وليد شقير: تأخير التطبيع الأميركي الإيراني/حسام عيتاني: العنف في سورية ولبنان/صادق عبد الرحمن: في فشل الوحدة السوريّة

253

في فشل الوحدة السوريّة، وضرورة قيامِ اتحادٍ سوريّ
صادق عبد الرحمن/الجمهورية/13 تشرين الأول/15
تنشأ الدولة عن الحرب، وتزول جرّاء الحرب أيضاً، والحرب ليست صراعاً مسلحاً فحسب، بل هي صراع خطاباتٍ ومناهج تفكيرٍ وإرادات. والدولة يمكن أن تكون دولةً وطنية، ويمكن أن تكون شيئاً آخر، كالدولة السورية التي لم تكن دولةً وطنيةً يومَ ثارت عليها شرائح من السوريين قبل نحو أربعة أعوام ونصف، ذلك بصرف النظر عن إصرار النظام الحاكم وأنصاره ومنظّريه على خلاف ذلك. قامت الدولة السورية في النصف الأول من القرن المنصرم، وكان قيامها حصيلة معارك وصراع إراداتٍ ورؤىً محلية وإقليمية ودولية، وكان يُفترض بها وفق خطاب آبائها الأوائل أن تكون دولةً وطنية، وهي قامت على أسسٍ عديدة أبرزها المركزية والعروبة واحترام قيم الإٍسلام وشرائعه.
انتهى المطافُ بتلك الدولة إلى ما نراه اليوم من حربٍ طاحنة، وتدميرٍ وتهجيرٍ وحملات إبادةٍ وخطاب كراهية. وعندي أن الدولة السورية قامت على أسسٍ واهية أصلاً، وأنها على الرغم من ذلك كانت تحمل في ذاتها عناصر بقاءٍ وطنية، أسّس لها كفاح السوريين ضد الانتداب الفرنسي ومشاريعِ التقسيم والفدرلة التي كانت مطروحةً في عهده، إلا أنه لم يتمّ الاشتغال عليها على أسسٍ وطنية راسخةٍ بُعَيدَ الاستقلال، وتمَّ الاشتغال بالضد معها منذ أحكم الأسد الأب قبضته على البلاد، ثم تمَّ تحطيم هذه العناصر في عهد الأسد الابن، ربما إلى غير رجعة في السنوات الأخيرة.
ولكن أياً يكن الأمر، ومهما كان التحليل لأسبابِ ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، فإن ما بُنِيَ عليه مشروع الدولة الوطنية السورية المُتَعثر في النصف الأول من القرن العشرين، لم يعد صالحاً الآن للتأسيس عليه، وإذا ما قُدِّرَ للكيان السوري البقاء بعد هذه المقتلة، فإن بقاءه سيقوم على أسسٍ جديدة غير تلك التي عرفها السوريون في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم.
على أن ما تنبغي الإشارة إليه أولاً، وما ينبغي أن يكون حاضراً في الذهن دائماً، أن ما يميز الدولة الوطنية عن غيرها من أنماطِ الدول، أنها دولةُ مواطنين، دولةٌ يتساوى سكانها في الحقوق والواجبات، وأنها بافتقاد هذا العنصر تصير شيئاً آخر غير الدولة الوطنية. وأن الدولة الوطنية هي الخيار الذي أَنحازُ له من بين أنماط الدول التي أسّسها البشر عبر تاريخ اجتماعهم السياسي، وهي نمط الاجتماع السياسي السائد اليوم، إذ يمكن القول إن أغلب دول العالم دولٌ وطنية، أو أنها تنحو باتجاه أن تصير دولاً وطنيةً مكتملة من خلال الاشتغال الطويل والدؤوب على مشتركاتٍ وأسسٍ وإجماعاتٍ وطنية، هذا الاشتغال الذي كان متردداً ومرتبكاً في العقود الأولى من عمر الدولة السورية، ومتوقفاً تماماً في العقود الأخيرة.
«إجماعاتٌ» غير صالحة
لا تصلح فكرة القومية العربية لتكون جامعاً يتم تأسيس الدولة الوطنية السورية عليه، لأن عهد الصعود القومي العربي قد أَفل، ولأن عروبة البعث قد فشلت بعد أن أحكمَ دُعاتها قبضتهم على حياة السكان عقوداً. فضلاً عن أن القومية العربية بنسختها البعثية تعدّ من أبرز المسؤولين عن ما آلت إليها الأوضاع في البلاد الآن، وعن أنها لم يعد يمكن أن تكون جامعاً صالحاً، لا لجميع السكان فحسب، بل ولا حتى لأغلبهم أيضاً كما كان عليه الحال بُعيد الاستقلال.
على أن عدم صلاحية العروبة لتكون إحدى الإجماعات الوطنية السورية، لا يتأتى فقط من وجود الأكراد في شمال البلاد وشمالها الشرقي كما يحاول كثيرون القول، بل لأن الهوية الوطنية لا تقوم على ما يجمع السكان فحسب، بل على ما يميزهم عن سواهم أيضاً، والقومية العربية تلغي حدود الكيان الوطني السوري، وتعتبره كياناً مؤقتاً ينبغي أن يزول. دعونا نتذكر أن الرئيس الأول بعد الاستقلال كان يحلم أن يرتفع علم الدولة العربية فوق العلم السوري، وأن العيد السوري لم يكن عيداً للاستقلال، بل كان عيداً لجلاء القوات الأجنبية، أما الاستقلال فهو ما ينبغي الخلاص منه بالوحدة العربية.
الهوية الوطنية لا تقوم على ما يجمع السكان فحسب، بل على ما يميزهم عن سواهم أيضاً.
لا يعني ما تقدم إقصاءَ العروبة عن الثقافة الوطنية السورية، أو أن العروبة لا يمكن أن يكون لها مكانٌ في أي دولةٍ وطنية سورية، بل واقع الحال أن الروابط بين السوريين ومحيطهم العربي لا يمكن أن تنقطع، وهي روابط معقدةٌ ذات صلة بقرابة الدم وأنماط التديّن واللغة والثقافة، كما أن العروبة تجمع كثيراً من شرائح السوريين مع بعضهم بعضاً، لكنها لا تشكل رابطةً وطنية عامة، ولا تصلح أن تكون الركن الأساس والعامل الحاسم في بناء وطنيةٍ سورية.
لا يصلح الإسلام ركناً أساسياً في بناء وطنيةٍ سورية أيضاً، ذلك أولاً لأن الإسلام ليس واحداً في سوريا، والإسلام المطروح بوصفه إسلاماً سورياً هو الإسلام السنيّ، الذي يقع خارجه بحكم الولادة العلويون والمسيحيون والشيعة والدروز والإسماعيليون وغيرهم من المنحدرين من طوائف قليلة العدد، وتبلغ نسبة هذه الفئات ما لا يقلّ عن ثلاثين بالمئة من السكان، وهذا يعني أول ما يعني قهر هؤلاء وإرغامهم على الامتثال لقيمٍ دينيةٍ ولِدوا خارجها ونَشَأوا على الإيمان بغيرها أصلاً، ويعني من ثم تأسيس دولةٍ لا يستوي سكانها في الحقوق والواجبات. ذلك فضلاً عن أن طروحات الدولة الإسلامية السورية تنبني على القول بأن أغلب سكانها من المسلمين السنة، وفي هذا الافتراض ما يلغي تمايزات الأفراد والمجتمعات المحلية، ويؤسّس لحكم استبدادي.
أيضاً، لا يعني ما تقدم أن إقصاء الإسلام من حياة السوريين شرطٌ لبناء إجماعٍ وطني، ولا حتى إقصاء الإسلام السياسي، أولاً لأن هذا غير ممكن، ويتطلب ممارسة عنفٍ بربريٍ لن يفضي إلى بناء دولة وطنية، وثانياً لأن الإسلام دين أغلب السوريين فعلاً، ولأن الالتزام بقيمه ومقتضياته خيار شرائح واسعةٍ من السوريين، وفي محاولة إرغامهم على التخلي عنه نزعةٌ فاشيةٌ لن تفضي سوى إلى المزيد من الحروب والأحقاد والمظلومية.
لقد قامت الدولة السورية على أساسٍ من المركزية، ومركزية الدولة لم تكن في سوريا مجرد خيارٍ إداريٍ، بل كانت محطَّ إجماعٍ عامٍ له حوامله الإيدولوجية والتاريخية، حوامل ذات صلةٍ بحقيقة أن الكفاح لأجل خروج القوات الفرنسية وخلاص السوريين من الانتداب، ترافقَ مع الكفاح ضد مشروع الدولة الاتحادية السورية الذي أقرّه الفرنسيون عام 1922، ثم ضد تقسيم سوريا إلى دولٍ مستقلةٍ لاحقاً. وجاءت مشاريع الفدرلة والتقسيم تلك في سياقِ تفتيت الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى لمشروع الدولة العربية الموحدة المستقلة الذي كان يسعى إليه الهاشميون، ليكون الإصرار على مركزية سوريا دفاعاً عما يمكن الدفاع عنه من هذا المشروع، ورداً على مشاريع التقسيم الغربية.
كان ولا يزال الحديث عن التقسيم واللامركزية والدولة الاتحادية مرفوضاً في السياسة والثقافة والفكر السياسي السوري، وقبل أن يكون رفضه مدعوماً ببطش الأجهزة الأمنية، فهو مدعومٌ برفض الأغلبية الساحقة من نُخَب السوريين الموالية والمعارضة والثائرة، ولا يزال من يدعو إلى طروحاتٍ كهذه مُتهماً بالعمالة لدولٍ غربية تريد مواصلة مشاريعها التفتيتية.
أياً يكن الأمر، فإن الدولة المركزية السورية لم يعد ممكناً أن تكون دولةً وطنية.
ولكن أياً يكن الأمر، فإن الدولة المركزية السورية لم يعد ممكناً أن تكون دولةً وطنية، اليوم وقد اصطفَّ السوريون في تشكيلاتٍ مسلحة ذات طابعٍ محليٍ أو طابعٍ غير وطني، وأصبحت لديهم مجالس إدارية وقضائية وتشريعية محلية، وتباعدت أنماط حياتهم أكثر فأكثر، وأصبحت علاقتهم ببعضهم تشوبها العدائية والكراهية المتبادلة والتشكك، ولا يقتصر هذا على العلاقة بين أنصار النظام وخصومه، ولا على العلاقة بين المنحدرين من طوائف وقومياتٍ مختلفة.
تبدو العودة إلى دولةٍ مركزيةٍ سوريةٍ أمراً شبه مستحيلٍ اليوم، وهي -بافتراض إمكانيتها- تتطلب قيام دولة محاصصةٍ بين أمراء الحرب والجماعات التي يمثلونها على غرار الدولة اللبنانية التي أنتجها اتفاق الطائف، أو قوةً عسكريةً منظمةً ومسلحةً جيداً، وطليقة اليد في ممارسة العنف، أو مزيجاً من كليهما معاً. وهي العناصر التي لا يمكن تصوّر توافرها من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنها ستفضي إلى تأسيس شيءٍ آخر غير الدولة الوطنية، إلى تأسيس دولةٍ مخيفةٍ لا تقل بشاعةً عن دولة الأسد.
فكرةُ الاتحادية السورية
ما الذي يمكن أن يُجمِعَ عليه السوريون اليوم، سوى الرغبة العاطفية لدى أغلبهم في الحفاظ على وحدة البلاد، والرغبة في البقاء على قيد الحياة؟ لا شيء آخر، لا يُجمِعُ السوريون على نمط اجتماعٍ سياسي، ولا على هويةٍ للدولة، ولا على طبيعةِ
نظام حكمها، ولا على تحالفاتها وموقعها على الصعيد الدولي، ولا على نمط الحياة ومصادر التشريع. لا يُجمِع السوريين على شيءٌ سوى أنهم لا يرغبون في الموت، ويرغبون أن تصبح حياتهم أفضل، لكن رؤاهم حول كيفية إيقاف الموت ودفع الحياة إلى الأمام متعددةٌ ومتناقضة إلى حدّ الرغبة في القتل والسحل والإبادة.
لكنَّ بعضَ التدقيق في مآلات الصراع ومساراته يشير إلى فكرةٍ أخرى ربما تكون جامعةً، وهي العلاقة المضطربة بالدولة، بأجهزتها ومركزها وتسلُّطها. لا يحب السوريون الدولة، ولا يثقون بها، ولديهم نزعةٌ محليةٌ واضحةٌ تجلَّت في المناطق التي ثارت على النظام بشكلٍ لا مجال لتجاهله. ثمة نزعةٌ واضحةٌ عند عموم السوريين لإدارة حياتهم بشكل ذاتي، ورغبةٌ في بناء مؤسسات محلية الطابع، وفي التخلص من هيمنة المراكز على الأطراف، وهذا لا ينطبق على خصوم النظام والثائرين عليه فقط، بل حتى على أغلب أنصاره الذين تُظهِر الأحداث أن ولاءهم للدولة المركزية في دمشق، له علاقةٌ بقدرتها على حمايتهم من خطر السوريين الآخرين المُفترض، وليس بأيّ اعتبارٍ آخر.
لا يُجمِع السوريين على شيءٌ سوى أنهم لا يرغبون في الموت، ويرغبون أن تصبح حياتهم أفضل، لكن رؤاهم حول كيفية إيقاف الموت ودفع الحياة إلى الأمام متعددةٌ ومتناقضة إلى حدّ الرغبة في القتل والسحل والإبادة.
يمكن أن يؤسّس ما سبق لقيام دولةٍ سورية جديدة، يَجمع سكانها الاعترافُ المتبادل لبعضهم بعضاً بالحقّ في إدارة شؤونهم الذاتية، وفي العيش وفق أنماط حياة ومصادر تشريعٍ محلية. إنها فكرة الدولة اللامركزية المرفوضة جملةً وتفصيلاً عند أغلب النُخب السورية، فكرة الفدرلة، وهو المصطلح الذي يثير السخط والغضب، وكأن الداعين إليه أعداءٌ لسوريا والسوريين.
فلندع مصطلح الفدرلة إذن جانباً، ونذهبَ إلى التفكير في تقسيم البلاد إلى مقاطعاتٍ تدير شؤونها ذاتياً، وتُنتَخبُ فيها مجالس تشريعية وهيئاتٌ إداريةٌ محلية، ويتولى ضبط الأمن وتطبيق القانون فيها أجهزة شرطية محلية. ويتم الدخول في نقاشٍ عامٍ طويلٍ خلال فترةٍ من وقف النار حول الصلاحيات والسلطات التي ستُعطَى للدولة المركزية، وحول تنظيم الجيش وصلاحياته وتركيبته، وحول آليات تنظيم التبادل الاقتصادي بين المقاطعات، والموازنات المحلية، والموازنة العامة للدولة، وتنظيم العلاقة بين الأجهزة القضائية والتشريعية والتنفيذية في المقاطعات. وحول ضوابط وخطوط عريضة عامة يتفق عليها الجميع، ويتم إدراجها في دستورٍ شاملٍ للبلاد كلها، تكون فيه الإدارة الذاتية مبدأً رئيساً لا مجال لتعديله إلا بثورة، ثورةٍ ستقع ذات يومٍ مضيءٍ أو مظلمٍ، لا فرق، لأنه ليس ثمة دولةٌ تستمر إلى الأبد، لا دولة الأسد ولا غيرها.
تلك ستكون دولةً اتحادية، وإذا كان السيناريو المُقدَّم أعلاه يبدو ضرباً من الخيال اليوم، وهو فوقَ ذلك مشروطٌ بلا شك باستسلام الجهاديين العابرين للحدود، واستسلام الأسديين الراغبين في إحكام قبضتهم على البلاد كلّها بأي ثمن، غير أنه على ما فيه من شطحاتٍ يبدو أقرب إلى التصوّر من العودة إلى دولةٍ مركزيةٍ هادئة ومستقرة، وأقرب إلى التصور من تقسيم البلاد إلى دولٍ مستقلة. وأقربَ إلى إنجاز الهدف الذي من أجله يثور الناس ويحملون السلاح ويخوضون الصراعات، أعني الانتقال إلى حياةٍ أفضل. وأقربَ أيضاً إلى فكرة الدولة الوطنية، لأنه يحقق أكبر قدرٍ ممكن من تساوي السكان في الحقوق والواجبات.
عن «إرادتنا» والإرادات الدولية والإقليمية
يبدو السوريون مستلبي الإرادة اليوم، ولا شأن لهم بتقرير مصائرهم ومصير بلدهم، لكن هذا ليس صحيحاً تماماً من جهة، كما أنه ليس جديداً من جهةٍ أخرى، وليس وليد سنوات الثورة والحرب. وعلى أي حالٍ فإن النقاش حول حصة السوريين من القرارات المتعلقة بمصائرهم، هو نقاشٌ طويلٌ للمقال فيه مقامٌ آخر، لكن مما لا شكّ فيه أن سكان هذه البلاد ليسوا أسياد قرارهم، وأن ما يمكن فعله إزاء هذه الحقيقة هو البحث عن كيفية استعادتهم لأكبر قدرٍ ممكن من قرارهم الذاتي. إذا كان واضحاً أن السوريين لن يتمكنوا ببساطةٍ أن يصبحوا أسياد قرارهم حول موقعهم في التحالفات والمحاور الإقليمية والدولية، وذلك لأسبابٍ شتى من أبرزها خلافاتهم العميقة حول الموقف من هذه المحاور والتحالفات، فإن ما يمكن العمل على استعادته والدفاع عنه، حقهم في إدارة شؤونهم الحياتية اليومية، واختيار أنماط الحياة والتشريع والإدارة التي يريدون العيش في ظلها، وهو ما يمكن أن تكون الإدارات المحلية الذاتية الطريق الوحيد إليه.
مما لا شكّ فيه أن سكان هذه البلاد ليسوا أسياد قرارهم، وأن ما يمكن فعله إزاء هذه الحقيقة هو البحث عن كيفية استعادتهم لأكبر قدرٍ ممكن من قرارهم الذاتي.
ليس صحيحاً تماماً أن الدول العظمى ستجتمع ذات يومٍ مع الدول الإقليمية الفاعلة لتقرير مصائرنا، وأن ما تقرره هو ما سيحصل. بل الصحيح إن هذا سيحدث في النهاية، وأن ما سيتخذونه من قرارات وما سيعقدونه من تفاهمات، سيكون مُتأثراً حتماً بنسبٍ متفاوتةٍ بما ننتجه نحن من بنىً سياسية واجتماعية، وما نريده نحن من أنماط حياة، وما ننجزه نحن من أفكارٍ وطروحات. يتبنى هذا النص وجهة نظرٍ ملخصها أن الفكرة الاتحادية تبدو أصلح للحياة في بلادنا من فكرة الدولة المركزية، وأن البحث فيها وطرحها بشكلٍ جديٍ وعلى نطاقٍ واسع، يمكن أن يؤسِّس لأنماط اجتماعٍ سياسيٍ أصلحَ للمشرق العربي بعد انتهاء الحرب، كما أنه يمكن أن يُسهم في حال نضوجه في إيقافها ذات يوم.
خاتمة، ودعوةٌ إلى نقاشٍ مفتوح
صحيحٌ أن قيام الدولة السورية لم يكن بإرادة السوريين، بل كان حصيلة تفاهماتِ ما بعد الحرب العالمية الأولى. لكن الصحيح أيضاً أن خيارات الدولة المركزية والعروبة كانت خيارات نُخِب السوريين، ويفخر الخطاب السياسي السوري بأن الدولة المركزية بديلاً عن الاتحاد السوري كانت حصيلة كفاح السوريين ضد خيارات الانتداب الفرنسي. يعني ما تقدم أن لإرادتنا مكانٌ يمكن انتزاعه وسط هذه الحرب الأممية الرهيبة التي تدور رحاها على أرض السوريين وفي سمائهم، وإذا كانت الوحدة السورية قد فشلت فشلاً ذريعاً، فإن اتحاداً سورياً قد يكون بديلاً جيداً وقابلاً للحياة، بل لعلّه الحلّ الوحيد المتاح بدل تقسيم سوريا وتالياً سائر المشرق إلى دولٍ طائفية، أو بدل حرب طاحنةٍ تستمر عقوداً في هذه البلاد.

العنف في سورية ولبنان
حسام عيتاني/الحياة/16 تشرين الأول/15
بعد انتقادات وجهها كتاب ومثقفون لبنانيون لمظاهر من العنف مارسها متظاهرون مشاركون في الحراك المدني الجاري، ظَهَر من اتهمهم بالنفاق بأنهم أيدوا وشجعوا العنف في الثورة والحرب في سورية لكنهم يدينونه في لبنان.وفي مضبطة الاتهام أن المحذرين أفرطوا في التهويل من أخطار تجدد الحرب الأهلية مسقطين على الواقع الحالي، ليس فقط ذاكرتهم المرضوضة بالحرب، بل ايضاً فشلهم في تبؤّ أي موقع خلالها وبعدها، او تحقيق اي من رؤاهم لخواتيمها، فجمعوا الفشل الشخصي والسياسي والثقافي.
الأمر ليس كذلك.
عودة يسيرة الى مقالات وكتابات من حذّروا في بدايات الثورة السورية من زرع بذور العنف في الحراك اللبناني، نجد ان هؤلاء – جميعاً – كانوا من اشد الحريصين على سلمية الثورة السورية. وأنهم ندّدوا بالقتل الوحشي الذي مارسته اجهزة النظام السوري منذ الأيام الأولى من الثورة في آذار (مارس) 2011.
تستدعي هذه الحقيقة البسيطة عودة إلى الوثائق والوقائع معاً. في الوقائع أن من اتهم الكتاب الرافضين لنزعة العنف في الحراك، لم يرَ كيف دفع بشار الأسد وأنصاره الثورة، عن سابق تصور وتصميم، إلى العنف، وأن حمل المعارضين السوريين لنظامه على اعتماد القوة والعنف وسيلتين للتخاطب لم يكن خياراً من خيارات الثورة بل من الدروب التي دُفعت اليها بهدف جرها الى الساحة التي يحسن النظام اللعب فيها والتي يفلح عليها في تفجير تناقضات السوريين ويحول دون تشكيلهم بديلاً وطنياً عنه من خلال اللعب على الأوتار الطائفية والجهوية والإثنية. وقد نجح. في الوثائق، أي الأرشيف الذي باتت شبكات المعلومات توفر دخولاً سهلاً إليه، أن منتقدي العنف في لبنان كانوا قد ندّدوا به في سورية وحذّروا من المآلات التي يفتحها الانخراط في عنف عام سيكون للنظام فيه اليد العليا وسيربط الثورة بمنطق الحرب واقتصادها والخضوع لمصالح من يُسلّح ويُموّل. النفاق وعدم الاتساق وازدواجية المعايير تظهر اذاً عند المتهمين وليس عند المُحذّرين. فعندما يتمسّك كاتب أو صحافي لبناني بتأييد الثورة السورية حتى في طورها المسلح ورغم دخولها في أنفاق مظلمة، تكون العبرة من ذلك أن تأييد حق الشعب السوري في اختيار مصيره ونظامه وشكل السلطة فيه واستعادة كرامته التي يدوسها نظام البعث منذ أكثر من خمسين سنة، لا يتغيّر بتغيّر الأسلوب الذي يسعى هذا الشعب بواسطته إلى تحقيق هذا الهدف. الاعتراض على العنف ينبغي ان يكون موجهاً الى الجانب الذي استدخل العنف الى الثورة السلمية في المقام الأول. أما القول إن ثمة تهويلاً في التحذير من خطر انفجار العنف في لبنان وما شاكل، فيعكس ضلالة التصور أن الوضع في لبنان استقل عن تبعيته للوضع الإقليمي وأن في الوسع عزل الحراك المدني الحالي عن السياسة بما هي – في لبنان – تقاسم الطوائف للغنيمة. وهذا تقاسم يأخذ في احيان شكل التوافق وفي احيان اخرى شكل الحرب الأهلية وهو دائماً مغطى برضى او تحريض خارجيين. وإذا كان الشباب هم من يقودون هذا الحراك، الا ان ذلك لا ينفي تفرق هؤلاء على طبقات وأنواع. وقد تجد أشدهم حماساً للعنف أكثرهم استعداداً للهروب من البلد عند اندلاع النار فيه، وترك أصحابه الذين شدّ همتهم بكلامه في أتون الحرب وتنّورها. وهذا سلوك لبناني اصيل، لا صراع اجيال فيه ولا حوله.

تأخير التطبيع الأميركي الإيراني
وليد شقير/الحياة/16 تشرين الأول/15
اكتشفت كل من واشنطن وطهران صعوبة الإسراع في تطبيع العلاقات بينهما بالتزامن مع إزالة العراقيل من أمام إقرار الاتفاق على النووي في كل من الكونغرس الأميركي وفي البرلمان الإيراني ومجلس الشورى، على رغم الصخب الذي رافق هذه العملية التي كان العالم ينتظر تفاعلاتها في كل من الدولتين، لأن هناك فريقاً في كل منهما يعارض الاتفاق ويعتبره مجحفاً في حق بلده. ومع أن المتحفظين عن الاتفاق، أميركياً وإيرانياً، يرون أنه جاء لمصلحة الخصم، أكثر مما جاء في مصلحة بلدهم، فالواضع أن طهران قدمت تنازلات تتعلق بقدراتها العسكرية والصاروخية، إضافة إلى تلك المتعلقة ببرنامجها النووي وبامتيازات التفتيش الدولي لمنشآتها النووية المباغتة ولو بإجازة دولية، فضلاً عن تفتيش بعض منشآتها العسكرية المعنية بإنتاج الصواريخ الباليستية. وهذا ما يفسّر ردّ فعل بعض المتشددين الإيرانيين وصولاً الى تهديد أحد النواب أثناء تصويت الأكثرية لمصلحة الاتفاق، بقتل وزير الخارجية محمد جواد ظريف.
لكن الواضح أيضاً أن أثمان تمرير إقرار الاتفاق في كل من العاصمتين لا تقل في مفاعيلها أهمية عن التغييرات الجيوسياسية التي كان الجميع ينتظرها بعد الاتفاق نفسه على العلاقات الأميركية الإيرانية، وعلى التفاوض في شأن الأزمات الإقليمية. أول أثمان تمرير الاتفاق في الجانب الأميركي هو هذه الإجازة المفتوحة التي حصلت عليها إسرائيل لمواصلة عملية تهويد القدس، عبر الاعتداء على المسجد الأقصى وتنفيذ مشروع اقتطاع جزء منه، واباحة اعتداءات المستوطنين وهدم المنازل وتغيير الخريطة الديموغرافية للمدينة في خطة لا يأبه بنيامين نتانياهو بأن تتحول حرباً دينية كما حذّر الرئيس الفلسطيني محمود عباس. إنه ثمن للوبي الإسرائيلي الفاعل في كتلة النواب الديموقراطيين قبل الجمهوريين. فعدم اكتراث إدارة باراك أوباما بما تقوم به إسرائيل ساهم في تطمين نواب حزبه الى أن دعم بلاده لها لن يتأثر نتيجة الاتفاق مع إيران على النووي، ما عدل في تصويت بعض هؤلاء لمصلحته وحال دون حصول الجمهوريين على الأكثرية المطلوبة لمنع إقرار الاتفاق. ومع أن محيط أوباما يعد بموقف يحقق التوازن في الأشهر المقبلة يقضي باعتراف افتراضي بالدولة الفلسطينية، فإن غض النظر عن فرض الإسرائيليين أمراً واقعاً جديداً سينقل الوضع الفلسطيني الى مستوى جديد من الممانعة تجاه عمليات القهر والإذلال ويغذي التطرّف الجديد الذي سيَنبتُ من رحم العجز الدولي عن أي حل سلمي، ويسبق هذه الخطوة بأشواط ويرفد التهاب الساحات العربية الأخرى بمزيد من العنف. وإذا كان أحد أثمان إقرار الاتفاق محاولة واشنطن طمأنة المتوجّسين فيها إلى أن طهران لن تستفيد منه لمواصلة توسعها الإقليمي، عبر دعم حلفائها الخليجيين في مواجهة هذا التوسع، لا سيما في اليمن، فإن لهذا أيضاً ثمناً في المقلب الإيراني. فالاستنتاج أن الدول العربية والخليجية مأزومة وفي مأزق بعد الاتفاق على النووي ونتيجة انتقال الخصومة بين حليفها الأميركي وإيران الى حالة من التطبيع في مرحلة ما بعد الاتفاق، ينطبق على إيران نفسها أيضاً. وهي باتت مأزومة أكثر لأن خصومها الخليجيين ما زالوا يرفضون التفاوض معها على نفوذها ودورها في المنطقة في وقت أخذت تتهيأ لقطف ثمار الاستثمار الذي قامت به على مدى سنوات، في التدخل الإقليمي والتمدد الأمني والسياسي. وهي كانت تأمل بأن تأتي واشنطن بالدول الخليجية الى طاولة التفاوض معها. وهو ما لا يبدو أنه حاصل على رغم سعي الديبلوماسية الأميركية الى حل سياسي في اليمن، لكن بعد إحراز حلفائها العرب تقدماً على الأرض يكرس التراجع الإيراني. الأثمان التي تدفعها إيران لا تقف عند هذه الحدود، فصورتها كنصير لفلسطين في وجه الجموح الإسرائيلي تتعرض للتآكل نتيجة تراجع اهتمامها بالقضية لمصلحة تدخلها في سورية وغيرها، وبسبب حاجتها الى العودة للانخراط في المجتمع الدولي الذي كانت ترذله لانحيازه الى إسرائيل. وإطالة أمد الاستنزاف الذي تتعرض له في سورية بعد التدخل الروسي في بلاد الشام سيبقي على دورها الميداني فيها لأن الحملة العسكرية الروسية الجوية، مثل الحملة الأميركية، لن تقضي على «داعش» إلا إذا اقترنت بعمليات ميدانية على الأرض. ولا يبدو أن هناك غير القوات الإيرانية و «حزب الله» للقيام بالمهمة، خلافاً للمراهنة على أن ما بعد النووي سيعزز فرص الحل السياسي السوري. ولعل التدخل الروسي في سورية هو أحد تداعيات النووي، إذ إن موسكو تستبق التطبيع الإيراني – الأميركي حتى لا تستبعدها المساومات والصفقات. الخبراء في العلاقة مع إيران في واشنطن يتوقعون أن تطول المرحلة التي تسبق تطبيع العلاقة بين العاصمتين وصولاً الى استبعاد حصول تقدم قبل العهد الرئاسي الجديد في واشنطن. في الانتظار ما نشهده هو مرحلة أثمان تمرير الاتفاق. وهي لا تحصى.