ألف وألف راء وكل الحروف الحسنى ، الذين يتمنون لو يشطبوا حرف اللام حتى لا يجد الوطن حرفاً يستهل به اسمه.

نصف بلادنا مع السعودية وتوافدوا للاعتذار بمذلة عن خطأ لم يرتكبوه، ونصفهم المرتكب مع إيران شتّام لخصومه وخصومها. إيران والسعودية على حق، لأن لكل منهما أوهامه. إحداهما تريد أن تحيي من التاريخ عظام حروب دينية بائدة، والثانية تبذل الغالي والنفيس لتتفادى كأس ربيع آت كالقدر ليفتح الباب واسعاً أمام تداول السلطة وقلب صفحة الاستبداد وأنظمة “إلى الأبد”.هي دول وأنظمة تسعى إلى ما ترى فيه مصالحها السياسية أو الدنيوية أوالدينية، أما سياسيو لبنان فهم وحدهم الذين يعملون لمصلحة سواهم. أنهم هم الدلّال الذي يجعل سيادة الوطن سلعة للبيع.

 

 

السعودية ولبنان: انتهى زمن الضبابية والتكاذب
خالد الدخيل/لحياة/28 شباط/16

فوجئ اللبنانيون وغيرهم، وربما أخذتهم الدهشة، كما يبدو، على حين غرة بقرار السعودية وقف إعانة الجيش والمؤسسة الأمنية، ومراجعة علاقتها مع مؤسسة لبنان السياسية. لماذا لجأت إلى هذه الخطوة، يتساءل البعض؟

لا تمكن الإجابة على السؤال من دون الرجوع إلى ما حصل في مدينة الطائف السعودية عام 1989. لا أقصد طبعا الاتفاق اللبناني الذي ولد في تلك المدينة برعاية سعودية- سورية ووضع حداً للحرب الأهلية وأعاد صياغة دستور هذا البلد، إنما أقصد ما حصل على هامش هذا الاتفاق. حينها، وبعد أن انتهى المؤتمرون من صياغة مسودة الدستور، اتفقوا على ضرورة نزع سلاح جميع الميليشيات لضمان نهاية الحرب. في هذا السياق طرح اقتراح باستثناء «حزب الله» من هذا المطلب. والأرجح أنه اقتراح جاء من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. برز سؤال: لماذا حزب الله؟ فقيل لأن الجنوب اللبناني كان حينها تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فهناك حاجة مشروعة للمقاومة.عندها وافق الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز على المقترح، واعتبره استكمالا لما تم إنجازه، وهكذا كان. لماذا من المهم التوقف الآن عند ما كان يبدو حينها هامشاً على متن إنجاز كبير؟ موافقة السعودية عام 1989 على استثناء الحزب يعني أن السعودية كانت مع حق لبنان في المقاومة، وهذا طبيعي، وأنه لم يكن لديها في الأصل موقف ضد هذا الحزب. لكنه يعني ما هو أهم من ذلك، وهو أن السعودية بالموافقة على الاستثناء وفرت مع سورية الأسد الأب، غطاء عربياً كبيراً لتسليح الحزب مع معرفتها بعلاقته بإيران، وأن هذه الأخيرة هي مصدر تسليحه.

كشف مسار الأحداث منذ 1989 أن الاستثناء تجاهل خطورة أن حزب الله حزب ديني لا يمثل إلا طائفة واحدة من المكون اللبناني، وأن الغطاء الذي وفرته السعودية كان في الواقع لسياسات تستهدف الدول العربية في قوامها وأمنها واستقرارها، وحتى في هويتها. ثم تكشف بشكل تدرجي عن أن حزب الله ليس حركة مقاومة بأي معنى، وإنما ذراع لإيران، دوره طائفي يتجاوز حدود لبنان، امتدت نشاطاته إلى سورية والعراق والبحرين واليمن حتى قبل الربيع العربي. ما فعله هذا الربيع أنه فضح مستور دور الحزب الذي كان يختبئ خلف ضبابية التكاذب السياسي اللبناني والعربي، ولذلك فوجئت السعودية بأن الحزب الذي وفرت الغطاء لتسليحه ضداً من الرغبة الأميركية، بل وحتى المصرية حينها، يتآمر عليها وعلى حدودها الشرقية في البحرين، وحدودها الشمالية في العراق، وحدودها الجنوبية في اليمن.

قد يقال إنه ليس من العدل إنكار صفة المقاومة عن الحزب، وقد كان دوره مركزياً في تحرير جنوب لبنان، وهذا صحيح، لكن توقف أمام ذلك قليلاً… الحزب، كما أرادت له إيران، لم يعمل على تحرير الجنوب من أجل لبنان، وإنما ليكون منطلقا لثمن يتجاوز لبنان. نظرياً، الأمين العام للحزب حسن نصرالله، يقول ذلك بنفسه عندما يؤكد مراراً وتكراراً إنه يعمل تحت «راية ولاية الفقيه» وليس تحت راية لبنانية، وأنه فخور بذلك. أي أن الحزب يعمل تحت راية ليست لبنانية ولا عربية، ولا حتى إسلامية، ما يجعل منه عميلاً لدولة أجنبية ضداً من عروبة بلده وأمته. وعملياً، منذ 2006 وسلاح الحزب ليس موجهاً ضد إسرائيل، بل ضد اللبنانيين والعراقيين والسوريين، ودائما ضمن إستراتيجية إيرانية. يردد حسن نصر الله أن حزبه يحارب التكفيريين في سورية، على أساس أنه وحزبه ليسوا تكفيريين، وهذا لا يستقيم، من ناحية أن فكرة المقاومة التي يتظلل بها الحزب لا تتعايش أبداً مع فكرة الطائفية. ثانياً أن الحزب متمسك بهويته وتحالفاته الطائفية محلياً وإقليمياً، وبمرجعية طائفية على المستويين السياسي والعقدي خارج لبنان والعالم العربي.الغريب أن نصرالله يردد ذلك في كل خطبه، وفي الوقت ذاته يتمسك بديباجة واحدة ثابتة في كل هذه الخطب تقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين». يقول صاحب اللسان «والمنتجب، المختار من كل شيء. وقد انتجب فلان فلاناً إذا استخلصه واصطفاه اختيارا على غيره». أي أن نصرالله يصلي في هذه الديباجة على جميع آل النبي، وجميع الأنبياء والمرسلين. لكنه لا يصلي إلا على «الأخيار والمنتجبين» من صحابة النبي. واختيار نصرالله هنا نابع من قناعة دينية لديه بأن بقية الصحابة لا يستحقون الصلاة عليهم. وهذا موقف تكفيري مستتر، يختلف عن موقف أبي بكر البغدادي الذي يكفر مخالفيه علناً ومباشرة.

عام 1989 كان حزب الله حزباً محلياً لا أحد يعرف عنه شيئاً. لم يخطر ببال أحد آنذاك أن فكرة الاستثناء كانت فخاً سياسياً، وأن حكاية المقاومة غطاء لإعادة بعث الطائفية وتحويلها إلى عملية سياسية داخل الدول العربية، تهيئة لزرع فكرة الميليشيا في هذه الدول. لكن هذا ما حصل على أرض الواقع. من هنا ينطلق الموقف السعودي الأخير من لبنان من هذه الزاوية، لاستدراك ما حصل. وهو موقف ينتظم في سياسة تستهدف ظاهرة الميليشيا بشقيها السني والشيعي، لوضع حد، لها بما تمثله من خطر ماحق على الدولة في العالم العربي. لقد صدمت السعودية بأن الحزب الذي وفرت الغطاء العربي لتسليحه يرتد عليها ضمن سياسة إيرانية، ويوظف سلاحه لاستهدافها في البحرين واليمن وسورية والعراق. أخطأت السعودية في حق نفسها وأمتها من أجل المقاومة، وكذب الحزب في ادعاء المقاومة من أجل الطائفة والاصطفاف الطائفي. من هنا لا تريد السعودية للبنان أن يقع في الخطأ ذاته وأن ينتهي به الأمر إلى ما انتهى إليه العراق من هيمنة للميليشيا على الدولة، ثم هيمنة إيرانية من خلال الميليشيا.

وهو ما يقودنا إلى بيان وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل، الذي ذكر فيه نقاطاً كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، من بينها تأكيده على أنّه «بين الإجماع العربي والوحدة الوطنية ننحاز إلى الوحدة الوطنية». سيكون هذا صحيحاً لو أن هناك وحدة وطنية لبنانية بالفعل، وهو ما تتمناه السعودية. حزب الله لبناني من حيث الجنسية، لكنه إيراني في ولائه، كما يقول الأمين العام للحزب، وفي مواقفه وسلوكياته وأهدافه. ما هو موقف وزارة الخارجية من تورط الحزب في عمليات تستهدف السعودية ودول عربية أخرى؟ هل نسمع منه موقفاً عن هذا قريباً؟ أم أن الوحدة الوطنية لا تسمح بطرح هذا السؤال؟ يقول معالي الوزير بعد ذلك إنّ «الإجحاف الذي نتعرض له، هو ثمن ندفعه لتكريس سياسة استقلالية تحييدية للبنان». أين هو الإجحاف؟ وأين هو الاستقلال وأقوى مكونات النظام السياسي اللبناني يتمول ويتسلح من دولة أجنبية مرتهن لأجندتها؟ ثم أين هو الحياد والنأي بالنفس وهذا المكون يقاتل في سورية بتغطية من وزارة الخارجية، بل من مجلس الوزراء. معالي الوزير يراعي ميليشيا لبنانية مرتهنة لدولة غير عربية على حساب دولة عربية، ويسمي ذلك حياداً واستقلالاً. هذا الالتباس -أو التكاذب- بين الدولة والميليشيا، وبين الاستقلال والنفوذ الأجنبي من خلال الميليشيا، هو ما تنتظر السعودية، بل كل الدول العربية أن يتم تجاوزه في لبنان. تكرس هذا الالتباس على هامش اتفاق الطائف، وقد حان وقت تصحيح ذلك الخطأ الجسيم. ولن تقبل السعودية بأقل من ذلك. كان خطأ بسبب ضبابية السياسات العربية وتكاذبها، والآن لا بديل من الخروج من هذه الضبابية، ومن وقف التكاذب. حزب الله بالنسبة إلى السعودية بصيغته ودوره ميليشيا إرهابية لا تختلف عن داعش. أحدهما يرفع شعار الخلافة، والآخر يرفع شعار ولاية الفقيه، وكلاهما يمارس الإرهاب والقتل من منطلق طائفي، ويستهدف الدول العربية في هويتها ووجودها. من الجائز عقلاً أن يحدث الخطأ، لكن من الخطل العقلي التمسك به، لأنه يصبح مع الوقت انتحاراً.