أمير طاهري: كثرة الملالي وتراجع الدين/وليد شقير: توتر إيران إزاء أي مبادرة عربية/راغدة درغام: موسكو للعرب: إيران أول حلفائنا

284

كثرة الملالي وتراجع الدين
أمير طاهري/الشرق الأوسط/19 شباط/16

في افتراضاته حول تحولات الرأسمالية، تصور كارل ماركس مرحلة يتجه النظام فيها صوب الطلاق الكامل ما بين الإنتاج والأرباح. بعبارة أخرى، أنك تجني الأرباح من دون إنتاج أي شيء على الإطلاق. وبمعنى من المعاني، فإن ذلك قد حدث بالفعل. فاليوم، على سبيل المثال، القيمة السوقية لعلامة «نايكي» التجارية هي أعلى بكثير من قيمة كل المصانع التي تنتج بضائع الشركة في جميع أنحاء العالم. فهل يمكن للمعادلة التي سحبها ماركس على رأس المال أن تنسحب مرة أخرى على العمل؟ بعبارة أخرى أيضا: كيف تكون الحال عند كسب كثير من الأموال من دون إنتاج أي سلع؟ ينتقل شرف اختراع هذه النسخة من النبوءة إلى الإيرانيين.. حسنا، إلى بعض من الإيرانيين على أفضل تقدير. لأكثر من عشر سنوات لم يكن الاقتصاد الإيراني قادرًا على خلق فرص العمل الكافية لموازنة الانفجار السكاني لفترة الثمانينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من مستويات الهجرة العالية فإن النتيجة الملموسة كانت ارتفاعًا كبيرًا في معدلات البطالة، التي يبلغ متوسطها الحالي 13 في المائة. وبالنسبة إلى شريحة (16 – 25) العمرية من المواطنين الإيرانيين، تقترب نسبة البطالة من 20 في المائة، حتى تحولت البطالة إلى ما يشبه الخلفية الدرامية لكل مجال من مجالات الحياة الإيرانية المعاصرة، من الزراعة إلى التصنيع، مرورا بقطاع الخدمات العامة.
وهناك قطاع، رغم ذلك، وبعيدًا عن تعرضه للتدمير الممنهج لفرص العمل، قد شهد طفرة في خلق مزيد من الوظائف. وذلك القطاع هو الصناعة الدينية، وهي الماكينة الخفية التي تنتج الملا تلو الملا من الطامحين في اللقب والرتبة الدينية الرفيعة.
وآخر التقديرات تشير إلى أن عدد رجال الدين، ونعني بهم الملالي الحاليين والطامحين منهم (أي الطلاب) من مختلف الفئات، يقترب من 500 ألف ملا، مما يعني، ومن حيث الأرقام فقط، أن الهيئة الدينية الإيرانية تفوق في عددها تعداد قوات الحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج (تعبئة المحرومين) مجتمعين.
ويعد وزن الأرقام تقديرًا أفضل عندما نتذكر أن الصناعة النفطية، التي تمثل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و40 في المائة من الميزانية الوطنية، لا يعمل فيها إلا ثمانون ألف موظف فقط. كما أن مقارنة ذلك الرقم مع عدد الأطباء العاملين في إيران، ويبلغ عددهم 18 ألف طبيب، وفقًا لوزير الصحة الإيراني الدكتور محسن هاشمي، تكشف عن كثير من المعاني. ويقول الدكتور هاشمي إن البلاد في حاجة إلى عشرة آلاف طبيب جديد لتجسير الفجوة الناجمة عن الأطباء الذين غادروا البلاد إلى المنفى. وبسبب ذلك فإن كثيرًا من الشباب الإيراني الصغير الذي يقرر الانضمام إلى فئة رجال الدين، وتأمين مكان له في قطار السلطة المرموق وبأقصر الطرق وأوجزها، لا يعد من قبيل المفاجأة بحال. في كل نظام حاكم، فإن المكون المهيمن على السلطة يجتذب مثل هذه الطاقات على الدوام. وفي الأرجنتين، على سبيل المثال، كان الحكم العسكري الممتد لعقود طويلة قد أدى إلى تضخم الجيش الوطني، إلى درجة أن عدد الجنرالات والعمداء في الجيش يكفي عشر دول مجتمعة.
كما أن هناك، مع ذلك، مجموعة من المشكلات تتعلق بالوضع الإيراني.
والمشكلة الأولى تكمن في أن إجراءات انضمام الناس إلى رجال الدين تتسم بكثير من الفوضى، على أقل تقدير.
وفئة رجال الدين الشيعة التقليديين تطبق قواعد صارمة ونظامًا معقدًا لترشيح واختيار أولئك الذين يرغبون في الانضمام إلى صفوفها.
ومن الطبيعي، فإن الطالب الطامح في ذلك سوف يبدأ بدراسة العلوم الدينية في سن السادسة أو السابعة، ويستمر في ذلك لمدة عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة متوالية، قبل انتقاله وقبوله في دراسة المناهج التي يشرف عليها رجل دين شيعي كبير.
ويخرج، خلال هذه العملية، ثلثا المتقدمين أو يتجهون نحو مهن أخرى غير رجل الدين. أما الباقون فسوف يواجهون عشرين عامًا أخرى من الدراسة الصارمة، قبل أن يطأوا بأقدامهم أعتاب الدرجات الوسطى من السلم الديني، ويحصلوا على لقب حجة الإسلام. والحصول على لقب آية الله قد يستغرق أربعين عامًا من الدراسة المتواصلة، وبالتالي فإن لقب آية الله العظمى لن يكون محفوظًا إلا لحفنة قليلة من رجال الدين في جيل من الأجيال.
وحتى ذلك الحين، لم يشعر العلماء بالراحة أبدًا مع مثل هذه الألقاب الدينية. على سبيل المثال، في أربعينات القرن الماضي، كان سيد كاظم العصار، أحد أعظم علماء جيله من الشيعة، كان يسخر من أولئك الذين يستخدمون لقب «حجة الإسلام» ناهيكم بلقب «آية الله». وأشار إلى أن مجمل التاريخ الإسلامي وحتى عام 1920 لم يكن به إلا عالم واحد يحمل لقب «حجة الإسلام»، وهو الفيلسوف اللاهوتي محمد الغزالي المتوفى عام 1111م.
واليوم، رغم ذلك، فإن الرحلة نحو لقب «حجة الإسلام» أو حتى لقب «آية الله» و«آية الله العظمى» قد تستغرق بضعة أشهر، إن لم تكن أسابيع على أكثر تقدير.
وفي عام 1978، كان علي أكبر بهرماني، والملقب باسم هاشمي رفسنجاني، يعمل مقاولاً للبناء في جنوب شرقي إيران ومن دون أي طموحات دينية تُذكر.
وبحلول عام 1978، عندما كانت الثورة الخمينية في أوج اشتعالها، ارتدى الرجل زي رجال الدين، وأوعز إلى رفاقه بأن يلقبوه باسم حجة الإسلام. بعد ذلك، وفي وقت ما من فترة التسعينات، بدأ أصدقاؤه في وصفه باسم آية الله، وفي عام 2007 رقى نفسه بنفسه إلى مرتبة «آية الله العظمى».
أما حفيد الخميني البالغ من العمر 42 عامًا، فقد فعل ما هو أفضل من ذلك. ففي عام 2012 كان مجرد طالب يدرس علوم الدين أثناء إدارته أعمال العائلة التجارية الكبرى، بما في ذلك ضريح آية الله الخميني المهيب في طهران. وفي عام 2014 تحول إلى حجة الإسلام لدى حاشيته وشركائه في الأعمال. وفي عام 2015، كان الملصق الذي يعلن عن رحلته إلى غولستان، وهي المحافظة الشمالية الشرقية من البلاد، يسوّق لرتبته الدينية الجديدة، ألا وهي آية الله. وبحلول عام 2016، كان المروّج الرئيسي له، رفسنجاني، يشير إليه بوصف «العلامة» (أي الرجل الذي يعرف كل شيء)، وهو اللقب الذي لم يمنح إلا لرجل دين واحد خلال مائتي عام مضت، وهو العلامة الطباطبائي.
ومن المؤكد أن الناس أحرار في اتخاذ ما يروق لهم من ألقاب وأسماء، بما في ذلك الدكتور وآية الله العظمى، ما دام أنهم لا يستخدمون هذه الألقاب غير المكتسبة باعتبارها وسيلة لتأمين منافع أو مزايا نقدية أو عينية من الخزانة العامة.
إذا تلقى الملالي التمويل من القطاع الخاص، أي من خلال آليات السوق مثل غيرهم من المشاهير من لاعبي كرة القدم أو نجوم السينما، فلن يكون هناك أساس للشكوى، وسوف يكونون جزءًا من الصناعة الترفيهية، حيث يبيعون شيئًا يريد شخص ما ابتياعه بأمواله الخاصة.
ولكن المشكلة في هذه الحالة إذا صرفنا أبصارنا عن بضعة آلاف من رجال الدين التقليديين الذين لا يزالون متمسكين بالأساليب القديمة، فإن أغلب نصف المليون ملا إيراني يتكسبون أموالاً جيدة جدًا من الخزانة العامة للدولة، ولا ينتجون شيئًا في المقابل.
وهم لا يخضعون لأي فحص أو مراجعة من أي شكل، ناهيكم بإجراءات الترخيص نفسها. إذا ما أردت قيادة سيارة للأجرة في تبريز يتعين عليك المرور عبر سلسلة عقيمة من الأطواق البيروقراطية. لكن إذا رغبت في أن تكون حجة الإسلام فكل ما تحتاجه هو لحية مطولة، وخياط جيد، ومهارة ربط العمامة.
والأسوأ من ذلك، أنهم لا يقومون حتى بمهمة رجل الدين التي تفرض عليهم دراسة الدين وتعليمه للناس وتلقينهم مختلف القيم والأخلاق.
فأغلب الملالي في إيران يقطعون أوقاتهم في الظهور على شاشات التلفاز، والخروج بتصريحات سياسية مختلفة تتعلق بالبلاد وبالخارج، أو لعلهم يعملون مثل وسطاء من ذوي النفوذ في الصفقات التجارية. فليس لديهم، تبعًا لذلك، إلا القليل من الوقت لأجل الدين.
ليس لديّ من اعتراض على الشباب الطموح الذين يسعى وراء المسار السريع للسلطة والثروة، لكن اهتمامي منصب على أنهم يفعلون ذلك على حساب الناس، ويقللون من قيمة الإيمان ويجعلونه عرضة للسخرية والمهانة.
في الشهر الماضي، أعرب رفسنجاني نفسه عن تراجع الإسلام في داخل الجمهورية الإسلامية. ولا عجب في ذلك. فكثير من الملالي يعني القليل من الدين.

توتر إيران إزاء أي مبادرة عربية
وليد شقير/الحياة/19 شباط/16
تعيب طهران وحلفاؤها على المملكة العربية السعودية، ان إعلانها الاستعداد لإرسال قوات برية لمحاربة «داعش» في سورية، في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وتعتبر أن هدف الإعلان السعودي أن «يكون لها موطئ قدم في سورية»، كما قال الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه قبل 4 أيام. لا حرج لدى القيادة الإيرانية في أن تهدد الرياض رداً على مبادرتها هذه آخذة عليها السعي الى دور في بلاد الشام، سواء في قتال «داعش»، أم في الحل السياسي للأزمة السورية، فيما هي، الجهة غير العربية، تصادر حق التدخل وتصعيد الحرب وانتهاك سيادة دول عربية والسعي الى قلب موازين قوى داخلية وتنصيب أتباع وتقويض مقومات الدولة ومؤسساتها في هذه الدول، تحت شعار «المقاومة»، وبحجة محاربة الإرهاب. ولا حرج أيضاً لدى طهران في ادعائها محاربة «داعش»، فيما المعارك التي تخوضها، وفق مواقفها المعلنة، تهدف الى حماية بشار الأسد من السقوط أمام الفصائل المعارضة المسلحة المتحاربة هي الأخرى مع «داعش»، من ريف دمشق ومحيطها، الى درعا جنوباً وريف حلب شمالاً، تاركة مع الميليشيات التي استقدمتها، مناطق سيطرة «داعش» لحالها حيث يعبث التنظيم المتوحش بحياة السوريين مثلما تفعل هذه الميليشيات في سائر المناطق التي تدخلت فيها. تحت ستار احتكار محاربة مزعومة لـ «داعش»، يكمل التدخل الإيراني مصادرة قرار الشعب السوري بالانعتاق من نظام مستبد، تحكّم برقابه لعقود، ويساهم في تحويل الصراع الدائر الى حرب أهلية طاحنة تدمّر الدولة والنسيج الاجتماعي والديموغرافي لمصلحة دور طهران الإقليمي. فالنفوذ الذي يتغنى به الرئيس الإيراني حسن روحاني حين قال أثناء جولته الأوروبية الأخيرة إن «أميركا لا تستطيع تسوية أي مشكلة في المنطقة من دون نفوذ إيران أو كلمتها»، بلغ حد مصادرة قرار النظام السوري نفسه، هو هذا «النفوذ» الذي استدعى التدخل الروسي الصيف الماضي بالنيابة عن بشار الأسد، حين كادت المعارضة (غير الداعشية) تسيطر على مناطق عدة تزيل ورقة التين التي تتستر بها طهران للإبقاء على وجودها المباشر في بلاد الشام. وهو النفوذ نفسه الذي صعّد الكراهية بين السوريين ورفع درجة الاستنفار المذهبي، وأدى الى المزيد من الدمار والتهجير وقتل المدنيين بلا رحمة، بمساعدة فلاديمير بوتين. أليس هذا النفوذ، هو الذي صنع «داعش» في العراق واستقدمها الى سورية فبات عنوان مقاتلتها غطاء للفتك بالشعب السوري؟
تزداد طهران وحلفاؤها توتراً كلما فاجأتها السياسة السعودية الجديدة بالانخراط في الصراع على النفوذ والأدوار في المنطقة، بخطوات أو مبادرات جديدة. هكذا ارتفعت لهجة التهديدات للرياض من الجانب الإيراني إثر القرار السعودي مواجهة ذراعهما الحوثية في اليمن، بعدما كان السيد نصرالله وجه انتقادات شديدة للخليجيين، وبعدما عاب عليهم أنهم هم الذين «تركوا الساحة فملأت إيران الفراغ»… فالجموح الإيراني ما زال يتكل على مرحلة العقود السابقة من الانكفاء العربي حيال سعي طهران إلى الامتداد في الإقليم. وأصحاب الجموح هذا قامت حساباتهم على هذا الانكفاء، وما زالوا يرفضون التسليم بتحوله الى انخراط فعلي واستعداد لدفع أثمان المشاركة في الحروب والقتال مع ما تتطلبه من تضحيات بدل الاستغراق في حال الرخاء وتفادي الانغماس في التحديات. الذروة الجديدة للتوتر الإيراني مع الاستعداد السعودي للمشاركة في قوات على الأرض لمحاربة «داعش»، مع أنها مشروطة بموافقة التحالف الدولي، وأمامها صعوبات يقع على عاتق الرياض تذليلها بالاشتراك مع واشنطن وتركيا، تعود الى تصدّر الدولة «السنية» الأبرز محاربة التطرف السنّي الذي أخذ يمس الاستقرار داخل المملكة. وهو تطور يأتي في سياق الاستعاضة عن التلكؤ الأميركي في خوض غمار هذه الحرب على الأرض، ويسقط حجة واشنطن بأن على الدول السنية أن تأخذ دورها في هذه الحرب. ولم يجد السيد نصرالله للتعمية على هذا التطور الجوهري، سوى السعي الى لصق تهمة «قبول الصداقة مع إسرائيل» ببعض السنة، لمجرد أن مسؤولاً إسرائيلياً سابقاً تحدث عن آماله في هذا المجال. حققت طهران طموحات وتقدماً على الأرض في سورية، في الآونة الأخيرة لكنها في كل مرة تعمل على قطف ثمارها السياسية تجد ما يعاكس النفوذ الذي تحدث عنه روحاني، وما بشر به نصرالله من «انتصارات» قريبة في اليمن وسورية (منذ 2011) وكل مكان، من دون نتيجة. وهو لذلك يتوعد بأنه سيستمر في الحروب «في العقود الآتية وحتى القرون الآتية»، كما قال، «لتحقيق الانتصارات».

موسكو للعرب: إيران أول حلفائنا
راغدة درغام/الحياة/19 شباط/16
سينعقد المنتدى العربي – الروسي على المستوى الوزاري في موسكو الأسبوع المقبل، في خضّم المعركة على سورية، وسط ارتفاع وتيرة التوتر الروسي – التركي وتضارب الحديث عن قوات برية سعودية وخليجية جاهزة لدخول الساحة السورية. وزير الخارجية الروسي سيكون واضحاً تماماً في رسم الأطر الاستراتيجية للسياسة الروسية في الشرق الأوسط وسيصرّ على جدول أعمال قد لا يرتأي الوزراء العرب أنه يتناسق مع الأولويات العربية. فسيرغي لافروف لن يلطّف خطابه السياسي لمجرد أنه يستضيف المنتدى، ذلك لأن الخطوط العريضة للسياسة الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط، كما وضعها الرئيس فلاديمير بوتين، غير قابلة للأخذ والعطاء من وجهة نظر موسكو. فإذا كان في ذهن الوزراء العرب إحداث تغيير جذري في السياسات الروسية، فسيجدون أمامهم حائظ الممانعة وربما الاستنكار لأن الأمر يتعلق بالمصالح القومية الروسية. المزاج الروسي يتّسم هذه الأيام بالعناد والتصلّب، انما في الديبلوماسية الروسية من يعتقد أن هناك مداخل لتليين العلاقات مع الدول الخليجية بالرغم من تصدّع العلاقات في شأن سورية. ويرى هؤلاء أن بناء علاقات مميزة مع مصر استثمار ضروري للديبلوماسية الروسية وبات جزءاً من أهدافها في الشرق الأوسط. وفي ذهنها أيضاً تركيا. وتصر على مركزية الفوز في معركة حلب مهما كان الثمن. وتستخف بما يسمى «التحالف الدولي» ضد «داعش» في سورية وتكاد تتشدَّق بما تصفه «باللافاعلية». وتنبّه كل من يريد أن يفهمها ويفهم سياستها لمنطقة الشرق الأوسط إلى أن علاقاتها مع إيران لن يشوبها ضرر مهما قيل ومهما حدث.
أمام هذا الوضوح، بمَ يذهب وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي إلى موسكو؟ وهل هناك من أجندة عربية واحدة في المنتدى العربي – الروسي، أم أن الوزراء العرب سيحملون خلافاتهم الى العاصمة الروسية ويغادرونها بلا أي انجاز؟ لعله من المفيد قبيل المنتدى أن يوفق الوزراء العرب بإدراك ما يجول في ذهن الديبلوماسية الروسية أمنياً واستراتيجياً. سورية تشكل نقطة خلاف أساسية، عسكرياً بالذات، في ضوء الإصرار الروسي على حسم معركة حلب لمصلحتها ولمصلحة النظام في دمشق. فوفق المصادر الروسية الوثيقة الاطلاع، لا توقف عن الغارات ولا تردد في أية إجراءات عسكرية برية بالشراكة مع النظام وحلفائه من ميليشيات، الى حين تأمين الفوز بحلب وقطع الطريق على التواصل مع تركيا. هذه الاستراتيجية عسكرية لا تراجع عنها تحت أي ظرف كان، بل ان موسكو ازدادت تمسكاً بها نتيجة رفع تركيا التوقعات بهجوم بري، ما لبثت أن خفضتها بعد أيام. موسكو ترى أن قطع التواصل بين سورية وتركيا يقطع الإمدادات التي تتهم أنقرة بأنها تمدّها الى التنظيمات الإرهابية التي تتعدى «داعش» و «جبهة النصرة» وفق المفهوم والتعريف الروسيين. وترى أن إعادة سيطرة النظام السوري على حلب ترفع معنوياته وتمكّنه من خوض بقية المعركة الروسية ضد التنظيمات الإسلامية التي تصنّفها ارهابية. إذاً، حلب محطة حيوية في الاستراتيجية الروسية ولن تتوقف عن قصفها، لا من أجل «عملية فيينا» السياسية التي ولّدتها روسيا، ولا خوفاً من ردود الفعل الأوروبية أو الأميركية.
التباين واضح بين ردود الفعل الأوروبية الأكثر حدة من الأميركية، أقلّه لأن أوروبا تخشى على نفسها من السياسة الروسية وإفرازاتها بتدفق اللاجئين إليها. الديبلوماسية الروسية تشير الى ما تسميه بالتوافق الروسي – الأميركي على «خطة طريق» في سورية، تغض النظر عن علاقات «الحرب الباردة» بين البلدين في أكثر من محطة، بما فيها الشرق الأوسط. «عملية فيينا» للبرنامج السياسي والزمني لوقف النار والانتخابات تشكل جزءاً من خريطة الطريق كما تراها موسكو. أما عندما يتعلق الأمر بالحرب على «داعش» و «النصرة» وغيرها، فإن لدى الديبلوماسية الروسية مآخذ وأجندا مختلفة. فأولاً، إن المعركة على تعريف من هو إرهابي ومَن هو معارضة سورية مسلحة ليست سوى مسألة ألفاظ. وجهة النظر الروسية الحقيقية هي أن النظام القائم في دمشق برئاسة بشار الأسد هو النظام الشرعي وأن المعارضة المسلحة ليست شرعية لأنها تتحدى النظام الشرعي. وبالتالي، مَن هو إرهابي ومَن هو معارضة ليس سوى جزء من المطاطية الديبلوماسية الضرورية، وليس أمراً جدّياً. ليس جدّياً لأن موسكو ترى كيف تتعامل واشنطن مع المعارضة السورية المسلحة التي تشكك فيها تارة، وتعد بتسليحها تارة، تتشبث بها يوماً وتتملص منها في اليوم التالي.
ثانياً، تنظر الديبلوماسية الروسية الى التعهدات الأميركية بسحق «داعش» في سورية بأنها خالية من الجدية والفاعلية لأن تحقيق ذلك، في اعتقاد موسكو، ليس ممكناً سوى عبر النظام في دمشق وحلفائه على الأرض. وبالتالي، إن الخلاف بين المفهوم الأميركي والمفهوم الروسي لمتطلبات سحق «داعش» مختلفان جذرياً – أحدهما يراه ممكناً عبر التخلص من بشار الأسد لأنه يمثل عقبة أمام الحشد السنّي الضروري لسحق «داعش»، والآخر يراه ممكناً فقط عبر بشار الأسد والميليشيات الداعمة له بغطاء القصف الجوي الروسي. لهذا السبب لا ترحب موسكو بالقوات العربية البرية حتى ولو أتت لسحق «داعش» في الساحة السورية، تحت لواء القيادة الأميركية للتحالف الدولي. إنها متمسكة حتى النهاية بنظام الأسد ولن تقبل بدخول قوات عربية الى سورية في حرب ضد «داعش» لأنها تخشى على مصير الأسد. موسكو لا تأبه باتهامها بأنها تقصف المعارضة وليس «داعش». لا تأبه بالانطباع بأنها لا ترحب بالمعونة العربية في الحرب على «الإرهاب السنّي» المتمثّل في «داعش» وغيره خوفاً من أن يؤدي ذلك الى إسقاط النظام أو إضعاف الأسد.
هناك رأيان حول الانخراط العربي الميداني في سورية، السعودي والإماراتي والمتعدد الجنسية العربية والإسلامية: رأي يقول ان لا مناص من توفير القوات البرية العربية – الإسلامية لتكون «الأقدام على الأرض» التي لن تتقدم بها الولايات المتحدة، وإلا، فإن روسيا وإيران والنظام في دمشق سيربحون المعركة على سورية كلياً وستنقرض المعارضة السورية. الرأي الآخر يقول، ان هذا فخ توريط لا ضرورة للسعودية أو الإمارات أو غيرها أن تقع فيه لأن واشنطن ستورّط وتهجر في منتصف الطريق، كعادتها، ولأنه فات الأوان على أي تغيير في المعادلة السورية بعدما تدخلت روسيا ميدانياً وقررت حسم الموازين العسكرية لمصلحة النظام.
ثم هناك العنصر التركي والعنصر الكردي. واشنطن تؤيد الأكراد وتسلحهم في العراق بصفتهم «الأقدام على الأرض» للتحالف ضد «داعش»، تتعاطف مع الطموحات الكردية انما ليس لدرجة إنشاء دولة كردية مستقلة تجمع كرد العراق وسورية وإيران وتركيا… أقله ليس الآن. وأنقرة تعتبر تحقيق هذا الحلم خطّاً أحمر لأنه يقضم أجزاء كبيرة من تركيا، والرئيس رجب طيب أردوغان عازم على مواجهة التنظيمات الكردية السورية إذ يعتبر بعضها إرهابياً والآخر حليفاً لنظام الأسد في سورية. وروسيا سعيدة بمساهمات الكرد العسكرية لمصلحة النظام في دمشق ولمصلحة استراتيجيتها في سورية، وهي تراهن على أن واشنطن ستضغط على أنقرة لتخفف حدة تهديداتها بالتدخل البري في سورية ملاحقة للأكراد. تراهن على أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) لن ينجرّ ولن يتورط بالرغم من أن تركيا عضو فيه وهناك التزامات بموجب ميثاقه. تراهن على الفتور الأميركي في انتقاد سياساتها في سورية كعامل مؤثر في تخفيف وطأة تصاعد الاحتجاج الأوروبي ضد الدور الروسي والقصف الروسي وسياسات التهجير الى أوروبا والتي يعتقد البعض أن موسكو تتعمدها قصداً وليست مجرد إفرازات طبيعية للعمليات العسكرية.
في كل هذا، تنظر الديبلوماسية الروسية الى الخريطة ذات العلاقة بتركيا في سورية بنظارات العداء المتبادل بين بوتين وأردوغان اللذين يوصفان بالقيصر والسلطان. كما ينظر كل منهما الى نفسه والى طموحاته الشخصية والقومية. انما هناك، بالتأكيد، عناصر تتعدى طبيعة الرجلين وتدخل في خانة التوجهات الأيديولوجية والدينية لكل منهما، إذ يرى بوتين أن صعود الإسلام السياسي السنّي بالذات يشكل خطراً على روسيا، وهو يجد في أردوغان محطة توليد للإسلام السياسي معتدلاً كان أو في غاية التطرف. أما أردوغان، فإنه تصوّر نفسه سلطان الإسلام السياسي لإعادة بسط النفوذ العثماني في كامل المنطقة العربية. استثمر غالياً في سورية وتصرّف بعنجهية، فساهم جذرياً بما آلت اليه الأوضاع من كارثة على سورية وأصبح اليوم في مواجهة مع عنجهية التدخل العسكري الروسي والذي هو عنصر حاسم أيضاً في المأساة السورية.
الفارق أن روسيا تعتبر نفسها منتصرة في المعركة السورية وتعتمد الخطوط الحمر لإنذار تركيا وتحذيرها من المواجهة معها في الأراضي السورية. أما تركيا فإنها تبدو متعثرة واعتباطية وخاسرة أمام روسيا في سورية. تركيا تبدو أيضاً خاسرة في مصر التي جعلت منها أولى محطات توليد صعود الإسلام السياسي الى السلطة عبر «الإخوان المسلمين». فلقد لاقى مشروع «الإخوان المسلمين» حتفه بأسرع مما كان متوقعاً وحل مكانهم في مصر حكم معادٍ كلياً لأحلام أردوغان بإحياء العثمانية. فتلقى فلاديمير بوتين هذه الخسارة ليجعل من مصر موقعاً حيوياً في الاستراتيجية الروسية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
مصر، وفق المصادر الديبلوماسية الروسية نفسها، تشكل حالياً إحدى أهم الركائز في السياسة الخارجية الروسية تلي في مراتب الأهمية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، انما تسبق الدول الخليجية العربية.
فموسكو تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية مركزية لها في إطار التحالفات الإقليمية – الدولية، ووفق الديبلوماسية الروسية إن العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقة استراتيجية بعيدة المدى. نقطة على السطر. أي، بغض النظر عما إذا تحكّم الملالي المعتدلون بإيران أو الملالي المتشددون و»الحرس الثوري»، فموسكو تعتبر طهران أهم علاقة ثنائية لها في كامل الشرق الأوسط، أعجب ذلك عرب الخليج أو أغضبهم، تعايشوا معه أو عارضوه.
ما في ذهن الديبلوماسية الروسية يشمل – الى جانب الأولوية الحاسمة لطهران يليها علاقة استراتيجية مع مصر – تطوير الحوار مع السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى على أساس مفهومين أساسيين هما: أولاً، إن العلاقة الروسية – الإيرانية ثابتة واستراتيجية وتحالفية، انما ذلك لا يمنع من إقامة علاقات قابلة للتطوير بين روسيا والدول الخليجية العربية بغض النظر عن اختلافاتهم في شأن سورية. ثانياً، إن العلاقة الأميركية – الخليجية الآخذة في التراجع وانعدام الثقة تمثل نافذة على علاقات نوعية جديدة بين موسكو ودول خليجية.
بكلام آخر، إن في ذهن الديبلوماسية الروسية إحداث نقلة في العلاقات عبر بوابة تسليح الدول الخليجية. فموسكو تجد فائدة مشتركة في سوق السلاح، إذ انها قاعدة اقتصادية واستراتيجية لها وتشكل، من وجهة نظرها، وسيلة للدول الخليجية المستاءة من واشنطن لتقول لها أن لديها خياراً آخر.
إضافة الى ذلك، إن ما يريده الرئيس فلاديمير بوتين لروسيا يتعدى الفوز بسورية والذي هو بحد ذاته ذو منافع استراتيجية واقتصادية وسياسية له، ولعلاقاته التحالفية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولتعهده بالقضاء على الإرهاب السنّي بعيداً عن المدن الروسية. ما يريده بوتين هو تثبيت روسيا في خريطة الشرق الأوسط لاسيما أن الفرصة سانحة اليوم مع انحسار الاهتمام الأميركي بالمنطقة في عهد الرئيس باراك أوباما. فالديبلوماسية الروسية، كما يراها الرئيس بوتين، تنظر الى واشنطن باستمرار من منظور الحرب الباردة بغض النظر إن كانت العلاقات معها اليوم علاقات شراكة فعلية في سورية.
الديبلوماسية الروسية لا ترى في سياساتها أية مغامرة أو أي إحراج، مهما تعاظمت الكلفة الإنسانية في سورية أو تزايد الكلام عن تورط في مستنقع أو في استنزاف في معركة طويلة الأمد مع «داعش» و «القاعدة» وأمثالهما. أكثر ما ستقدمه لدول مجلس التعاون الخليجي هو غض النظر عما يحدث في اليمن بلا تدخل مباشر لمصلحة الموقف الإيراني هناك. أما سورية، فإن الخطوط العسكرية والسياسية واضحة وستبلغها الديبلوماسية الروسية الى الديبلوماسية العربية في المنتدى في موسكو. فعسى أن يتوجه الوزراء العرب الى اللقاء بالوضوح والصراحة، بغض النظر إن كان خيارهم المواجهة الجدية أو التأقلم مع ما فرضته روسيا عبر تدخلها عسكرياً في الساحة السورية كأمر واقع استراتيجي أهدافه بعيدة المدى بأولويات إيرانية.