جورج سمعان: جنيف 3 فرصة أمام المعارضة لتطوير سياستها/خيرالله خيرالله: وضع جديد في اليمن انطلاقا من عدن/غسان شربل: الانقلاب وغطاء جنيف

235

الانقلاب وغطاء جنيف
غسان شربل/الحياة/01 شباط/16

المأساة السورية غير مسبوقة. بضحاياها. وأشكال القتل فيها. وأمواج اللاجئين والمهجرين. وعدد المنخرطين فيها على جانبي الصراع. وتباين حساباتهم ولغاتهم. ومن يدري فقد تكشف الأيام أن المأساة السورية أشد هولاً وأهمية من المأساة التي عاشها العراق بدءاً من الغزو ووصولاً إلى اليوم. أشد أهمية في نتائجها الإقليمية والدولية معاً. يمكن الحديث عن صفحة جديدة في هذه المأساة فتحها الانقلاب الروسي المتمثل بالتدخل العسكري على الأرض السورية. يساعد التدخل هذا على فهم سلوك موسكو منذ اندلاع الحريق السوري بما في ذلك الاستخدام المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن. خدع فلاديمير بوتين من التقاهم على مدى سنوات وبحث معهم التطورات في سورية. خدعهم بجمل قصيرة غامضة وملتبسة وتتسع لتأويلات عدة. لم يخطر في بالهم أنه ينتظر ساعته ليسدد الضربة الكبرى. كان تصاعد الأخطار الوافدة من سورية فرصته السانحة. وكان وجود رئيس من قماشة باراك أوباما فرصته الذهبية. وفي اللحظة المناسبة اتخذ قرار التدخل في سورية. لا مبالغة في القول أن قرار روسيا التدخل عسكرياً في سورية هو من قماشة القرارات الكبرى والخطيرة التي تشمل أيضاً قرار جورج بوش بغزو العراق. جاء بوش متذرعاً بخطر النظام ومستنداً إلى معارضة يئست من قدرتها على إطاحته. وجاء بوتين متذرعاً بخطورة المعارضة ومستنداً إلى موافقة نظام لم يعد قادراً على حماية معاقله الأخيرة. جاء بوش لإسقاط نظام ورئيس وتغليب المعارضة وجاء بوتين لإسقاط المعارضة وإنقاذ نظام ورئيس.
استغل بوتين أهوال «داعش» والميول الانسحابية لأوباما لإطلاق انقلاب ذي أبعاد استراتيجية. وجه إلى المعارضة السورية ضربة مروعة. حرمها ليس فقط من أي رهان على إسقاط النظام بل أيضاً من الرهان على أي تفاوض معه من موقع قوة أو موقع مكافئ. ولم يرف جفن القيصر حين كشفت الصور أن طائراته تقصف المعتدلين أكثر مما تقصف «داعش» وأن لائحة القتلى المدنيين بفعل غاراتها تتزايد يومياً. لم يأت بوتين لخوض حرب طويلة مفتوحة. لا يريد أفغانستان جديدة ولا الفوز بلقب «الشيطان الأكبر» في العالم السني. وعليه أن يتذكر دائماً أن الروبل مريض وهو أضعف جنرالاته. لذلك كان لا بد من حماية الانقلاب وتنظيم عملية استثمار نتائجه. كان لا بد من غطاء من قماشة «جنيف 3». وهو غطاء صمم أزياءه الخصم الأول للمعارضة السورية و»داعش» سيرغي لافروف وتبنى الأزياء مساعده الساذج جون كيري وأوكلت إلى ستيفان دي ميستورا مهمة توفير ما يلزم للجنازة من طاولات وأزهار. يحتاج بوتين إلى الإيحاء بأنه ليس مجرد طائرة «سوخوي» تستكمل تدمير سورية. يحتاج إلى تقديم نفسه صانعاً للحلول. ولأن الحلول صعبة وبعيدة يحتاج على الأقل إلى غطاء لاستكمال مهمته. الغطاء نفسه يحتاجه أوباما الذي هرب من الشرق الأوسط قبل أن يحين موعد هروبه من البيت الأبيض. يحتاج أوباما إلى غطاء في هذه السنة الأخيرة عله ينسي الناس العبارات التي أوقعت المحتجين السوريين في الأمل حين راح يتحدث عن «ضرورة تنحي الرئيس الذي فقد شرعيته». سيدعي لاحقاً أنه رفض الخوض في المستنقع السوري وأنه قبل مغادرته شارك في وضع المأساة على سكة الحل.
واضح أن شروط التقدم نحو الحل ليست متاحة الآن وربما تحتاج إلى نهر جديد من الدم. لكن الغطاء حاجة ماسة. يكفي إطلاق العملية ولو تعذرت النتائج. إطلاق العملية في ظل موازين القوى الإقليمية يريح لاعبين إقليميين كطهران والميليشيات التابعة لها ما دام بقاء النظام مضموناً ولا بحث في مصير الرئيس. مجرد الجلوس تحت عباءة جنيف يعطي انطباعاً أن النظام مستعد للبحث عن حل ويُنسي العالم الصور الوافدة من مضايا وقوارب الموت. أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتكرر ما شهدته المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية على مدى سنوات وسنوات. أي الجلوس حول الطاولة والتقاط الصور فيما تستمر المأساة وعمليات فرض الأمر الواقع. العملية من أجل العملية ليست مفيدة في المقابل للدول التي تكتوي بأعباء اللاجئين كتركيا والأردن ولبنان. ليست مواتية أيضاً لدول دعمت فعلياً المعارضة السورية كالسعودية وقطر. في «جنيف 2» شرب النظام السوري السم وذهب إلى اللقاء مع قرار بعدم تقديم أي تنازل. في «جنيف 3» شربت المعارضة السورية السم وذهبت لاحتفال طويل مؤلم لا يتخطى عملية توفير غطاء للانقلاب الروسي على «جنيف 1» و»هيئة الحكم الانتقالي الكاملة الصلاحية» ومرجعية المفاوضات. إننا أمام مجرد محطة في رحلة طويلة مؤلمة.

 

«جنيف 3» فرصة أمام المعارضة لتطوير سياستها
جورج سمعان/الحياة/01 شباط/16

لم يكن أمام المعارضة السورية خيار غير الذهاب إلى جنيف. كانت ستضع نفسها في مواجهة المجتمع الدولي. وفي مواجهة رأي عام دولي واسع تتفاقم مخاوفه من تنامي الإرهاب وانتشاره. توسعت الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية. أكثر من نصف دول العالم يشارك في المواجهة. ولكن في المقابل لا يفتأ التنظيم يوسع دائرة عملياته وانتشارها عبر القارات، سواء تلك التي تنفذ بأوامر وتخطيط من قيادته في الرقة، أو تلك التي تشنها «ذئاب منفردة». وانعدام التوافق على استراتيجية واحدة بين كل المشاركين في الحرب على «دولة الخلافة»، وانعدام الرؤية الواحدة لما بعد القضاء عليها، ليسا السببين الوحيدين اللذين يمدان بعمر «داعش» ومثيلاته. ثمة عوامل وظروف كثيرة تعزز التنظيم وترفده بمؤيدين جدد أبرزها تعثر التسويات في المنطقة العربية، خصوصاً في العراق وسورية. من هنا إصرار الدول الكبرى، والتفاهم الروسي – الأميركي على وجوب الحل السياسي وإن بالقوة. تعب العالم من الحرب وتداعياتها التي راحت تغير في وجه أوروبا وترفع سواعد يمينها المتشدد، وتكاد تقوض بعض قوانينها الواحدة التي عملت لها طويلاً. وتفرض عليها أعباء اقتصادية لا طاقة لها على تحملها في ظل الأزمة الدولية الراهنة. فضلاً عما خلفته موجات المهاجرين واللاجئين من تحديات.
من المستحيل إذاً أن يسمح العالم باستمرار الأزمة بعدما تحولت ولادة متاعب ومصدر أخطار كبيرة. لذلك، لم تجد المعارضة مفراً من التوجه إلى جنيف لئلا تبدو الطرف الرافض الحل السياسي. علماً أنها كانت بين مطرقتين قاسيتين من الضغوط. من جهة ضغوط الإدارة الأميركية التي لم تفعل شيئاً طوال نحو خمس سنوات من عمر الأزمة. فالرئيس باراك أوباما لا يريد أن يفاوض غريمه فلاديمير بوتين أو يقايضه لرفع العقوبات بسبب أزمة أوكرانيا. وترك الصراع وحله على عاتق القوى الإقليمية. كما أنه يسعى إلى تمضية سنته الأخيرة في البيت الأبيض على وقع عملية ديبلوماسية تعفي قواته من توسيع انخراطها في الحرب على الإرهاب في سورية والعراق. مثلما يسعى إلى تبريد الصراع مع روسيا وتقطيع الوقت من دون أي تنازلات بانتظار خلفه. من هنا هذا الغضب الواسع لشركائه التقليديين في المنطقة على سياسته التهادنية حيال روسيا وإيران. فهما وحدهما المستفيدتان من غياب دوره الفاعل والحاسم، ومن انكفائه وعزوفه عن المواجهة، أقله في المدى المنظور، إذ لا يغيب عن حساب الدوائر الأميركية رهانها على عامل الوقت الكفيل بجر الدولتين إلى مستنقع يفاقم أزمتهما الاقتصادية ومتاعبهما السياسية الداخلية. وتواجه المعارضة من جهة أخرى ضغوط قاعدتها الشعبية والفصائل العسكرية التي ارتضت الوقوف معها في صف سياسي واحد للمرة الأولى في مؤتمر الرياض. ويصر هؤلاء على وجوب معالجة القضايا الإنسانية قبل أي بند آخر وإلا لا معنى للتفاوض. يصرون على وقف ضرب المدنيين، ورفع الحصار وسياسة التجويع، وإطلاق المعتقلين، خصوصاً النساء والأطفال… مثل هذه الإجراءات لا يمكن اعتباره شروطاً مسبقة، بل هي واجبات على الأطراف المتصارعة وعلى رأسها النظام نصت عليها القرارات الدولية، منذ بدء الأزمة وحتى القرار الأخير 2254، وهي مسؤولية مجلس الأمن. لكنّ ما يخفف من هذه الضغوط على «الائتلاف الوطني» وشركائه في المرحلة الأولى أن اجتماعات جنيف لا تشمل جلوس وفدهم بمواجهة وفد النظام. سيقتصر الأمر على محادثات مع المبعوث الدولي ستيفن دي ميستورا والفريق الدولي. ولكن إذا تعثرت مهمة الأمم المتحدة في فرض إجراءات ملموسة في الملف الإنساني، وإذا غاب التوافق على أجندة التفاوض ومآلاته، وإذا لم تتوحد القراءات المتناقضة للمرحلة المقبلة وصيغة الحكومة أو الهيئة الحاكمة وصلاحياتها ودور الرئيس بشار الأسد… فيخشى أن تنتهي جولة هذين الأسبوعين إلى فشل مدوٍّ، كما كانت الحال في اللقاءين الأول والثاني في جنيف. في أي حال لا تتوقع المعارضة الشيء الكثير من هذه الجولة، ما دام أن النظام ازداد إصراراً على الحل العسكري. إنه يشعر اليوم على وقع ما حقق له تدخل القوات الروسية بأنه يتقدم في جبهات عدة، ويمكنه أن يستعيد زمام المبادرة ويفرض على خصومه رؤيته للحل. إذا كان التوافق الدولي غائباً ومثله التفاهم الإقليمي فلماذا يتوقع المتفائلون توافقاً بين المتصارعين المحليين بعد أنهر الدم وتدمير المدن والدساكر وتهجير الملايين؟
يبقى أن التمهيد لمفاوضات غير مباشرة بين وفدين، بينهما مثل هذا الكم من العداء، هو أفضل السبل والمقدمات لتبريد الأجواء. لكن ذلك لا يعفي المعارضة عاجلاً أم آجلاً من اتخاذ موقف مقبول إقليمياً ودولياً لفضح النظام وأعوانه أولاً وأخيراً، إذ لا بد من تسوية في نهاية المطاف مهما عاند هذا النظام وأعوانه، أو زايد بعض القوى المتشددة في صفوف خصومه عموماً. عليها الاستماع إلى مناصريها في المجتمع الدولي والعمل لدفعهم إلى رفع مستوى انخراطهم وضغوطهم. فكثيرون منهم يتوقون إلى تغيير النظام، مهما كانت حدود هذا التغيير، نظراً إلى الظروف الحاضرة وتعقيداتها وتضارب المصالح بين اللاعبين الكبار. وسواء اقترب هدفهم مما يريده «الائتلاف» أم ابتعد، فالمساعي لتسوية سياسية لن تتوقف إذا انهارت الجولة الحالية في جنيف، وهي في الواقع تحمل بذور فشلها سلفاً لأن عناصر الحل لم تنضج بعد مع إصرار دمشق وحلفائها على كسر إرادة السوريين. ولن تخلو الأشهر الستة المقررة لها من مفاجآت قريبة وبعيدة. كما أن صورة سورية التي تريدها المعارضة قد لا تكون مطابقة لمرئيات القوى الدولية وتصورها. بالتأكيد لن تعود سورية القديمة. الأزمة المستمرة رسخت وترسخ واقعاً جديداً لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله. لن يعود النظام وأركانه إلى ما كانوا عليه قبل اندلاع الأزمة. سورية والعراق ولبنان أيضاً، ستذهب إلى أوضاع مختلفة. ولن يكون حظ بلاد الشام أفضل من حظ جارها الشرقي الذي يتجه بخطى سريعة وثابتة لترجمة ما نص عليه دستوره. لتقوم ثلاثة أقاليم حلاً لا بديل منه مع انسداد الأفق أمام أي صيغة، في ظل تعثر برنامج حكومة حيدر العبادي لإرضاء المحافظات السنّية التي ترفع الصوت اليوم كما كانت تفعل أيام الحكومة السابقة، مستنجدة بالمجتمع الدولي لحمايتها من عبث ميليشيات «الحشد الشعبي». كل ذلك وبلاد الرافدين على أبواب انهيار اقتصادي سيضاعف المشاكل والتعقيدات ويؤجج الصراعات المذهبية والإتنية… وأهل كردستان يعدون العدة لاستفتاء يأملون بأن يقودهم إلى الاستقلال. خطوة ستعزز الميل نحو مزيد من تقسيم ما قسمه السيدان سايكس وبيكو!
حضور المعارضة إلى جنيف خطوة لحشر النظام وتقديمه الطرف الرافض أي حل أو تغيير. لكن ذلك قد لا يكون كافياً. تتطلب المرحلة اعتماد مقاربات جديدة، بل استراتيجية مختلفة. لا بد من تصويب الكثير مما أعاق مسيرتها في السنوات الماضية. وسواء تواصلت المفاوضات أم انهارت، يجب أن تعزز وحدتها وتستدرج مزيداً من القوى إليها. ولا يكفي أن تعول على الدعم المادي والعسكري والتسليحي الذي تقدمه قوى إقليمية معروفة. عليها أن تترجم ملاقاة أهل الإقليم والمجتمع الدولي في هواجسه ومخاوفه من تنامي الإرهاب، إذ يخشى أن تستدرج «دولة الخلافة»، في ظل هذا الاستعصاء السياسي وانسداد الأفق، أعداداً من اليائسين الذين كفروا بالدعم الخارجي وشح المساعدات العسكرية الوازنة. يعرف «الائتلاف الوطني» أن ما تحقق له في مؤتمر الرياض من توسيع المشاركة السياسية والعسكرية قد يتبدد على وقع المساعي الروسية وغيرها لشق صفوفه بعدما كسب تأييداً واسعاً وبات طرفاً لا يمكن تجاوزه. فماذا مثلاً لو تقدمت «هيئة التنسيق» أو أطراف أخرى نحو الدور الروسي؟ وماذا لو أغرت القوات الروسية بعض الفصائل المقاتلة بالتنسيق وبدور في المرحلة المقبلة؟ من الأجدى أن يسعى «الائتلاف» إلى توسيع دائرة الواقفين إلى جانبه. فلماذا يترك مصر مثلاً، على رغم أثقالها الأمنية في مواجهة الإرهاب في الداخل؟ لماذا يدعها تحصر تعاملها مع فئة بعينها من المعارضة ليس لها وزنها الفعلي على الأرض؟ لماذا لا ينخرط معها في حوار، مهما كان صعباً، لتوازن على الأقل علاقاتها بين المعارضة ودمشق؟ لا تزال القاهرة تمثل ثقلاً سياسياً بمواجهة إيران وغيرها في موازين الإقليم، مثلما تمثل بعلاقاتها مع الكبار، خصوصاً موسكو، عاملاً مساعداً. أبعد من ذلك، لماذا لا يشن «الائتلاف» حملة تبدد بعض مخاوف روسيا المتكررة من التجربة الليبية؟ وإذا كان يرى إلى تدخلها احتلالاً وعدواناً ويعبر عن خيبة أمله من موقف الولايات المتحدة وفريق كبير من «الأصدقاء» الغربيين، فلماذا لا يسعى إلى مراكمة علاقاته الخارجية مهما ضعفت؟ العلاقات مع الخارج تكاد تكون العنصر الأساس في أي ميزان للقوى. وتعزيزها يساعده على رفض ما لا يرتأيه في مصلحة بلاده ومستقبلها، وفرض التغيير المطلوب والمقبول، بدل أن يظل ضحية صراع الكبار وتفاهماتهم. أليس مفيداً تخلي بعض قواه عن خطابات التهديد والوعيد بـ «ذبح» كل المعتدين والمحتلين، أقله من أجل طمأنة الرأي العام الغربي الذي يرتعد من صور «الذبح الداعشي»؟ ألا يدرك «الائتلاف الوطني» اليوم أنه تأخر في إيجاد حد أدنى من التفاهم مع «حزب الاتحاد الديموقراطي». كان دفعه ربما إلى الابتعاد وإن قليلاً عن النظام على أن يترك مستقبل المنطقة الكردية إلى مرحلة لاحقة، حتى وإن أدى ذلك إلى منحهم ما يشبه الإقليم في إطار فيديرالية تبدو الحل الوحيد المتاح، ما دام العراق يتجه إلى ثلاثة أقاليم. فلا يعقل اليوم ألا يشارك صالح مسلم زعيم الحزب في المفاوضات الجارية في جنيف، أياً كانت مواقفه.

وضع جديد في اليمن… انطلاقا من عدن
خيرالله خيرالله/العرب/01 شباط/16
مرّة أخرى استهدف إرهاب “داعش” الشرعية اليمنية في عدن. جاء ذلك في وقت تسعى هذه الشرعية إلى تثبيت نفسها بعدما عاد نائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء خالد بحاح إلى عاصمة الجنوب من أجل العمل على إعادة الحياة والأمن إلى المدينة، وقبل ذلك إلى حكومته، تلك الحكومة التي عدّلها الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي من دون موافقته. أخيرا حصلت مصالحة بين الرئيس الانتقالي ونائبه، وبات عليهما مواجهة وضع جديد انطلاقا من عدن. شكّلت عودة بحاح إلى عدن تطورا في غاية الإيجابية، خصوصا أنّه عقد لقاء مع عبدربّه منصور في المدينة بهدف التنسيق الثنائي والسعي إلى طي صفحة التجاذبات التي سادت في الأشهر القليلة الماضية، والتي عطّلت العمل الحكومي وجعلت الشرعية تبدو وكأنّها شرعيتان. جاء التفجير الذي استهدف حاجزا عند مدخل الطريق المؤدي إلى منطقة المعاشيق، حيث القصر الرئاسي، والذي أدّى إلى مقتل نحو سبعة عناصر من الجيش الحكومي المعاد تشكيله حديثا، للتذكير بحجم التحدّيات التي تواجه اليمن. إنّها تحديات كبيرة جدا خصوصا في ظلّ الجهود التي بذلها التحالف العربي من أجل منع وضع اليد الإيرانية على البلد. من يتذكّر أن “أنصار الله” كانوا في الأمس القريب في عدن، وأنّهم كانوا يحتلون المدينة كلّها بما في ذلك منطقة المعاشيق التي ليس صعبا تأمين الحماية لها بسبب طبيعتها.
كان تحرير عدن من الحوثيين في يوليو الماضي نقطة تحوّل. ما لا يمكن تجاهله أنّه قبل ذلك بسنة تماما، في يوليو 2014، كان الحوثيون يزحفون في اتجاه صنعاء. وقد بدأ زحفهم بالسيطرة على محافظة عمران وعلى المدينة التي تحمل الاسم نفسه، ثم بإخراج آل الأحمر، زعماء حاشد، من بيوتهم وقراهم في تلك المحافظة تمهيدا للاستيلاء على مقر اللواء 310 والآليات التي في حوزته. كان هذا اللواء مع آلياته، التي عددها نحو ثمانين، أحد أهمّ الألوية التابعة للجيش اليمني. جاءت سيطرة الحوثيين على مدينة عمران، التي لا تبعد أكثر من خمسين كيلومترا عن صنعاء، تطوّرا في غاية الأهمية على الصعيد اليمني، بل منعطفا تاريخيا في هذا البلد المهمّ بسبب موقعه الاستراتيجي أوّلا، وحضارته القديمة وثقله السكّاني ثانيا وأخيرا.
قبل كلّ شيء، أثبت الحوثيون عندما سيطروا على عمران، تمهيدا لدخول صنعاء في سبتمبر 2014، أنّهم باتوا قوّة عسكرية قادرة على هزيمة الجيش اليمني. أتى التحالف العربي ليقلب هذه المعادلة ابتداء من أواخر مارس الماضي وليضع الأمور في نصابها. بعد معركة عمران، صيف 2014، ثم دخول الحوثيين صنعاء وصولا إلى عدن، لم يعد من شكّ بأنّه بات على القوى الإقليمية، على رأسها المملكة العربية السعودية التي لديها حدود طويلة مع اليمن، أن تأخذ في الاعتبار أنّ إيران صارت موجودة في هذا البلد أكثر من أي وقت. لم تخف طهران ذلك. أكثر من مسؤول إيراني سارع إلى الحديث، وقتذاك، عن أن طهران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وأنها تتحكم بالملاحة في البحر الأحمر نظرا إلى وجودها في مضيق باب المندب اليمني. تكرّس، وقتذاك، الوجود الإيراني في كلّ اليمن، عبر الحوثيين، في ظلّ نظام ضعيف وحكومة عاجزة حتّى عن معالجة أي جانب من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي يمرّ بها البلد.
لم يعد مسموحا الآن، بعد استعادة الشرعية لعدن ولكل المحافظات الجنوبية في اليمن باستمرار التجاذبات السياسية. على العكس من ذلك، ثمة ضرورة للعمل على الانتقال إلى مرحلة جديدة تقوم على نقطتيْن. تتمثل النقطة الأولى في إيجاد فريق عمل سياسي جدي يجعل من عدن نقطة انطلاق في اتجاه بسط الشرعية في اليمن كلّه، مع الأخذ في الاعتبار أن اليمن الذي عرفناه صار جزءا من الماضي. هذا يعني أن لا مفرّ من البحث عن صيغة جديدة للبلد الذي يمكن أن يتحوّل إلى بلدان أو أقاليم عدة، ربّما في إطار فيديرالي. أما النقطة الثانية التي هي أيضا في غاية الأهمّية، فإنها تتمثل في متابعة الحرب على الإرهاب بدءا بضبط الأمن في عدن. كان الهجوم الذي شنّه “داعش” على الحاجز العسكري الذي يساعد في حماية الطريق إلى المعاشيق بمثابة تأكيد لوجود فوضى أمنية في المدينة. لا مفرّ من الاعتراف بأن “داعش” و”القاعدة” موجودان في مناطق عدة في الجنوب اليمني، في عدن ومحيطها، وفي شبوة وأبين وحضرموت خصوصا، وهما استفادا كثيرا من التغييرات التي طرأت على المجتمع الجنوبي في صيف العام 1994 عندما انهزم الحزب الاشتراكي في الحرب، وعندما اجتاحت عدن ميليشيات تابعة في معظمها لتنظيم الإخوان المسلمين بفروعه وأشكاله وأقنعته المتعددة.
لا شكّ أن هناك حاجة ملحة إلى التفكير بقيادة جديدة للشرعية في اليمن تتمثل فيها كل المناطق، خصوصا الوسط والشمال. ليس مطلوبا الاستغناء عن عبدربّه منصور وخالد بحاح، وهما من أبين وحضرموت، بمقدار ما أن المطلوب توسيع قاعدة الشرعية بغية تحقيق اختراقات سياسية في تعز وصنعاء وكلّ المحافظات التي في الشمال والوسط، من البيضاء وأب وذمار وصنعاء والحديدة، وصولا إلى حجة وعمران وصعدة. قدّم التحالف العربي الذي أقدم على “عاصفة الحزم” الكثير لليمن في المجالين العسكري والإنساني، كذلك قدّم الكثير من التضحيات في المواجهة مع الحوثيين الذين تحالفوا مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح، عدوهم في ست حروب خاضوها معه بين 2004 و2010. سقط شهداء من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين في عدن ومأرب، دفاعا عن الشرعية في اليمن، لكنّ ما لا مفر من الاعتراف به أن على اليمنيين تحمّل مسؤولياتهم في معالجة وضع في غاية التعقيد.
من الآن يصلح طرح الأسئلة المتعلقة بالحاجة إلى تحقيق اختراقات في تعز وعدن سياسيا وعسكريا، ربّما سياسيا أوّلا، وإلى البحث في الصيغة الجديدة لليمن. من القادر على تحمّل مسؤوليات المرحلة المقبلة التي تلي الضربة التي وجهها التحالف العربي إلى المشروع الإيراني في اليمن؟ صحيح أنّه لا يمكن إلا الترحيب بالتقارب بين الرئيس الانتقالي ونائبه، لكنّ الصحيح أيضا أن هذا التقارب يحتاج إلى عناصر أخرى تساعد في استكمال ما تحقّق على يد التحالف العربي من جهة، وخوض مواجهة ناجحة مع الإرهاب الذي يطل برأسه في عدن وغير عدن كلّ يوم من جهة أخرى.