عبد الرحمن الراشد: ماذا جرى منذ اغتيال الحريري/سامي عطاالله: انتخاب الرئيس ليس الحل/الياس الديري: خطاب البيال والرهان على الحريري

246

ماذا جرى منذ اغتيال الحريري؟
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/17 شباط/16
لماذا تمر السنوات الإحدى عشرة أكثر حزنا على غياب رفيق الحريري، الذي قتله نظام الأسد؟ لأن القتلة نجحوا ليس فقط في التخلص من رئيس وزراء لبنان الأسبق وأحد أهم زعاماته، بل نجحوا في هدم مشروع لبنان الجديد، وأفشلوا مسعاه إلى إخراج البلاد من حالة الحرب الأهلية، التي وإن توقف رصاصها بقيت مهيمنة على الساحة، تعطل التطور والانتقال إلى عالم جديد. الأسد، وحلفاؤه، قاموا بتصفية الحريري فعطلوا مشروع المصالحة والبناء والتعمير، بعد أن فشلوا قبل ذلك في اعتراضه وتخريبه بالدعاية المضللة التحريضية ضده. كان طموح الراحل أن تتحول بلاده إلى قبلة المستثمرين، ومحل ثقة المؤسسات الدولية، وجعل كل الفئات اللبنانية تشعر أنها شريكة في البناء ولها مصلحة فيه، وليست فقط تتنافس فيما بينها على المقاعد النيابية والحكومية. حتى خصمه حزب الله، ذهب إليه الحريري وعرض عليه أن يكون طرفا في تطوير مناطق نفوذه وتغيير حالة الإنسان اللبناني الذي لم يعد له مصدر رزق إلا أن يهاجر إلى خارج بلده. كان يعتقد أن حزب الله وبقية المعارضين سيجدون في مشروعه مكاسب لهم، ولأتباعهم، ويكونون جزءا إيجابيًا، لا طرفا سلبيا يتمسك بالسلاح وسيلة للحصول على حصته. أقنع كبار شخصيات المهجر اللبناني، والحكومات في السعودية والخليج ومصر وأوروبا والولايات المتحدة وروسيا، وطار إلى إيران عدة مرات أيضا لطمأنتها ودعوتها. ووجد ترحيبا من معظم هذه الشخصيات والحكومات والصناديق الدولية. وظهرت ملامح نجاح مشروعه على الأرض، حتى قرر الأسد التخلص منه، رغم أن الحريري وافق على التنحي وترك منصب رئاسة الحكومة، ورغم أنه أيضا رضخ للتمديد، ظلما وعدوانا للرئيس إميل لحود، مع هذا اغتالوه.
قتله السوريون والإيرانيون ووكلاؤهم، ليس فقط للتخلص من شخص الحريري السياسي، بل للتخلص من مشروع الحريري الكبير، وإبقاء لبنان دولة تابعة تحت السيطرة، منشغلة بالخلافات الهامشية، وجبهة مفتوحة مع إسرائيل لحلب اللبنانيين دوليا، وحتى لا يفتح الأسد جبهة الجولان، واستغلال لبنان ضمن مشروع المساومة الإيرانية. فمنذ يوم اغتياله، واغتيال بقية القوى السياسية اللبنانية الوطنية المعتدلة، وحتى هذا اليوم توقف لبنان، توقف الإعمار، وتوقف الأمل والحلم. كان هذا هو الهدف وهذه هي النتيجة. لكن الجريمة ثمنها غال. ولو سألنا الرجل الذي أصدر أمر قتل رفيق الحريري ما الذي كسبه اليوم مما فعله بالأمس؟ هل هو سعيد لأنه أزاحه من دربه، أم نادم لأن دم الحريري جلب عليه كوارث متعددة؟ هل خسر لبنان وكسبت سوريا؟ القاتل، أو القتلة معروفون، الرئيس الأسد وحلفاؤه الغارقون اليوم في بركة الدم السورية. ولم تعد هناك حاجة إلى الجدل حول دورهم في تلك الجريمة، لأنهم، بعد ست سنوات من قتلهم الحريري ورفاقه، ارتكبوا ما هو أعظم بكثير، فقد قتلوا نحو نصف مليون سوري. هل يقول الأسد اليوم في سره، إنه لو استقبل من أمره ما استدبر، لما ارتكب جريمته بقتل الحريري؟ مع أن اغتيال الحريري جلب على الأسد كل المصائب الهائلة التي يعيشها اليوم، إنما مثله لا يستوعب دروس التاريخ، بدليل أنه كرر ارتكاب جرائمه في سوريا ودم ضحاياه في لبنان لم يجف بعد. وبدل أن يحاول استرضاء مواطنيه، في بدايات 2011، ويجرب الحلول المختلفة لاستيعاب احتجاجاتهم سارع إلى تهديدهم وقتلهم بالتالي، ثم عمد إلى ارتكاب مجازر جماعية هائلة. لا نحتاج إلى أن نفتح دماغ الأسد حتى نفهمه، فبصمته تتكرر مطبوعة في كل الجرائم. رأى أن أسهل طريقة لوقف مشروع الحريري، وبقية الزعامات اللبنانية المعتدلة التي لم تقبل إملاءاته هي بالتخلص منهم جميعا بالتصفيات الجسدية. ومع أن اللبنانيين يتذكرون بأسى، كل عام في مثل هذه الأيام، اغتيال زعيمهم الوطني المعتدل الحالم رفيق الحريري، إلا أنهم لم يستوعبوا أهمية أن يحيوا ذكراه بالعمل على إحياء مشروعه، توحيد اللبنانيين بالبناء والتغيير الإيجابي البعيد عن الطائفية.

انتخاب الرئيس ليس الحل
سامي عطاالله/النهار/16 شباط 2016
نعم، سمير جعجع فعلها. في 18 كانون الثاني 2016، أعاد ربط أواصر لطالما اعتقد الكثيرون أنها ستبقى مفككة الى الأبد، ورشّح لرئاسة الجمهورية ميشال عون، خصمه اللدود من حركة 8 آذار. من الواضح أن هذا ليس بالأمر السهل بالنسبة الى شخصين تقوم بينهما حرب ساخنة وباردة منذ ثلاثين عاماً.
سرعان ما تجنّد النقاد لتقويض هذا الاتفاق وتصوير آخر اجتماع بين الطرفين على أنه مصالحة ضمن الطائفة المسيحية المنقسمة في لبنان، آملين أن يعطوا هذا الحدث الذي روّج له كثيراً، معنىً يتجاوز النطاق السياسي. إلا أن الواقع يختلف كلياً. في الحقيقة، هذه صفقة سياسية بين شخصين يحتقر كل منهما الآخر كل الاحتقار ومع ذلك هما على استعداد لوضع العداء بينهما جانباً لمنع خصمهما الثالث، سليمان فرنجية، من الوصول الى سدّة الرئاسة. أتى الاتفاق بين عون وجعجع كردّ على صفقة سياسية منفصلة ومحرجة، حيث أعلن سعد الحريري دعمه ترشيح خصمه من 8 آذار لرئاسة الجمهورية في تشرين الثاني 2015. ووفقاً لبعض المصادر، من شأن هذه الصفقة أن تضع فرنجية في بعبدا والحريري في السراي الحكومية، مع قانون انتخابي يضمن ترسيخ التركيبة السياسية الحالية. على الرغم من خلافاتهما السياسية، هذان الرجلان قادران على التعامل معاً، كونهما ينتميان الى النسيج السياسي نفسه. فترشيح بعضهما البعض يعني القيام بالأعمال كالمعتاد (business as usual) مع ما يتضمنه ذلك من توزيع للمال والخدمات من غير إرساء أي عمليات إصلاحية. وبعد هذه الجولة الأخيرة من المساومات، تسبّب هؤلاء الأربعة ببعثرة ما تبقى من ما يعرف بانقسام 8 و 14 آذار مع تحويل الاهتمام الآن إلى كيفية قيام الأطراف بالاختيار بين المرشحين الرئيسيين. يبدو أولاً أن تأييد الحريري لترشيح فرنجية أتى نتيجة سوء تقدير للأمور، لأنه خسر في طريقه زميله المسيحي من 14 آذار. ثانياً، أصبح الضوء مسلطاً على “حزب الله” كي يكشف أخيراً عن نياته الحقيقية ويظهر ما إذا كان يريد حقا أن يكون عون رئيساً للبلاد. بعبارة أخرى، هل إن دعم حسن نصر الله للعماد عون حقيقي أو كان الحزب يراهن على عدم تبلور الظروف التي تجعل من عون رئيساً؟ ورداً على دعم جعجع للعماد عون، اعترض كلّ من نبيه بري ووليد جنبلاط على الاتفاق، على أمل أن يقطعا على عون الطريق الى بعبدا .
سواء توّجت هذه التحركات السياسية والتحركات المضادة منذ قيام الحريري بدعم فرنجية وقيام جعجع بدعم عون بملء الفراغ الرئاسي أم لا، يبقى أمران أساسيان: أولاً، الانقسامات السياسية التي حاكها السياسيون، والخطوط الحمراء التي رسموها، واستقطاب المجتمع خلال السنوات العشر الماضية، كلها أساسات تسمح لهم بالبقاء في السلطة بدلا من خدمة ناخبيهم أو خدمة لبنان بشكل عام. وعندما يتعلق الأمر بمصالحهم الخاصة، يصبح الزعماء السياسيون في لبنان من كل المشارب على استعداد لخرق الخطوط الحمر وتغيير خطابهم على النحو الذي يرونه مناسباً كي يحافظوا على وجودهم السياسي وازدهارهم المالي. هذه ليست بالظاهرة الجديدة، لكن لا بدّ من تذكير الناخبين الى أيّ مدى لا تأبه بهم النخبة السياسية التي تتخذ القرارات التي تتعارض ورواياتهم المعلنة ، فيبقى الناخبون في حيرة من أمرهم في أحسن الأحوال، أو يردّدون الخطاب الجديد كالببغاء في أسوأ الأحوال.
ثانياً، وجود رئيس للجمهورية لن يحل مشاكل لبنان السياسية والاقتصادية. إن مشاكل الحوكمة في لبنان بنيوية في أساسها، وهي متجذّرة الى حدّ لا يسمح لانتخابات رئاسية بإحداث تغيير حقيقي وجوهري. لذا فإن ملء الفراغ الرئاسي يرقى إلى استبدال قطعة من آلة معطوبة. في لبنان، الغرض الرئيسي من المناصب السياسية الثلاثة الأساسية، أي رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب، ورئاسة مجلس الوزراء، هو توزيع الموارد على زعماء الطوائف بدلاً من تلبية احتياجات الناس والمصلحة العامة. وبالتالي، فإن التنافس العنيف حول الرئاسة هو حول من سيأخذ حصة الأسد من المصادر الريعية باسم الطائفة المسيحية.
إن جعل الزعماء المسيحيين يختارون مرشحهم في إحدى أهم مؤسسات الدولة، بدلاً من أن يختاره زعماء غير مسيحيين، قد يرفع من معنويات المسيحيين من غير أن يحسّن من وضعهم فعلاً. فالأحزاب المسيحية تمارس الزبائنية والطائفية بقدر نظرائها الآخرين، مما يعني أنّ قادة الأحزاب سوف يخدمون مجموعة صغيرة من اتباعهم من خلال التعيينات والعقود مقابل ولائهم السياسي، وسيوظفون الخطاب الطائفي لحشد بقية ناخبيهم أثناء الانتخابات. فبدلاً من الإشادة بهذه المصالحة واعتبارها اتفاقية تاريخية من شأنها أن تعزز الوحدة المسيحية ومنع الزعماء السياسيين غير المسيحيين من تحديد الشخص الذي سيصل الى سدّة الرئاسة، لا بد من التساؤل الى أي حدّ سيسمح ذلك بمساعدة المسيحيين واللبنانيين بشكل عام. بغضّ النظر عما إذا كان الغرض من هذه الصفقة حصول جعجع على نصيبه من دعم التيار الوطني الحر له في المستقبل، أو اتفاق الطرفين على تقاسم موارد الدولة وفقاً لمعايير المحاصصة، يبدو واضحا أن الاتفاق بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر ليس بالصفقة المناسبة للمسيحي العادي.
أكثر من 26 عاماً مضت على قيام هذا النظام السياسي على مبدأ تقاسم الموارد الريعية بين أفراد النخبة السياسية، وقد شكّل مصدراً لاستقرار سياسي نسبي، لكن هذا النظام قد فشل فشلا ذريعاً في تأمين الخدمات العامة للمواطنين وتحسين معيشتهم. والسبب الأبرز هو غياب الحوافز التي تحض السياسيين على القيام بذلك. بعبارة أخرى، طالما استحال على الناخبين مساءلة السياسيين عن فشلهم في ضمان وتقديم خدمات افضل، من خلال آليات انتخابية وتنظيمية فعّالة، سيبقى هذا النظام يخدم فقط مصالح الطبقة السياسية. بالفعل، في نهاية المطاف يستوعب الناخبون التحالفات الجديدة التي تقيمهاالنخبة وخطاباتها، فيبقون مستقطبين حول اختلافات طائفية مركبة ومفبركة. وعند النظر إلى الصورة بشكل عام، لا بدّ من أن نؤكد، مرة أخرى، على أن النظام الطائفي ليس هو مصدر مشاكلنا. بل هو نظام حكم القلة الذي يختبئ وراء النظام الطائفي ويمأسسه لخدمة غايات النخبةالسياسية والمالية. فوراء كل الخطابات، تبقى العلاقات بين السياسيين وديّة نسبياً فيما تبقى مشلولة أو غائبة كلياً الهيكليات التي من المفترض أن تضمن قيام السياسيين بتمثيل ناخبيهم بشكل منصف وملائم. قد يعطي انتخاب الرئيس شعوراً بعودة الحياة إلى طبيعتها ولكن في نهاية المطاف، سيزداد وضعنا سوءاً مع تفاقم مشاكلنا وتراجع سبل عيشنا، فيما لا يشعر من هم في السلطة بأنهم ملزمون أو مسؤولون عن معالجتها، ناهيك عن تقديم الحسابات لنا.

خطاب البيال والرهان على الحريري
الياس الديري/النهار/17 شباط 2016
لا يحتاج الرئيس سعد الحريري الى تقديم، سواء في السياسة أو بالنسبة إلى التحالفات التي كثيراً ما تظهر كأوراق مرَّ عليها الخريف من غير أن يعيرها انتباهاً. ولا تفوت رئيس “تيار المستقبل” القضايا الأساسيّة التي يدرك سلفاً أنّها تنتظر على أحرّ من الجمر. وفي مختلف الساحات والحقول. وخصوصاً عند منعطف الفراغ الرئاسي، بل الفراغ الشامل الذي يزنِّر الدولة ويكربجها منذ عامين. يدرك الحريري جيداً ما ينتظره قبل أن يبدأ رحلته التفقديّة الطويلة. ولا يفوته لحظة أن اللبنانيّين ما زالوا يراهنون عليه، وينتظرون انعطاف التطوُّرات على صعيد المنطقة. خطاب “البيال” قوبل بالاستحسان والترحيب والتشجيع. لقد ظهر الحريري من خلاله بطلّة جديدة. وبأفكار جديدة. وبحوافز جديدة. مع حرصه على التمييز بين ما هو حاصل في الساحة السياسيّة، وما هو مطلوب أن يحصل، لتحقيق التوازن، وعودة المواثيق والاتفاقات. إلاّ أن سعد الحريري لا يفوته، وهو يتابع مجرى التطوّرات، كل ما خسره لبنان خلال زمن الفراغ والانفلاش والتسيّب. وما يتوق إليه اللبنانيّون. بل ما يتوقّعونه وينتظرونه منه، عند هذه المفارق العربيّة المتداخلة والمتنافرة. لا يغيب عن بال سعد الحريري وفكره حجم “المونة” الإيرانية في بعض المنطقة، وتحديداً العراق ولبنان، وبصورة خاصة سوريا، وكيف تدير حروبها ودواليب سياستها المحليّة والإقليميّة والدوليّة. وأحياناً بأسلوب الثلاث ورقات التي تجيدها وتتقن إدارتها، ما دام “حزب الله” يتولّى الجناح الأكثر دقّة وأهميّة في مواجهتها العسكريّة. أما بالنسبة إلى الفراغ الرئاسي – الفضيحة الكاملة الفصول والتفاصيل، فهو يعلم علم اليقين أن حلولها ليست في معراب، ولا في الرابية، ولا في البازنافال، ولا في باريس أو واشنطن. وهنا التركيز الذي يأمل كثيرون أن يوليه الرئيس الحريري للموضوع الرئاسي، إذ أن “مقر” العقدة الفراغية بكامل ملحقاتها هو لدى “حزب الله”، وفي أدراج مطابخه السياسيّة المتعدّدة الاختصاص. لا بدَّ من مواجهة الواقع السياسي بكل أفرقائه، من نافذين وعاديّين، وطرح الوضع اللبناني بكل شفافية، ودقة. ومن كل الجوانب. وبمنتهى الصراحة. صحيح أن “الحزب” ليس كل الحكاية. ولا كل الأسباب. إلاّ أنه الأقرب، والأفعل، والأكثر مونة لدى طهران ومزاجها وميولها. وهو الآن يمسك بالوضع الرئاسي، بل بالوضع اللبناني من كل جوانبه، بقوّة مدعّمة من داخل ومن خارج. وعند هذه الحقائق الأساسيّة قد يجد الرئيس الحريري أنه من مصلحة لبنان وكل الأفرقاء الانتقال إلى مرحلة التفاهم والتوافق على رئيس صالح وثقة، يليق بالجمهوريّة، ويكون عند حسن الظن.